المصالح الوطنية العليا فوق اعتبارات القوى والفصائل
بقلم ممدوح نوفل في 05/01/2002
تركت التطورات الدولية التي نشأت بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر2001 في واشنطون ونيويورك، آثارا سلبية مباشرة على الصراع العربي الإسرائيلي. وتبدّلت أولويات السياسة الأمريكية في معالجة النزاعات الإقليمية والدولية، وأعلنت حربا مفتوحة على الإرهاب في كل مكان، وانتزعت تفويضا دوليا بقيادة هذه الحرب وتوجيهها. ولحقت بها دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين وهيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها. واحتلت الحرب في أفغانستان موقع الصدارة في توجهاتها وتقلص اهتمامها بمعالجة الصراع العربي الإسرائيلي وحل القضية الفلسطينية، وصنع السلام الشرق الأوسط ويبدو ان هذا التوجه الجديدة سوف يتحكم في السياسة الأمريكية والدولية في العام الجديد 2002 وسنوات أخرى لاحقة.
بسرعة استوعبت القيادة الفلسطينية الرسمية مدلولات هذا التدخل وأبعاده على القضية الفلسطينية، وتحركت في أكثر من تجاه لتجنيب الشعب الفلسطيني سلبياته. وأبدى الرئيس ياسر عرفات استعدادا لدخول التحالف الدولي ضد الإرهاب. وأعلن عن وقف تام وشامل لإطلاق النار مع إسرائيل، ودعا حكومة شارون إلى وقف عملياتها العسكرية في الأراضي الفلسطينية والعودة إلى طاولة المفاوضات. ورغم أن دعوته لم تلقى تجاوبا إسرائيليا وصعّد شارون أعماله العدوانية ضد الفلسطينيين شعبا وسلطة وأرضا وممتلكات، إلا إنها لقيت استحسانا في الشارع الفلسطيني، وتركت أثرا إيجابيا في حقل السياسة الدولية. وأرسلت إدارة الرئيس بوش “الجنرال زيني” مبعوثا خاصا للشرق الأوسط رغم انشغالها في الحرب في أفغانستان، وكلفته تشغيل قطار السلام الفلسطيني الإسرائيلي وإعادته إلى سكته الأصلية.
وبغض النظر عن تفاؤل المتفائلين أو تشاؤم المتشائمين من موقف الولايات المتحدة الأمريكية، ونتائج هذا الزلزال على الصراع العربي الإسرائيلي، فالمؤكد ان الجواب العملي سوف تلمسه جميع شعوب المنطقة في الشهور القليلة القادمة. واعتقد جازما ان إدانة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة السلطة لهذا العمل الإرهابي الذي راح ضحيته آلاف الأبرياء، كان موقفا صحيحا اتخذ في الوقت الصحيح. وعبر بوضوح عن ألم الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، ومعاناته من الإرهاب الإسرائيلي متنوع الصنوف والأشكال الذي تعرض على مدى النصف الثاني من القرن الماضي. قرن العذاب الفلسطيني.
وبدلا عن استيعاب القوى الوطنية والإسلامية “قيادة الانتفاضة” هذه التطورات الكبيرة، تخلفت. ولم تحدث أي تغيير جوهري في خطابها السياسي أو في برامجها ونشاطاتها النضالية. ولم تقم بما يلزم لتحصين الجبهة الداخلية درءا للأخطار التي تحملها موجة الحرب ضد الإرهاب على القضية الفلسطينية. وبدلا عن “التفاعل” مع موقف السلطة تخلفت “قيادة الانتفاضة” مرة أخرى، وعارضت التوجهات التي أعلنها عرفات، ولم تستوعب مدلولات موقف حكومة شارون السلبي منها. وتمترست خلف شعار تلازم “الانتفاضة والمقاومة”، وتصاعدت ظاهرة “عسكرة” الانتفاضة وطمست وجهتها السلمية. ونفذت حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” سلسلة عمليات “انتحارية” في حيفا والقدس والعفولة ومدخل مستوطنة عمانويل..الخ قتل فيها عدد كبير من المدنيين الإسرائيليين الأبرياء. واغتالت مجموعة من الجبهة الشعبية وزير السياحة الإسرائيلي “رحبعام زئيفي”. ولم تفكر هذه القوى في نتائج عملياتها على الشعب الفلسطيني والانتفاضة، وعلى علاقتها بالسلطة، وعلى دور المبعوث الأمريكي الموجود في المنطقة. ونسيت أن المدن الإسرائيلية تعرضت في حرب الخليج عام 1991 إلى قصف كثيف بالصواريخ العراقية، لكن شامير وأركانه غلاة المتطرفين فضلوا كسب الرأي العام العالمي وكسب موقف أمريكيا و”التحالف الدولي” على توجيه طائراتهم لضرب المدن والمعسكرات العراقية.
واستقبل الرأي العام العالمي العمليات “الانتحارية” ضد المدنيين الإسرائيليين باستنكار شديد، وتحولت صورة القاتل إلى ضحية. وظهرت إسرائيل في مرآة السياسة الدولية كأحد ضحايا “الإرهاب” الفلسطيني. واستثمر شارون موجة التضامن الدولي في طمس جرائمه ضد الشعب الفلسطيني، ووظفها لصالح توجهاته المدمرة لعملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها. ورفع شعار محاربة الإرهاب الفلسطيني ومضى قدما تحت سمع وبصر العالم في تحطيم مقومات قيام دولتهم فلسطينية مستقلة بجانب دولة إسرائيل. واستغل الثنائي بيريز ـ شارون اندفاع إدارة بوش في الحرب ضد الإرهاب، ونجحا في إدراج أسماء حركتي “حماس والجهاد الإسلامي” وحزب الله اللبناني ضمن قائمة القوى الإرهابية، وقررت الإدارة الأمريكية وحلفاؤها عزلها ومحاصرتها تمهيدا لمطاردتها.
ورغم إدانة السلطة الفلسطينية اغتيال الوزير “زئيفي” والعمليات “الانتحارية” وتعهد رئيسها عرفات بمعاقبة المسئولين عنها، إلا ان الإدارة الأمريكية اعتمدت مقولة شارون ؛ بان السلطة الفلسطينية إطارا يرعى الإرهاب ورئيسها يقود منظمات إرهابية. وساوت هجوم حركتي “حماس والجهاد والإسلامي” على المدنيين الإسرائيليين بالهجوم الإرهابي على المدنيين الأمريكيين. وحمّلت السلطة الفلسطينية ورئيسها عرفات مسئولية التهاون في محاربة الإرهاب والتساهل مع “حماس والجهاد” والجبهة الشعبية. وعدم بذل الجهد الكافي لتوفير المناخ الملائم لنجاح مهمة مبعوثها الخاص “زيني” وسحبته من المنطقة. ومنحت إدارة يوش شارون ضوءا اخضر لتصعيد حربه على “الإرهاب الفلسطيني” وتدمير المنظمات الفلسطينية التي ترتكب أعمالا إرهابية ضد المدنيين الإسرائيليين الأبرياء.
وربطت إدارة بوش تفعيل دورها في رعاية عملية السلام، وتخفيف معاناة الفلسطينيين من قهر الاحتلال وإجراءاته غير الإنسانية، بتنفيذ السلطة الفلسطينية عددا من الاستحقاقات الداخلية. أولها، إثبات سيطرتها الأمنية على الوضع في الأراضي الفلسطينية، ومحاربة “المنظمات الإرهابية”، ومنع وقوع عمليات جديدة ضد المدنيين الإسرائيليين، واعتقال مدبري العمليات الانتحارية التي نفذت داخل إسرائيل وتقديمهم للمحاكمة. وثانيها، تفكيك بنية (حماس والجهاد الإسلامي) التي صنفتها ضمن قائمة المنظمات الإرهابية. والتقط شارون هذا الموقف الأمريكي واندفع باتجاه القضاء على بقايا عملية السلام، وشطب “أوسلو” الاتفاقات الأخرى التي انبثقت عنه، وتدمير مؤسسات السلطة الفلسطينية وركائزها المدنية والعسكرية. وتجاوزت إجراءاته العملية جميع الخطوط الخضراء والصفراء والحمراء، وبلغت حد اعتبار القيادة الفلسطينية الشرعية المنتخبة “غير ذي شان” والتخطيط للإطاحة بها. ومنع شارون الرئيس عرفات من المشاركة في احتفالات عيد الميلاد المجيد في بيت لحم، ودفع دباباته نحو مقر السلطة في مدينة رام الله وتوقفت على بعد مئات الأمتار فقط. ولم تحاول إدارة بوش وضع حد لأعمال شارون وظهرت وكأنها تباركها. ولم يتردد شارون في القول في اجتماع موسع لكوادر الليكود بأنه لم يتعرض لضغط أمريكي لتسهيل مشاركة رئيس السلطة الفلسطينية في احتفالات عيد الميلاد في بيت لحم.
وفي سياق حماية المصالح الفلسطينية العليا وتجنيبها شر العاصفة الهوجاء وتوفير الغطاء الدولي للنضال الفلسطيني المشروع، وتقليص جبهة الخصوم والأعداء ومنع شارون استثمار التطورات والأحداث السلبية، أقدم رئيس اللجنة التنفيذية على إعلان حالة الطوارئ في الأراضي الفلسطينية، وأكد مجددا على الوقف الشامل والفوري لجميع الأعمال العسكرية. واتخذت السلطة الرسمية عددا من الإجراءات الأمنية والتنظيمية الداخلية، وضمنها اعتقال كوادر في الجبهة الشعبية وحركتي حماس والجهاد الإسلامي وأغلقت عددا من مؤسساتهما الحزبية والإعلامية ووضعت اليد على مراكزهما الاجتماعية والصحية.
وبدلا عن استيعاب “قوى المعارضة” الدوافع والأسباب التي دفعت القيادة الفلسطينية لاتخاذ هذه الإجراءات، أعلنت هذه القوى، في بيانات مستقلة، تمسكها بالمقاومة المسلحة ضد الاحتلال باعتبارها حق مشروع. ودعت إلى التعبئة العامة..!؟ وأكد بعضها عزمه مواصلة عملياته القتالية بكل أنواعها ضد إسرائيل. وبدلا عن قيامها بمبادرات ذاتية نوعية تحول دون عزل النضال الوطني، دعت قيادات المعارضة في بيانات علنية إلى؛ “عدم الرضوخ إلى قرار ما يسمى بوقف إطلاق النار، وإلغاء حالة الطوارئ. والمشاركة في صنع القرار وإلغاء قرار إغلاق مؤسسات حركتي حماس والجهاد الإسلامي. وعدم الارتهان إلى خيار ما يسمى بالمفاوضات السياسة العبثية على أساس مرجعيات واتفاقات أوسلو وتحت رعاية أمريكية منحازة ..” الخ. واعتبرت إجراءات قيادة السلطة مساسا بالوحدة الوطنية وتضعف تماسك الجبهة الداخلية. ونفذ بعضها عمليات عسكرية جديدة ضد المدنيين الإسرائيليين.
لا شك في ان تباين مواقف القوى الوطنية والإسلامية واختلاف رؤاها السياسية والتنظيمية والفكرية مسألة طبيعية وظاهرة صحية. وبينت التجربة الفلسطينية الطويلة، قبل وبعد قيام السلطة، ان الإجماع حول هذه القضايا مستحيل ناهيك عن كونه ليس مطلوبا من حيث المبدأ. وبصرف النظر عن النوايا، أرى إن مواقف قوى المعارضة وخاصة “حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية” من التوجهات الوطنية الجديدة التي أعلنها رئيس اللجنة التنفيذية “ياسرعرفات” في “خطاب العيد”، اتسم بضعف الشعور بالمسئولية الوطنية، وتسبب في توتير الأجواء الداخلية. ودعوتها للتعبئة العامة للكفاح المسلح يظهرها، رغم خبرتها الطويلة، وكأنها لا تزال تعيش مرحلة من المراهقة السياسية والطفولة اليسارية. ويشير إلى أنها لم تستوعب المتغيرات التي وقعت في إدارة الصراع مع إسرائيل بعد هجوم 11 أيلول/ سبتمبر على نيويورك وواشنطن، مثل عدم استيعابها من قبل، أبعاد فوز شارون في الانتخابات الإسرائيلية.
لا خلاف حول عدالة الموقف الفلسطيني أو شرعية مقاومة الاحتلال، لكن الخلاف الجوهري مع قوى المعارضة الفلسطينية حول الممكن تحقيقه من الأهداف الوطنية في هذه المرحلة. وحول الوسائل والأساليب الأنجع لتحقيقها. وهناك دائما وسائل فعّالة ومجدية، وأخرى فعالة لكنها ضارة وقد تتسبب في إلحاق الهزيمة بالأهداف وبالمناضلين من أجلها. وهذه يجب تفاديها حتى لو كانت عادلة ومشروعة. وهناك نوع ثالث يحرمه القانون والمبادئ الأخلاقية وهذا أيضا يجب تفاديه كليا. وليس من حق أحد ان يورط الآخرين فيما يجب تفاديه.
وبصرف النظر عن النوايا فالعمليات “الانتحارية” التي نفذتها قوى المعارضة في إسرائيل كانت من الصنف الضار جدا. وظهرت كأنها تستهدف المصالح العليا للشعب الفلسطيني وإضعاف مصداقية قيادته الشرعية “السلطة ومنظمة التحرير” أكثر من إستهداف مصالح إسرائيل الحيوية. وتريد استدراج مزيد من الضربات العسكرية الإسرائيلية المدمرة لمؤسسات السلطة ومراكز أجهزتها الأمنية والعسكرية والبنية التحتية الفلسطينية التي بنيت بشق الأنفس. صحيح أن هذه العمليات أثبتت فشل شارون والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية نسبيا في توفير الأمن للإسرائيليين، لكن الصحيح أيضا أنها وضعت الشعب الفلسطيني أمام خطر خسارة العديد من الإنجازات الهامة التي حققها في السنوات القليلة الماضية، وخطر إسقاط نموذج الحالة الأفغانية على نضاله العادل والمشروع ضد الاحتلال ووصمه بالإرهاب. وعندما تصبح حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية في دائرة القوى الإرهابية المستهدفة أمريكيا وأوروبيا وغدا من قبل النظام الرسمي العربي.. فان ذلك يشكل، في الظروف الراهنة المعقدة، مأزقا ليس فقط لهذه القوى بل وأيضا للقيادة الشرعية الفلسطينية. وجعل صيغة “قيادة الانتفاضة” التي تجمع “القوى الوطنية والإسلامية” عبئا ثقيلا على الانتفاضة ذاتها.
لا شك في ان إعلان قيادتي حماس والجهاد الإسلامي وقف عملياتهما الانتحارية التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين خطوة في الاتجاه الصحيح يجب تقديرها، لكنها بالتأكيد لم تخرجهما من دائرة الاستهداف الدولي التي حشرت نفسها فيها، خصوصا أنها جاءت متأخرة جدا. وإذا كانت السلطة وقيادة م ت ف ملزمة في المرحلة الراهنة بعمل كل ما يلزم لفرض سلطة القانون وحماية المصالح العليا للشعب الفلسطيني ووضعها فوق جميع الاعتبارات الأخرى، فان قوى المعارضة الفلسطينية وبخاصة حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية ملزمة بإجراء مراجعة شاملة لتوجهاتها واستخلاص عبر التجربة. ومطالبة بقراءة التطورات الدولية قراءة واقعية، وتأكيد التزامها بوقف جميع الأعمال التي تسهل على شارون تفريغ حقده على الشعب الفلسطيني وتنفيذ أحلامه القديمة الجديدة بتصفية الحركة الوطنية وقيادتها. ومطالبة أيضا باحترام قرارات السلطة الشرعية المنتخبة ودعم جهودها في تجاوز مرحلة الخطر التي يتعرض لها المشروع الوطني. وعمل كل ما يلزم لإنهاء حالة الترقب والقلق التي تعيشها كوادرها وجميع الحريصين على الوحدة الوطنية، والخلاص من المأزق التي حشرت نفسها فيه.
وتخطئ المعارضة إذا اعتقدت ان إضعاف إسرائيل بدعم أمريكي للسلطة الفلسطينية يوفر فرصة لخلق نوعا من ازدواجية السلطة. ومفيد ان تتذكر ان الشعبين الفلسطيني والأردني دفعا دما زكيا ثمن شعار ازدواجية السلطة الذي رفعته فصائل في المقاومة الفلسطينية في الأردن العام 1970. وان لا تنسى ان الولايات المتحدة الأمريكية هي الجهة الوحيدة القادرة لجم اندفاع شارون في الحرب الصغيرة الجارية على أرض الضفة وقطاع غزة، او نحو حرب إقليمية محدودة. فهي القطب الأوحد المقرر في السياسة الدولية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة وزاد تفردها بعد أحداث 11أيول. وأظن ان التصادم المباشر معها ينم عن غباء سياسي أقرب الى الانتحار.