هل رفعت إدارة بوش الغطاء عن السلطة وقيادة منظمة التحرير؟
بقلم ممدوح نوفل في 01/09/2001
ظهر يوم 27 آب الماضي اغتالت القوات الجوية الإسرائيلية أمين عام الجبهة الشعبية، “ابو علي مصطفى”، في مكتبة في مدينة البيرة، وبعد دقائق معدودة من جريمتها قدمت للعالم قائمة طويلة بعمليات عسكرية ادعت انه أشرف على تخطيطها وتنفيذها.. وفجر اليوم التالي نفذت الدبابات والطائرات عملية “سلامة جيلو”، وشنت هجوما واسعا، استمر اكثر من 48 ساعة، ضد بيت جالا ومخيم عايدة المجاور لها. وقبل ذلك بأيام، كررت القوات الإسرائيلية في الخليل ما فعلته في جنين، ودخلت قواتها حي ابو سنينة ونسفت عددا من المنازل ثم انسحبت. وقبلها اغتالت عددا من ضباط أجهزة الأمن الفلسطينية وكوادر الانتفاضة، ضمنهم عضوين قياديين في حركة حماس. واحتلت بيت الشرق والمؤسسات الفلسطينية في مدينة ابوديس. وقصفت بطائرات اف 15 واف 16 مقري قيادة الشرطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة.. الخ من أعمال عدوانية كبيرة وصغيرة أخرى، ألحقت بالشعب الفلسطيني خسائر بشرية واقتصادية بعضها لا يعوض. وطرحت أسئلة كبيرة على النظام السياسي الفلسطيني أهمها؛ هل رفعت الإدارة الأمريكية الغطاء عن السلطة وقيادة م ت ف ؟ وسمحت لإسرائيل بتجاوز الخطوط التي رسمتها سابقا في وجه إسرائيل لمنع تحول الصراع إلى حرب عسكرية شاملة بين أجهزة الأمن الفلسطينية والجيش الإسرائيلي ؟
بغض النظر عن الدوافع والأسباب التي قدمها قادة الجيش الإسرائيلي للرأي العام الإسرائيلي وفي جلسات لجان الكنيست بشأن اغتيال القائد “ابوعلي مصطفى” عضو اللجنة التنفيذية سابقا، والمبررات التي يسوّقها بيريز وأركان حكومة شارون في صفوف الرأي العام العالمي بِان الاغتيالات واختراق مناطق خاضعة لسلطة السلطة الفلسطينية، فالتدقيق في طبيعة هذه العمليات يشير إلى أنها تمت في إطار سياسة إسرائيلية هجومية جديدة، غلفت بشعار “الدفاع الإيجابي النشيط” ضد من يمارسون “العنف والإرهاب” والادعاء أنها ليست موجهة ضد الناس العاديين. وتبين العمليات الأخيرة أنها جزء من خطة جهنمية متكاملة وضعتها حكومة شارون، نقلت الحرب على الفلسطينيين شعبا وسلطة وقيادة وممتلكات، إلى مرحلة أعلى أكثر دموية تستهدف؛ تدمير عملية السلام وانتهاك الاتفاقات الأساسية والفرعية التي انبثقت عنها وإلغاء ترجماتها على الأرض، وإغلاق طريق العودة إلى طاولة المفاوضات. وتتجاوز إطلاق العنان للعنف يحصد مزيدا من أرواح الفلسطينيين والإسرائيليين، ومعاقبة السلطة الفلسطينية، وتدمير أعمدتها الأساسية خصوصا قوات الشرطة والأذرع الأمنية الأخرى، وتحاول إرجاع المجتمع الفلسطيني إلى حالة شبيهة بحالات عاشها الناس في القرون الوسطى. وجعل الحياة مستحيلة عليهم، ودفعهم بالجملة والمفرق، لمغادرة أرضهم أو يستسلموا لإرادة إسرائيل، أو يندفعوا إلى القيام بأعمال ينظر لها العالم الديمقراطي كنوع من أنواع الانتحار والجنون.
وبغض النظر عن أعمال إسرائيل التي تجرد الشعب الفلسطيني من حقوق الإنسان الأساسية، فالإدارة الأمريكية وهيئة الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان، تعرف تماما ان العقوبات الجماعية التي تفرضها إسرائيل على الشعب الفلسطيني لم يشهد التاريخ لها مثيلا، ولم يمارسها النظام العنصري في جنوب أفريقيا في أيام مجده. فالنظام العنصري لم يمارس رسميا سياسة الاغتيالات بشكل علني، ولم يحفر الشوارع ولم يقطع الأشجار، ولم يمنع أكثر من ثلاثة ملايين إنسان من التحرك على الطرقات والوصول إلى المستشفيات، ولم يحشرهم في مدنهم وقراهم كما يحشر السمك في علب السرين.
إلى ذلك، لا يمكن لمبتدأ في علم السياسة أن يصدق أن حكومة شارون أقدمت على كل هذه الأعمال من دون ضوء اخضر أمريكي، وأن إسرائيل لم تبلغ مسبقا بعض أركان إدارة بوش بالكبير منها، خصوصا وان بعضها تجاوز جميع الخطوط الحمراء التي رسمها المجتمع الدولي لمنع وقوع الانفجار الشامل. والأسلحة الأمريكية المتطورة استخدمت فيها بكثافة، وتربط الطرفان الأمريكي والإسرائيلي معاهدة تحالف استراتيجي مشترك، ومرتبطان باتفاقات رسمية تحظر استخدام الأسلحة الأمريكية في حالات معينة دون إذن مسبق.
ويؤكد النقد الباهت والملتبس، الذي وجهه البيت الأبيض إلى سياسة الاغتيال التي مارستها إسرائيل، واختراق قواتها مدينة بيت جالا ورفح الخاضعة لسلطة السلطة الفلسطينية، أن الضوء الأخضر الأمريكي أعطي لشارون للقيام بمثل هذه الأعمال. صحيح ان القوات الإسرائيلية انسحبت من بيت جالا تحت ضغط دولي أساسه أمريكي، إلا أن ما جرى ويجري في قطاع غزة والخليل، بعد هذا الانسحاب، وإصرار شارون وأركانه علنا على المضي قدما في سياسة الاغتيالات، يبين أن إدارة بوش أطفأت الضوء الأخضر في وجه الدبابات الإسرائيلية في بيت جالا، وأبقته قائما في منطقة رفح وفي بعض أحياء مدينة الخليل، وفي مجال الاغتيالات وشموله قادة سياسيين عادوا إلى الوطن باتفاق رعته إدارة كلينتون، ظن البعض انه يوفر نوعا من الحماية السياسية لمستوى قيادي سياسي معين.. وستظهر ترجمات الضوء الأمريكي الأخضر، حتما، في الأيام والأسابيع القليلة القادمة في مناطق أخرى في الضفة وقطاع غزة، وفي تشييع قائد أو كادر قيادي آخر.
ويخطئ من يعتقد أن إصرار إدارة بوش على انسحاب القوات الإسرائيلية من بيت جالا، بعد 48 ساعة من دخولها، تم على خلفية الاستجابة لضغوط عربية وأوروبية. ووقائع الصراع ومجرياته تؤكد ان الانسحاب جاء على خلفية إدراك أركان إدارة بوش أن توفير الأمن والأمان لمستوطنة “جيلو”، ومنع الأسلحة الخفيفة و “المتوسطة” المتوفرة بيد الفلسطينيين من وصولها، يتطلب احتلال ليس فقط الأحياء الشمالية والغربية من مدينة بيت جالا، بل وأيضا احتلال جميع أحيائها واحتلال مديني بيت لحم وبيت ساحور ومخيمات اللاجئين المجاورة لها. وبعد ان تبين لهم بصورة قاطعة أن معركة بيت جالا قد تطول وتتطور، وان استمرارها بضعة أيام إضافية يحولها إلى شرارة تشعل حربا شاملة بين السلطة الفلسطينية وحكومة إسرائيل، خاصة بعد رفض السلطة الخضوع لمطالب شارون وشروطه، وقوع اشتباكات عنيفة مباشرة بين القوات الإسرائيلية وقوات الأمن الوطني الفلسطيني.
وإذا كان متعذرا الآن إدانة إدارة الرئيس بوش، بالجرم المشهود، بالمشاركة في جريمة اغتيال ابوعلي مصطفى وبالجرائم الأخرى التي ارتكبتها حكومة شارون في الشهر الماضي، فتصريحات بوش ونائبه قبل وقوع الجريمة تدينهما بتشجيع شارون وأركان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على ارتكابها. وسلوك الرئيس بوش وأركان إدارته بعدها يؤكد تورطهم في مشروع تركيع الشعب الفلسطيني وإخضاع سلطته وقواه الوطنية، وإجبارهم على قبول الحلول الأمنية والسياسية الجزئية التي يعرضها شارون. ويتبنون رسميا سياسة حزب ليكود المتطرفة بشأن وقف إطلاق النار وتهدئة الوضع. ويرفضون بقوة السماح للأمم المتحدة تحمل مسئولياتها ويعارضون وجود مراقبين دوليين. ويمنعون دول المجموعة الأوروبية القيام بدور يتعدى إطفاء الحرائق عند ارتفاع لهيبها واحتمال تمدده لأنحاء أخرى في الشرق الوسط. وأظن ان موقف إدارة بوش في آخر جلسات عقدها مجلس الأمن الدولي بناء على طلب المجموعة الإسلامية، وموقفها في مؤتمر “دربان” وممارستها ضغوطا علنية وسرية على حكومتي ألمانيا وإيطاليا لإلغاء استضافتهما لقاء يجمع بيريز وعرفات، شواهد حية تكفي لإثبات تورطهم في معاقبة الفلسطينيين.
إلى ذلك، تعتمد إدارة بوش رسميا سياسة المكيالين عندما يتعلق الأمر بمحاسبة إسرائيل.فهم يغفرون لدولة إسرائيل القوية ذنوبها وجرائمها الكبيرة، ويصرون على معاقبة أفراد ومنظمات فلسطينية على أخطاء صغيرة ارتكبوها. وتضغط على عرفات وأجهزة الأمن وأركان السلطة الفلسطينية لخرق حقوق الإنسان الفلسطيني والصمت على جرائم الاحتلال المتنوعة. وينصبون أنفسهم قضاة ومحامو ادعاء، ويطالبون بإلحاح شديد زج ناس في السجون فورا بسبب وجود شبهات أمريكية وإسرائيلية غير مثبتة ودون محاكمات عادلة.
لا شك في ان ما قامت به حكومة شارون في الشهر الأخير أحدث تغييرا نوعيا في قواعد الاشتباك وفي أشكاله واتجاه حركته، ونسفت سلفا مقومات نجاح لقاء بيريز عرفات بغض النظر عن المكان الذي يلتقيان فيه. وبديهي القول ان اقتراب مؤتمر حزب ليكود، بعد شهرين، يدفع شارون إلى ارتكاب جرائم كبيرة جديدة، خصوصا اغتيال أعضاء بارزين في القيادة الفلسطينية والانتفاضة، وتدمير مراكز مدنية وعسكرية إضافية. وقراءة تسلسل الأعمال الإسرائيلية الأخيرة وخصوصا اغتيال القائد ابو علي مصطفى، وتصريحات شارون وأركانه المتواصلة حول تصعيد الحرب ضد الفلسطينيين، تؤكد ان العد العكسي للانفجار الكبير قد بدأ. ويبدو ان شارون نفذ صبره، ويسعى لحسم الموقف خلال وقت قصير، خصوصا بعد ارتفاع خسائر إسرائيل الاقتصادية والبشرية في الشهور الست الأولى من عهده، واتهام الشارع الإسرائيلي له بالفشل في تحقيق الأمن الذي تعهد به. وإذا كان ليس سهلا تقدير جميع أبعاد هذه الحرب فالمؤكد أنها لن تتوقف عند حدود أراضي الضفة والقطاع. وتخطئ القيادة الإسرائيلية وإدارة بوش إن اعتقدوا أن عرفات وأركانه سوف يرفعون راية بيضاء بعد اغتيال القائد ابوعلي مصطفى. ولعل مفيد تذكير الإدارة الأمريكية وبيريز ان القيادة الفلسطينية خرجت من بيروت تحت ضغط القوى الوطنية اللبنانية صاحبة الأرض. وشارون يعرف ان عملية “سلامة الجليل” عام 1982 فشلت، والقيادة الفلسطينية رفضت رفع الراية البيضاء ولبس لباس الصليب الأحمر الدولي. ورفضت الخروج قبل توقيع اتفاق رسمي مع المبعوث الأمريكي ووصول القوات المتعددة الجنسية إلى بيروت. وأظن انهم جميعا يدركون أن لا أرض أخرى للفلسطينيين يخرجون أو يرحلون إليها.