شارون يصفي حسابات سياسية وشخصية مع عرفات
بقلم ممدوح نوفل في 29/01/2002
في النصف الثاني من حزيران/يونيو 1982أكمل الجيش الإسرائيلي حصار القوات الفلسطينية في الشق الغربي من مدينة بيروت. وضيق الخناق على القيادة الفلسطينية وقطع الماء والكهرباء وخطوط الهاتف عن المدينة. وكشف شارون، وزير الدفاع في تلك الفترة، عن أهداف أخرى للحرب لم يعلن عنها عند بدئها. وأمر قواته تكثيف الغارات الجوية والقصف المدفعي على الأحياء التي يقيم فيها عرفات وأركان القيادة الفلسطينية. وطلب شارون من عرفات إلقاء السلاح وإعلان الاستسلام، وقال: “الهجوم لن يتوقف إلا بعد تصفية م. ت. ف. وتصفية قيادتها وإجتثاث وجودها من لبنان”. وحاول انتزاع قرار رسمي باقتحام غرب بيروت حيث يقيم عرفات، وأسره وأركانه ونقلهم للسجون في شباك صيد تتدلى من مروحية كما قال. لكنه فشل في انتزاع هكذا قرار مجنون.
في حينه رفض ابوعمار الخضوع لشرط شارون وابتزازه وتشدد في مواقفه. وسخر من عرض شارون الخروج من مدينة بيروت بلباس الصليب الأحمر الدولي وتمنى الشهادة. وصمد الفلسطينيون والوطنيون اللبنانيون تحت إمرة عرفات فترة 3 شهور، خرجوا بعدها بحرا بكامل أسلحتهم معززين مكرمين. وفي ميناء بيروت سأل أحد الصحفيين ابوعمار إلى أين أنت ذاهب ؟ فأجاب فورا ومن دون تردد إلى فلسطين.
وفي يوم خروج عرفات، وقف شارون في احد المباني المشرفة على الميناء يراقب العملية واستمتع بمشاهدة عرفات وهو يركب سفن الترحيل.. وقال؛ عرفات انتهى وسيطويه التاريخ. ولم يمضي وقت طويل حتى خرج شارون من وزارة الدفاع مهزوما. واتهمته المعارضة بالكذب وتضليل الحكومة والشعب وتوريط إسرائيل في حرب خاسرة. وحمّلته لجنة تحقيق برئاسة “كهانا” مسئولية منع وقوع مجازر صبرا وشاتيلا، واقترحت منعه تولي حقيبة الدفاع طيلة حياته. وانزوى شارون في مزرعته بأمل ينسى الإسرائيليون قصته. وزاد حقده الشخصي ضد عرفات. وحمّله مسئولية النتيجة البائسة التي حصدها من حرب 1982، ومسئولية حرمانه من “وسام” بطولة القضاء على منظمة التحرير ورئيسها عرفات. وراح يتحين فرصة للانتقام وظل يناصبه العداء، ويضمر كراهية للشعب الفلسطيني.
بعد قرابة11سنة من تلك الواقعة، اقتنع الإسرائيليون بفشل الحل العسكري للصراع مع الفلسطينيين، ووقع الطرفان اتفاق اوسلو عام 1993. وعاد ابوعمار صيف1994 إلى فلسطين وعاد معه آلاف الكوادر والمقاتلين الذين رافقوه رحلة الخروج من بيروت. وأنشأ عرفات أول سلطة فلسطينية على الأرض لها جيش قوامه أكثر من30 ألف رجل مسلح. وظل الجيش الإسرائيلي يعاني في جنوب لبنان آثار الورطة التي زجه فيها شارون.
وفقد شارون صوابه من “اوسلو” ونتائجه الأولية واتهم رابين بتعريض أمن إسرائيل للخطر وإدخال الأفعى إلى فراش إسرائيل. وأنهى اعتكافه، وقرر العودة للحياة السياسية لمحاربة الاتفاقات التي وقعها رابين مع الفلسطينيين والتصدي لمشروع دولة عرفات الخطير.
في عام 1996 تولى شارون حقيبة الخارجية في حكومة نتنياهو، وظل يفتخر بأنه لم يلتقي عرفات. ورفض مصافحته في أول لقاء جمعهما، بحضور الرئيس كلينتون، في مفاوضات واي ريفر. وتباهى بفعلته رغم أنها منافية للأعراف الدبلوماسية ولأسس السلام المنشود بين الشعبين. وظهر أمام الجميع أنه يعاني من عقدة نفسية اسمها ” عرفات” وكابوس الدولة الفلسطينية. وتأكد عرفات أن الاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية وعلاقات السلام التي نشأت بين الطرفين لم تفلح في نزع الحقد والكراهية من قلب وعقل شارون، وتذكر الفلسطينيون مجازر صبرا وشاتيلا.
وبعد فوزه في انتخابات رئاسة الوزراء 2001، راح شارون يتحين الفرص للانتقام. ولم يستطع إخفاء حقده الدفين، وظهر كرهه الشخصي لعرفات قبل دخولة مبنى رئاسة الوزراء. وشكل حكومته ضم إليها حزب العمل ومنح بيريس موقعا مرموقا، وسحب من الشارع من يعارض تصفية الحساب مع عرفات. وبعد أقل من أسبوع من تشكيل حكومته، أعلن شارون انه لن يلتقي عرفات واتهمه بتهم كثيرة ومتنوعة، أصغرها “كذاب” و”إرهابي يقود منظمات إرهابية” ويوجه عملها ضد إسرائيل. وشرع في تهيئة المسرح السياسي لتقبل ما يخبأه ضد عرفات. وعبأ الشارع الإسرائيلي بأفكاره. ولم يتردد بيريس في تسويقها في الحقل الدولي واستعان باللوبي الإسرائيلي في أمريكا وأدخلها البيت الأبيض ووزارتي الخارجية والدفاع ومكتب مستشار الأمن القومي.
وقبل عرفات التحدي، واعتبر تصريحات شارون استفزاز خطير يهدف إلى استدراجه لمعركة شخصية مبكرة، وضبط أعصابه وحافظ على هدوئه. ورغم تأكيد أبوعمار باستمرار احترام خيار الشعب الإسرائيلي إلا أنه كان يدرك تماما أن شارون مصمم على تصفية حساباته الشخصية والسياسية، وان الصدام الكبير مع شارون قادم لا محالة، ورفع درجة يقظته السياسية والأمنية. وزاد أنصار “الكفاح المسلح” من الفلسطينيين عملياتهم “الإنتحارية” في قلب إسرائيل، وظنوا أنها تضعف شارون وتقصر عمر حكومته. ولم يدركوا أنه يستمد منها روح الحياة وتسهل له طريق الانتقام وتفريغ حقده الدفين ضد الشعب وقيادته .
ووجد شارون في الهجوم الإرهابي التي تعرضت له واشنطن ونيويورك في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، والعمليات العسكرية “الإنتحارية” التي نفذها الفلسطينيون فرصة ثمينة لتصفية حسابه القديمة، وتدمير بقايا جسر السلام بين الشعبين وقبر فكرة الدولة الفلسطينية. وصعد أعماله الحربية ضد عرفات وسلطته، وشبهه بابن لادن وشبه السلطة الفلسطينية بحركة طالبان. وأمر الجيش الإسرائيلي تطويق مقر إقامة عرفات في رام الله والزحف إلى أقرب نقطة ممكنة تطل عليه. ووقفت على بعد عشرات الأمتار فقط. ونسي ان حساب السياسات الكبيرة المحلية والإقليمية والدولية لا يقاس بالأمتار. وأظن أن شارون فكر في زيارة الموقع العسكري الإسرائيلي المشرف على مكتب عرفات في “المقاطعة” ليستمتع بمنظر الحصار المضروب حوله كما استمتع بمراقبة خروجه من بيروت… لكني أجزم بان شارون سيرحل من رئاسة الوزراء قبل أن يشاهد ما شاهده في ميناء بيروت. وعرفات خرج من بيروت فقط لأنها ليست رام الله فلسطين. والفلسطينيون في الداخل والخارج الذين سمعوا وشاهدوا شارون وهو يتلذذ بالحديث على شاشة التلفاز عن “حبس” رئيسهم “عرفات” في رام الله ومنعه من مغادرتها، لن يغفروا لأحد محاولة إذلالهم وطعن كرامتهم الوطنية.
صحيح أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قديم ولم ينشأ في عهد شارون وله أبعاد سياسية معقدة، إلا مواقف شارون وسلوكه في العام الأول من حكمه أضاف للصراع بعدا شخصيا طغى على ما عداه. ومحاولات شارون تغليف هذا البعد بملف برّاق اسمه الحرص على أمن الإسرائيليين لم تنطلي على الفلسطينيين والمتنورين الإسرائيليين. ومن يدقق بموضوعية في وصف حكومة شارون عرفات بـ” رجل غير ذي شأن”، وإعلانه الندم عن عدم تصفية عرفات في العام 1982 يلمس هذا البعد الشخصي.
صحيح ان شارون يحاصر عرفات في زاوية ضيقة في مدينة رام الله، لكن السجين يفرض على السجان البقاء معه داخل السجن. وهذا الحصار يستفز المشاعر الوطنية والقومية ويقوي موقع عرفات في صفوف شعبه ويساويه بالمواطنين المحاصرين منذ شهور طويلة. والوجه الآخر للصورة يظهر كرامة الملوك والرؤساء العرب وعددا من زعماء العالم وأنصار السلام بين الشعبية محاصرين مع عرفات. ويظهر عرفات وهو يحاصر شارون في الشارع الإسرائيلي وفي عدد من عواصم العالم بتهمة تدمير الأمل بصنع السلام في المنطقة وتغذية الكراهية والحقد بين الشعبين.
لا شك في ان شارون يعرف أكثر من سواه أن استكمال ما فشل في تحقيقه في بيروت عام 1982، يتم فقط بقرار أمريكي. وأظن أنه سيحاول في زيارته واشنطون في 6 شباط/ فبراير القادم انتزاع موافقة أركان الإدارة الأمريكية على الخلاص من عرفات وتدمير “سلطته” ،غير آبه بنتائج أفعاله وأقواله على مستقبل العلاقة بين الشعبين. وقد ينجح في الحصول على هكذا قرار من إدارة بوش التي حصرت تفكيرها في كسب ود اللوبي الصهيوني في أمريكا،، لكن أحدا لن ينجح في “فبكرة” زعيم للشعب الفلسطيني بديلا عن عرفات. وسيبقى عرفات المغيب أمريكيا وإسرائيليا حاكما فعليا لفلسطين لسنوات طويلة. ولن يتجرأ وطني فلسطيني على الدخول في اتفاقات مع إسرائيل لم يوافق عليها عرفات في حياته، هذا إذا بقي للحوار مكان على ارض فلسطين التاريخية.
وبصرف النظر عن طبيعة القرار الأمريكي الذي سيحصل عليه شارون بعد ارتفاع عدد القتلى في صفوف الإسرائيليين، لعل يفيد التذكير ان “شخصنة” شارون للصراع لا يطمس الحقائق التاريخية. أولها أن مشكلة شارون واليمين الإسرائيلي الرئيسية مع الشعب الفلسطيني وليس مع عرفات و”سلطته”. مشكلتهم، أولا، مع مليون وربع مليون فلسطيني يعيشون في إسرائيل ينغصون عليه حياتهم ويقوضون هوية إسرائيل كدولة يهودية. ومشكلتهم، ثانيا، مع قرابة ثلاثة ملاين ونصف المليون فلسطيني يعيشون في “يهودا والسامرة” يدمرون يوميا حلمهم بدولة إسرائيل الكبرى. ومشكلتهم، ثالثا، مع أكثر من أربعة ملايين لاجئ حافظوا على هويتهم ولم ينسون حقوقهم. ومشكلتهم، رابعا، مع جميع المسلمين والمسيحيين الذين يحجون إلى القدس ويقدسون حجتهم فيها، ويرفضون أن تبقى تحت الإحتلال. ومشكلته الكبرى مع شعب إسرائيل الذي سيكتشف قريبا ان شارون أوقعهم في ورطة، وأدخلهم مستنقعا دمويا أعمق وأطول من مستنقع جنوب لبنان.