العمل العسكري الفلسطيني في ميزان الانتفاضة
بقلم ممدوح نوفل في 20/08/2001
بعد تنفيذ الجناح العسكري في حركة حماس عملية “الدولفينريوم” في تل أبيب، مطلع حزيران/يونيو الماضي، التقى ابوعمار رئيس السلطة الوطنية، بممثلي القوى الوطنية والإسلامية “قيادة الانتفاضة” في رام الله، وكان ضمنهم ممثلين لحركة حماس والجهاد الإسلامي. ولخص أبوعمار للمجتمعين نتائج الحركة السياسية التي أجرتها القيادة الفلسطينية لإحباط ضربة عسكرية واسعة ومدمرة قرر شارون توجيهها ضد السلطة الفلسطينية، وكانت تتضمن اقتحام مدن بيت جالا وجنين وطولكرم وقلقيلية وإنهاء وجود السلطة فيها وترحيل كوادرها إلى قطاع غزة، وقصف مقار القيادة ومراكز الأجهزة الأمنية في المدن الأخرى، بالطائرات والدبابات والمدافع الثقيلة. يومها لم يتطرق ابوعمار للمعلومات التي تلقاها من مصادر متعددة حول استهدافه شخصيا، واكتفى بالقول: جميعنا مستهدفون ولا يستطيع الإنسان الهروب من قدره. وختم حديثه بتلاوة الآية من القرآن “وقل لن يصيبكم إلا ما كتب الله لكم”.
وشكك أبوعمار، في نجاح الجهود الإقليمية والدولية في تعطيل الهجوم المبيت، وقال: شارون يبحث عن ذريعة لتنفيذ برنامجه ودفن عملية السلام والهروب من دفع استحقاقات الاتفاقات التي تم التوصل إليها مع من سبقوه، والراعي الأمريكي صامت بانتظار انهيار الصمود الفلسطيني. وأكد رفضه الخضوع للابتزاز الدولي والإرهاب الإسرائيلي، وقال: قدر الشعب الفلسطيني التصدي للعدوان، وواجب سلطته وقواه الوطنية الدفاع، نيابة عن الأمتين العربية والإسلامية، عن الأرض والمقدسات الإسلامية والمسيحية بكل السبل والوسائل المتاحة. ورغم تشديده على ضرورة رفع اليقظة والحذر في مواجهة سياسة الاغتيالات الإسرائيلية، إلا أنه رفض بشدة توفير مقر قيادة بديل للمقر الرسمي الذي يقيم فيه والمعروف للجميع، وتلا الآية القرآنية: “وقل لن يصيبكم إلا ما كتب الله لكم”.
في الاجتماع ذاته، تحدث قادة الفصائل والقوى الوطنية والإسلامية “قيادة الانتفاضة” وأشادوا جميعا بدور أبوعمار وحرصه على الوحدة الوطنية، وصموده في الظروف الصعبة والمعقدة في وجه الضغوط الإسرائيلية والدولية والإقليمية. وأبدى ممثلو الفصائل الوطنية والإسلامية، وضمنهم ممثل حركة حماس، تفهما كاملا لقرار وقف إطلاق النار الذي أعلنه أبو عمار مطلع حزيران الماضي بحضور وزير الخارجية الألمانية “يوشكا فيشر” وممثل الأمين العام للأمم المتحدة “تري لارسن”. وتحدث بعض الحضور بصراحة حول الخسائر السياسية التي ألحقتها عملية “الدولفينريوم” بالموقف الفلسطيني في الحقلين الدولي والإقليمي وفي العلاقة مع قوى السلام في إسرائيل. وعددوا صنوف الخسائر التي تلحقها العمليات العسكرية ضد المدنيين الإسرائيليين، بالانتفاضة والسلطة وبالمصالح العليا للشعب الفلسطيني.
وشدد أصحاب هذا الرأي على أهمية حشد الطاقات الوطنية وتركيز الجهود نحو تفعيل الانتفاضة السلمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، وتنويع وتصعيد فعالياتها الجماهيرية ضد جيش الاحتلال وركيزته الأساسية المستوطنين، باعتبارهم يمثلون أرقى أشكال الإرهاب، ووجودهم غير شرعي في نظر قوى دولية كثيرة وبعض من الإسرائيليين.
وخرج جميع قادة القوى الوطنية من ذاك الاجتماع مصممون على الدفاع عن المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية، والتصدي بقوة وبالإمكانات المتاحة للجيش والمستوطنين. والصمود في المواقع وإطالة أمد المعركة أطول فترة ممكنة في حال اقتحام المناطق المأهولة بالسكان. ولم يتحفظ أحد من ممثلي القوى على وقف العمليات ضد أهداف مدنية في إسرائيل.
وجاءت التطورات السياسية والميدانية اللاحقة على عملية “الدولفينريوم” وأكدت نجاح الحركة السياسية الفلسطينية الواقعية في امتصاص اندفاعة شارون الهوجاء، وعطلت توجيه ضربة قوية للسلطة الفلسطينية وقيادتها ومؤسساتها. وفشل بيريز في تشكيل جبهة دولية موحدة ضد السلطة الفلسطينية تحت شعار “مقاومة الإرهاب الفلسطيني”. وفشل شارون في إقناع الإدارة الأمريكية وزعماء الدول الأوروبية بان عرفات وسلطته هم “منبع الإرهاب ومنظموه” ومنفذوه. وفهم شارون أن حلفاء إسرائيل وأصدقاءها يعتبرون؛ عرفات شخصيا، ومؤسسات السلطة الفلسطينية، وإعادة احتلال المناطق المصنفة ( أ ) في الاتفاقات، ثلاثة خطوط حمر يصعب على إسرائيل تجاوزها، وتجاوزها دون مبرر مقنع قد يقود إلى تدويل النزاع.
إلى ذلك، جاءت العمليات “الانتحارية” التي نفذت في إسرائيل في شهري تموز/يوليو الماضي وآب/ أوغسطس الجاري، ( مطعم سبارو في القدس ومطعم في كريات موتسكين)، وأكدت عدم التزام بعض القوى الوطنية الفلسطينية بما اتفق عليه بعد عملية الدلولفينريوم. وتبين تصريحات قادة حركة حماس والجهاد الإسلامي وفصائل فلسطينية أخرى انهم ماضون بذات التوجه، أي العمل ضد أهداف مدنية داخل إسرائيل، وأنهم بصدد تنفيذ عمليات “انتحارية” مشابهة لعمليتي “الدولفينريوم وسبارو” انتقاما للشهداء. ويعتقدون أن الانتفاضة السلمية وحدها لا توقف حرب التصفيات والاغتيالات التي قررها شارون ضد قادة القوى الوطنية والإسلامية. وان العمليات العسكرية وخصوصا “الانتحارية” ضد الإسرائيليين، مدنيين وعسكريين، ضرورة لا غنى عنها لإثبات فشل شارون وحكومته في توفير الأمن للإسرائيليين، وللرد على حرب “العصابات” التي قررها الثلاثي شارون وبن اليعازر وموفاز ضد نشطاء الانتفاضة وكوادر السلطة و”التنظيم”.
لا شك في ان تباين مواقف القوى الوطنية ورؤاها السياسية والتنظيمية والفكرية مسألة طبيعية وظاهرة صحية تماما. وبديهي القول ان الحوار والنقاش الداخلي، مهما تعمق وطال، لن يحقق إجماع وطني “سلطة ومعارضة” حولها. ولكن، إذا كان الإجماع حول هذه القضايا مستحيلا، ناهيك عن كونه ليس مطلوبا، فالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تتطلب، في هذا الظرف الدقيق والحساس، توصل هذه القوى بالحد الأدنى” إلى تفاهم إستراتيجي، أو “مرحلي مشترك” إذا تعذر الاستراتيجي، حول أساليب النضال وأشكال مقاومة الاحتلال في زمن الانتفاضة. وبديهي القول إن التزام الجميع بما يتم الاتفاق عليه مسألة لا تقل أهمية عن التفاهم ذاته. وأرى أن مفهوم العمل العسكري في مرحلة الانتفاضة وخصوصا العمليات “الانتحارية” ضد أهداف مدنية داخل إسرائيل يسقط فيها نساء ورجال وأطفال أبرياء، يأتي في مقدمة المسائل التي يجب مناقشتها بعمق ومسئولية وطنية عالية بدون إرهاب فكري وبعيدا عن المزاودات الحزبية.
في هذا السياق، اعتقد أن استهداف المدنيين الإسرائيليين داخل المدن الإسرائيلية يعرض المصالح الوطنية العليا لأخطار حقيقية، ويلحق أذى بالغا بحركة النضال الوطني الفلسطيني وخصوصا فضح ممارسات الاحتلال وإدامة الانتفاضة وتصعيدها. ناهيك عن عسكرة الانتفاضة، وتحويل النضال الوطني المشروع في نظر العالم إلى إرهاب، وتحويله في الساحة الفلسطينية إلى أعمال وبطولات فردية، تدفع الناس إلى موقع المتفرج على ما يجري، وانتظار ظهور أحد الأبطال في الميدان. صحيح ان العمليات العسكرية أثبتت فشل شارون في توفير الأمن الفردي والجماعي الذي وعد الإسرائيليين به، لكن وضعه في ميزان الانتفاضة يبين الوجه الآخر ويظهر سلبياته الكثيرة على الانتفاضة ونضال الشعب الفلسطيني العادل، واثبات فشل شارون يمكن بلوغه بطرق كثيرة أخرى. وإذا كان شارون وأركانه لا يتورعون عن قتل أطفال ونساء وشيوخ فلسطين، فصورة استشهاد الطفل “محمد الدرة” في حضن والده هزت الضمير العالمي، وألحقت بإسرائيل خسائر سياسية ومعنوية كبيرة لم تلحقها العمليات الانتحارية السابقة ولا جميع العمليات اللاحقة. وبإمكان أي باحث في العمل العسكري الفلسطيني في زمن الانتفاضة تسجيل ملاحظات كثيرة منها:
أولا/ تبين بيانات وخطاب القوى الوطنية ولإسلامية، سلطة ومعارضة، أنها متفقة على أن المهمة الوطنية الرئيسية المباشرة للشعب الفلسطيني داخل وخارج الأراضي الفلسطينية تتجسد في حشد الطاقات الوطنية لتحرير الأراضي الفلسطينية التي احتلت في العام 1967، وطرد الاحتلال منها، وإنهاء الوجود الاستيطاني فيها، وإقامة الدولة الفلسطينية عليها. وأظن أن الاتفاق على هذا الهدف المقدس يفرض تركيز النشاط الفلسطيني في ميدان الصراع الرئيسي، أي في حدود الضفة وقطاع غزة، وتوجيهه في الوقت المناسب نحو الهدف المباشر. وفي هذا الإطار يمكن إدراج العمل الفلسطيني خارج هذا الميدان (الضفة والقطاع) تحت بند تشتيت الجهود، وتصنيفه شكلا من أشكال هدر الطاقات الوطنية الثمينة في مكانها غير الصحيح.
ثانيا/ يفترض ألا يكون خلاف فلسطيني حول ان المصالح الوطنية العليا، وخصوصا إدامة الانتفاضة حتى تحقيق أهدافها يتطلب؛ العمل ليل نهار لتفعيل دور الحلفاء وتوسيع جبهة الأصدقاء، وتقليص جبهة الخصوم والأعداء وتحييد ما يمكن تحيده منهم. وبصرف النظر عن القناعة الذاتية لهذا الطرف الفلسطيني أو ذاك، فان وقائع الحياة أكدت ان مردود العمليات العسكرية ضد أهداف مدنية في إسرائيل تسفر عن قتل مدنيين إسرائيليين، مردود عكسي وسلبي في تحقيق هذه المهمة الوطنية المركزية. وبينت وقائع الصراع في الحقل الدولي ان هذا النمط من العمليات يلقى على كاهل السلطة الفلسطينية أعباء ثقيلة في حقل العمل السياسي والدبلوماسي، ويسهل على القيادة الإسرائيلية تغطية جرائمها اليومية ضد الشعب الفلسطيني أرضا وشعبا وممتلكات. وقدمت لها ذريعة لشن مزيد الهجمات وتبرير توسيع رقعتها، وساعدت شارون على التهرب من تنفيذ الالتزامات الناجمة عن تفاهمات واتفاقات رعتها جهات وقوى دولية. وتسهل على الحكومة الإسرائيلية يمينها ويسارها ترويج أقوال من نوع: “السلطة الفلسطينية وقيادتها ضالعة في الإرهاب وتشجعه”، و”عرفات يسيطر على الوضع لكنه لا يوفي بالتزاماته وتعهداته ويستخدم العنف وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية”، أو “السلطة ضعيفة ولا تسيطر على الوضع وإسرائيل مجبرة على أخذ أمر حماية مواطنيها بيدها”،..الخ من الأقوال التحريضية. وبصرف النظر عن دقة الأسباب التي دفعت قيادة الجناح العسكري في حركة حماس إلى تجميد العمليات الخاصة بعد عملية الدولفينريوم وطيلة شهري حزيران وتموز الماضيين، فالواضح ان استدراج حماس لمتابعة عملياتها الانتحارية كان من ضمن الأهداف التي توخى شارون تحقيقها بإصداره الأوامر باغتيال قائدي حماس في مدينة نابلس.
ثالثا/ بديهي القول ان العمليات ضد أهداف مدنية إسرائيلية تشل قدرة أنصار السلام في إسرائيل على التأثير في المجتمع الإسرائيلي وفي العمل لإضعاف قوى اليمين المتطرف. وتوفر المناخ المناسب والأرض الخصبة لنمو الأفكار المتطرفة في الشارع الإسرائيلي، وتعزز مواقف ومواقع رموزها في المؤسسة السياسية والأمنية والعسكرية. والعمليات داخل إسرائيل تشعر المواطن الإسرائيلي أنه مستهدف وقد يكون ضحية عملية قادمة، وتدفعه للبحث عن سبل حماية الذات. وتدفع جميع فئات المجتمع نحو مساندة كل أنواع الأعمال الحربية ضد الفلسطينيين، خصوصا التي تقدم لهم على أنها نفذت لحمايتهم وللدفاع عن وجودهم. وتعزز أطروحة المستوطنين انهم خط الدفاع الأول عن المدن والقرى الإسرائيلية.
لا شك ان لدى من يعارض هذا الرأي ما يقوله، ومن حق وواجب أصحاب الرأي الآخر طرح مواقفهم داخل وخارج الأطر النضالية الفلسطينية المشتركة. وأظن أن التهرب من بحث العمل العسكري في مرحلة الانتفاضة، أو تأجيله، وعدم التوصل إلى تفاهم مشترك ملزم للجميع، يتسبب في الظرف الراهن بتصدع الوحدة الوطنية القائمة في إطار الانتفاضة، ويزعزع أوليات الثقة المتبادلة التي تشكلت بين السلطة والمعارضة.
وفي جميع الأحوال يجب وضع المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني فوق كل اعتبار آخر، والالتزام أيضا بمقولة “لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة والمقاومة السلمية”.