الحرب ضد الارهاب: هل تعجل بحل النزاع ام تجمده ؟
بقلم ممدوح نوفل في 01/10/2001
بعد الهجوم المذهل الذي تعرض له البنتاغون ومقر التجارة العالمية أعلن الرئيس الأمريكي بوش الحرب على “الإرهاب” في كل مكان. ووضع أسس الاصطفاف الدولي الجديد حين قال؛ “من ليس معنا ضد الإرهاب فهو في معسكر الإرهابيين”. ولم يوضح الفواصل بين الإرهاب الذي ينبغي محاربته لأنه يبغي تحقيق أهداف سياسية وعقائدية بالقوة ولا يكترث لقتل الأبرياء، وبين حق الشعوب في النضال لرفع الظلم والاضطهاد الواقع على كاهلها، الذي تمنحه لها جميع الشرائع السماوية والأرضية وميثاق هيئة الأمم المتحدة والقانون الدولي.
ومنذ اللحظة الأولى لإعلانه الحرب، واجه بوش “القائد الأعلى” للتحالف الدولي ضد الإرهاب”، معضلة النزاعات الإقليمية ودورها في بعث الإرهاب وتوسيع رقعة أعماله. وأدرك هو وأركانه في المعسكر الدولي، متأخرين ان النزاع العربي الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ببعده الديني، كان ولا يزال أحد العوامل المساعدة على انبعاث الإرهاب الإسلامي والقومي من وفي منطقة الشرق الوسط. وان الهروب من معالجة هذا النزاع في ملعبه وفي إطار الأمم المتحدة ينقله إلى اكثر من بقعة من بقاع الأرض، وضمنها الأراضي الأمريكية والأوروبية. فهل ستعمل الإدارة الأمريكية على حل هذا النزاع التاريخي، أم أن شروعها بالحرب ضد الإرهاب ومطاردته في المستنقع الأفغاني سوف يشغلها عن حل المسألة الفلسطينية، جوهر النزاع العربي الإسرائيلي ؟ وهل لدى هذه الإدارة في عهد بوش تصورا متكاملا لحل هذا النزاع المزمن ؟ وهل بإمكانها إلزام إسرائيل في عهد شارون بقبول هذا التصور، ان وجد، والانصياع لقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالنزاع ؟
أسئلة كثيرة يتداولها الفلسطينيون في الضفة وقطاع غزة، حول تفاعلات “الزلزال” الرهيب الذي ضرب الولايات المتحدة الأمريكية يوم11 أيلول/ سبتمبر2001. ويجمعون بمختلف اتجاهاتهم الفكرية على ان الهزة القوية التي أحدثها في أسس العلاقات الدولية، سوف تطال منطقة الشرق الوسط. وأغلبيتهم مقتنعون ان إدانة قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية لهذا العمل الإرهابي الذي راح ضحيته آلاف الأبرياء، كان موقفا صحيحا اتخذته في الوقت الصحيح. وعبرت بوضوح عن آلام الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، من الإرهاب الإسرائيلي متنوع الصنوف والأشكال، الذي تعرض له على مدى النصف الثاني من القرن الماضي، والذي يمكن تسميته بحق قرن الإرهاب الصهيونية العالمية ضد الفلسطينيين.
ويعتقد بعض الفلسطينيين ان هذا “الزلزال” وتحقيق النصر على الإرهاب النابع من المنطقة العربية، يفرضا على أركان “التحالف الدولي الجديد” مضاعفة الجهود لمعالجة النزاع العربي الإسرائيلي. ويتوهم البعض بأنهم سوف يفرضون حلا نهائيا وشاملا، يتضمن تجريد الإرهابيين من مقومات الصمود خلف متاريس الإسلام. وإلزام شارون بالانسحاب من القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين، وامتصاص نقمة قرابة مليوني حاج مسلم يؤدون فريضة الحج سنويا لا يستطيعون تحقيق حلمهم بزيارة المسجد الأقصى لتقديس حجتهم. ويرى أنصار هذا
الرأي ان المصالح الوطنية العليا تفرض على جميع القوى الوطنية والإسلامية تسهيل مهمة أركان التحالف الدولي بحل النزاع لان الحل المطروح في صالح الشعب الفلسطيني.
وبجانب هذا الرأي هناك تيار أقوى يشك أصحابه بان الجهود الدولية الجديدة، وضمنها جولات طوني بلير والمبعوثين الأوروبيين والروسي في المنطقة سوف تسفر عن نتائج سياسية نوعية ملموسة. ومقتنعون تماما بان إدارة بوش لا تملك تصورا متكاملا لحل النزاع العربي الإسرائيلي. وحديث أركانها ومعهم أقطاب الحكومة البريطانية بالعام عن حق الفلسطينيين في دولة، ذر للرماد في عيون العرب والفلسطينيين، ولا يتضمن جديدا ولا يسمن ولا يغني عن جوع، خصوصا انه يربط قيام الدولة باستئناف المفاوضات، ويمنح شارون حق تقرير مواصفاتها الجيوسياسية. ولسان حالهم يقول إذا كان الرئيس بوش وأركانه في “التحالف الدولي الجديد” لم ينجحوا في إلزام الحكومة الإسرائيلية بزعامة شارون باستئناف المفاوضات على المسار السوري، على قاعدة التفاهمات التي توصل إليها الطرفان في عهدي الرئيس كلينون والرئيس المرحوم حافظ الأسد، فمنطق الأمور يبين انهم لن ينجحوا في إقناع شارون وأركان اليمين الإسرائيلي في استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين من حيث توقفت في عهد باراك في قمة كامب ديفيد ومحادثات طابا. ومن لم ينجح في معالجة المسائل السهلة على الجبهة السورية الباردة، لا أحد يتوقع له النجاح بحل المسائل المعقدة على جبهة مشتعلة.
ومن فشل في إلزام شارون باحترام الاتفاقات التي وقعتها الحكومات الإسرائيلية السابقة مع الفلسطينيين، وعجز عن إجبارها على وقف حرب الاغتيالات وسحب قواتها من أحياء المدن والمناطق الأخرى المصنفة ” أ “، التي احتلتها بعد زلزال11 أيلول، وفك الحصار الخانق المضروب حول الفلسطينيين منذ شهور..الخ غير جاد عندما يتحدث عن حل شامل للنزاع السوري اللبناني ـ الإسرائيلي يقوم على إجبار إسرائيل على النزول من هضبة الجولان السورية وإعادتها إلى أهلها. ويمكن اعتبار حديثه عن قيام دولة فلسطينية مستقلة في عهد شارون، نكته أمريكية بريطانية “بايخة”، قيلت في مجالس العزاء بالشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا نتيجة صمت الحكومتين الأمريكية والبريطانية، وتخاذل دول الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة على جرائم شارون ـ بيريس، وتفكك النظام الرسمي العربي وعجزه عن اتخاذ موقف موحد حازم من الممارسات الإسرائيلية المتواصلة منذ أكثر من عام.
وتخطئ إدارة بوش وحكومة توني بلير إن هي اعتقدت ان الأوضاع بالغة القسوة التي يعيشها الفلسطينيون والخسائر البشرية الغالية والخسائر الاقتصادية الكبيرة التي لحقت بهم كفيلة بإجبار عرفات والسلطة وقيادة منظمة التحرير على قبول دولة فلسطينية يتم فبركتها وفق شروط ومقاييس شارون. ولعل من مفيد تذكير الجميع بان عرفات والقيادة الفلسطينية رفضوا “أفكار الرئيس كلينتون” التي تضمنت دولة فلسطينية عاصمتها القدس على أكثر من 96% من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وخالية من المستوطنين ومعظم المستوطنات، ولها سيادة كاملة على معابرها وحدودها الدولية..الخ من الأفكار الموجودة في ملفات البيت الأبيض.
والفلسطينيين الذين يكتون يوميا بنار الاحتلال أمام سمع بصر والعالم، مقتنعون تماما أن لا أفق لتسوية نزاعهم مع الإسرائيليين، طالما ان اليمين الإسرائيلي بزعامة شارون يتربع فوق قمة الهرم السياسي الإسرائيلي. ويعتقدون ان بإمكان الإدارة الأمريكية، وحدها ومن دون حلفاء، تخفيف معاناتهم في عهد شارون، إذا أرادت. بإمكانها ببساطة إجبار حكومته سحب قواتها في غضون ساعات من جميع المناطق التي احتلتها مؤخرا، تماما كما أجبرتها على الانسحاب من بيت حانون قبل بضع أسابيع ومن بيت لحم وبيت جالا ومخيم العزة قبل أيام. فالولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد أوروبا تملك أوراقا كثيرة لم تستخدمها في الضغط على شارون وحكومته، وفي التـأثير في الرأي العام الإسرائيلي.
ان مقياس الحكم على جدية الموقف الأمريكي ـ الأوروبي ليس حديثها عن دولة بل؛ تلمس موفق أمريكي أوروبي يتضمن موافقة على إرسال مراقبين دوليين، أو أمريكيين وأوروبيين إلى الأراضي الفلسطينية لحماية الفلسطينيين من بطش شارون ووقف المجازر اليومي التي تتفنن أذرع الأمن الإسرائيلية في ارتكابها. وإذا كانت هذه الأطراف غير قادرين على إلزام شارون بتنفيذ رغبتهم بالانسحاب من مناطق ” أ”، بإمكانهم ببساطة رفع الغطاء عن إسرائيل في الأمم المتحدة وعدم استخدام حق النقض “الفيتو” في وجه العرب والمسلمين. وبإمكانهم أيضا تشجيع بيريس وحزب العمل على الانسحاب من حكومة شارون ومحاصرتها في الشارع. ويتذكر الفلسطينيون جيدا الدور الهام الذي قام به بيرس واليسار الإسرائيلي في عهد نتنياهو عندما كانوا في المعارضة، ونجحوا من مواقعهم خارج الحكومة وبدورهم في الشارع الإسرائيلي بإلزامه على الانسحاب من مدينة الخليل وتوقيع اتفاق “واي ريفر”.
وبغض النظر عن تفاؤل المتفائلين وتشاؤم المتشائمين بتفاعلات الهجوم “الإرهابي” على “أمريكا” يوم 11أيلول/ سبتمبر 2001، في الصراع العربي الإسرائيلي، يسجل لمدبري ومنفذي هذا الهجوم انهم نجحوا، إلى حد بعيد، في دفع الوضع الدولي برمته نحو مرحلة جديدة تماما. وإذا كانت الملامح النهائية لهذه المرحلة ستتبلور تدريجيا في سياق الحرب ضد الإرهاب، فهي تشبه إلى حد كبير مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. حين انقسم العالم إلى معسكرين اشتراكي ورأسمالي، خاضا في مدى نصف قرن حربا باردة وحروبا أخرى كثيرة ساخنة صغيرة وكبيرة، حصدت أرواح ملايين البشر، ولم تبق بقعة في المعمورة لم تتأثر بحروبهم. وسلفا يمكن لأي قاض نزيه إدانة الولايات المتحدة الأمريكية بتوفير الأرضية الخصبة لانبعاث الإرهاب الشرق أوسطي وبتزويده بمقومات الحياة والقوة. وبالصمت على الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل بحق عملية السلام. وإطالة أمد الصراع الجاري في المنطقة وتدهور أوضاعها، وسفك مزيد من الدماء الفلسطينية البريئة. وخير للعرب والفلسطينيين توحيد مواقفهم وتحصين أوضاعهم في مواجهة العاصفة القوية المتجهة نحوهم. وعدم الركض وراء سراب حل النزاع العربي الإسرائيلي في عهد شارون على يد التحالف الدولي الجديد. وان يضعوا في حساباتهم التغيير النوعي الذي وقع في أولويات الولايات المتحدة الأمريكية وانشغالها بمعركة الدفاع عن النفس التي فرضت عليها. والوقائع الجارية على ارض المنطقة تؤكد ان التباين الأمريكي البريطاني ـ الإسرائيلي غير قابل للتحول إلى خلاف جوهري يمكّن الفلسطينيين والعرب من بناء سياسة جديدة.