غياب الافق السياسي يكمن في السياسة الامريكية
بقلم ممدوح نوفل في 16/02/2002
مع استئناف الدبلوماسية الأمريكية والأوروبية حركتها للبحث في سبل تهدئة الوضع المتفجر على الأرض الفلسطينية، تجدد النقاش في صفوف قوى النظام السياسي الفلسطيني بشقيه الرسمي والشعبي حول الموقف الأمريكي من توجهات شارون لتدمير السلطة الفلسطينية وتغيير قيادتها. وتصور كثير من السياسيين الفلسطينيين أن إعلان الإدارة الأمريكية حزب الله في لبنان وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، واستهداف العراق في المرحلة الثانية من الحرب ضد الإرهاب، يدفعها نحو تهدئة جبهة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بأمل كسب ود عدد من الدول العربية وشراء صمتها إزاء ضرب العراق. واسترضاء السلطة الفلسطينية وقيادة فتح ومنظمة التحرير وتشجيعها على إنهاء العمل العسكري الذي يمارسه تنظيم فتح تحت اسم “كتائب الأقصى” و”كتائب العودة”. وتفكيك البنية التحتية لحركي حماس والجهاد الإسلامي وتشكيلاتهما العسكرية.
وبعد حديث الرئيس بوش في البيت الأبيض بحضور شارون عن معاناة الشعب الفلسطيني، وحديث وزير خارجيته”باول” عن شرعية الرئيس الفلسطيني، وقول مستشارة الأمن القومي في البيت الأبيض “كوندليزا رايس” “حصار عرفات يقويه ولا يضعفه”، تفاءل بعض الفلسطينيين بقرب فك الحصار المضروب على مقر رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله، ورفع الحظر المفروض على حركته، وانسحاب القوات الإسرائيلية من مناطق “ألف” الخاضعة لسلطة السلطة الفلسطينية. ووقف سياسة الاغتيال والمداهمة والاعتقال، وإنهاء الإجراءات العنصرية التي يمارسها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين على الحواجز في جميع مناطق الضفة وقطاع غزة.
ويستند المتفائلون إلى حقيقة يقر بها جميع المعنيين بحل النزاع العربي الإسرائيلي، وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية، أن أزمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بلغت الذروة وتتجه نحو منحى خطير جدا. وعمليات الجيش الإسرائيلي الهجومية والدفاعية فشلت في توفير الأمن للإسرائيليين بحدوده الدنيا. وفشل شارون في تركيع الفلسطينيين وإخضاعهم لمشيئته بقوة السلاح، ويتخبط في إدارة دفة الحكم وإدارة الحرب المفتوحة التي أعلنها ضد الفلسطينيين قبل عام.
لكن وقائع الحياة جاءت، بعد انتهاء زخم الحجيج الإسرائيلي والعربي لواشنطون، وانتهاء جولات المبعوثين الأوروبيين في المنطقة، مخيبة لآمال من تفاءلوا بالموقف الأمريكي. وبقي تثمين إدارة بوش مواقف عرفات بشان سفينة السلاح كارين Aومحاربة الإرهاب، وحل مشكلة اللاجئين، التي أعلنها في صحف أمريكية وعربية، كلاما معلقا في الهواء. ولم يقدّر أركان بوش إحباط أجهزة الأمن الفلسطينية عددا من العمليات “الانتحارية” الموجهة ضد المدنيين الإسرائيليين. واعتقالها كوادر في حركتي حماس والجهاد الإسلامي وإغلاق عدد من مؤسساتهما، واحتجاز “أحمد سعدات” أمين عام الجبهة الشعبية والعميد فؤاد الشوبكي مسئول الإدارة المالية للمؤسسة العسكرية الأمنية الفلسطينية. وتحولت مواقف عرفات وإجراءات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، في المباحثات الإسرائيلية الأمريكية، إلى اتفاق لممارسة ضغط إضافي مزدوج على السلطة الفلسطينية ورئيسها لتقديم مزيد من التنازلات والقيام بمزيد من الإجراءات لصالح امن إسرائيل والإسرائيليين، حتى لو أدى إلى عزل السلطة عن الجمهور الفلسطيني وتفكيك وحدة م ت ف. وبدلا من الضغط على شارون ووزير دفاعه وبن اليعازر لوقف ممارسات الجيش الإسرائيلي غير الإنسانية ضد الشعب الفلسطيني، تسابق أركان إدارة بوش في تبني المواقف الإسرائيلية الفاقعة في خرق حقوق الإنسان والقانون الدولي، والمدمرة لبذرة السلام بين الشعبين. وفوجئ زعيم حزب العمل الجديد “بن اليعازر” بمواقف نائب الرئيس الأمريكي “ديك تشيني” ومستشارة الأمن القومي “كوندليزا رايس” انها أكثر تشددا من مواقف “زئيفي” صاحب فكرة ترحيل الفلسطينيين الذي قتل قبل خمسة اشهر على يد خلية تابعة للجبهة الشعبية.
إلى ذلك، لم يتأخر أركان المؤسسة الإسرائيلية بزعامة الجنرال “موفاز” في ترجمة ما سمعه شارون وبن اليعازر في واشنطون في أعمال عدوانية اعتبرت الأوسع والأكثر وحشية منذ شهور طويلة. ولم يكترثوا لوجود وزيري خارجية بريطانيا وألمانيا “فيشر وسترو” في المنطقة. وقصفت طائرات إف 16 المقر المركزي لأذرع وفروع قوات وأجهزة الأمن الفلسطيني. وتوغلت الدبابات الإسرائيلية في شمال ووسط قطاع غزة، ودمرت عددا من المنازل والورش الصناعية والبساتين ونسفت مقار قوى حزبية. ولم يتجرأ وزيرا خارجية بلدين أوروبيين عضوين دائمين في مجلس الأمن على زيارة بيت لاهيا وبيت حانون ورفح، للاطلاع على نتائج القصف، كما فعل احدهم سابقا وزار موقع انفجار نفذه انتحاري فلسطيني في القدس.
وبصرف النظر عن الذي سمعه وفهمه شارون وبيريز وبن اليعازر في واشنطن، فالمواقف والممارسات الإسرائيلية أكدت قناعة الفلسطينيين، شعب وسلطة ومعارضة، أن العلة في غياب الأفق السياسي لحل لنزاع الفلسطيني الإسرائيلي ليست كامنة في سلطة شارون وحده، بل وأيضا في صلب السياسة الرسمية التي اعتمدتها إدارة بوش قبل وبعد أحداث واشنطون ونيويورك. وما استخلصته من ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية في عهد رئيس وزراء إسرائيل السابق ايهود باراك. وتتصرف على أساس: أولأ/ استحالة التوصل إلى اتفاق فلسطيني إسرائيلي في عهد شارون وعرفات، حتى لو كرس بوش وقته وجهده للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وغرق في تفاصيلها كما غرق الرئيس كلينتون. لاسيما أن بوش وأركانه يعرفون أكثر من سواهم أن شارون لا يملك مشروعا سياسيا يصلح لاستئناف المفاوضات والتوصل إلى اتفاق على المسار الفلسطيني. وأن وجود بيريس وعددا من قادة حزب العمل في الحكومة لا يغير في الأمر شيئا، خاصة ان شارون والأغلبية اليمينية تقف لهم بالمرصاد، وترفض رفضا قاطعا ما اصطلح على تسميته بمشروع بيريس ـ ابوعلاء.
ويدرك أركان الإدارة الأمريكية أن عرفات وأركانه لن يتنازلوا في مسألتي القدس واللاجئين والاستيطان. ويتعاملون مع مشروع بيريس ـ ابوعلاء باعتباره بالون اختبار لمواقف شارون والإدارة الأمريكية، يبقي حيزا محدودا، يمكن لأنصار صنع الاستقرار في المنطقة أن يتحركوا فيه إذا شاءوا.
ثانيا/ تصر إدارة بوش على مواصلة التفرد في رعاية “جثة” عملية السلام، ورعاية العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية. وترفض تقديم أفكار واقتراحات أمريكية خاصة لحل النزاع، وتحصر الدور الأمريكي في حدود إدارة الأزمة ضمن الحدود التي رسمتها لنفسها منذ استلامها سدة الحكم قبل عام. وتمنع الأمم المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي وأي طرف دولي آخر من تقديم أفكار خاصة ملموسة تتجاوز الدور الأمريكي. ولسان حال إدارة بوش يقول؛ إذا كان الفلسطينيون رفضوا العروض “السخية” التي قدمها باراك، فحكومة يمينية بزعامة شارون لن تقدم للفلسطينيين نصف ما قدمه باراك في قضايا الأرض والقدس والاستيطان.
ثالثا/ العمل بقوة على تجريد الموقف الفلسطيني من عمقه العربي والإسلامي. واستيعاب الوضع المتوتر بين الطرفين وإبقائه تحت السيطرة. وتعطيل قيام شارون بمغامرات عسكرية كبيرة تؤدي إلى تأجيج نار الصراع وتمددها إلى دول الجوار ومنع تحوله إلى نزاع لإقليمي. فهي تمنع شارون من إعلان وفاة عملية السلام وإلغاء اتفاق اوسلو، وفي الوقت ذاته تبيح له فرض شروطه وإملاءاته على الفلسطينيين للعودة إلى طاولة المفاوضات. تمنعه من القضاء على عرفات وتدمير السلطة، وتبيح له محاصرته في مقره ومنعه من الحركة، وتدمير مراكز ومقار الأجهزة الأمنية..الخ
صحيح ان إدارة الرئيس بوش لم تشتري مشروع شارون ووزير دفاعه بن اليعازر قطع الصلة مع ياسر عرفات، ورفضت المشاركة في مشروع بناء قيادة فلسطينية بديلة. ورفضت إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن. وجددت رؤيتها لحل ينبثق عنه دولة فلسطينية. ولم تدرج السلطة “والتنظيم” والقوة 17 في كشف المنظمات الإرهابية، إلا أن وقائع الصراع بعد عودة شارون من واشنطن أكدت إن التباين الإسرائيلي الأمريكي الذي ظهر في البيت الأبيض تباينا محدودا لم يمس جوهر موقف إدارة بوش المتبني بالكامل مواقف حكومة شارون ومفهومها للتهدئة غير القابل للتطبيق. وصمتها على عمليات الجيش الإسرائيلي الأخيرة، وسكوتها على استمرار حصار المدن والقرى الفلسطينية ومقر رئيس السلطة ومنعه من الحركة..الخ يؤكد ان هذا التباين غير قابل للتحول إلى خلاف أمريكي إسرائيلي جوهري، يتلوه ضغط أمريكي جدي على إسرائيل يمكن للفلسطينيين والعرب البناء عليه. وأفقد موقف بوش أي قيمة سياسية عملية او معنوية وجرده من مضمونه الايجابي. وأظهره على أنه مطروح للدعاية وتخدير النظام السياسي العربي في مرحلة التحضير لضرب العراق. ويشبهه الناس في الضفة وقطاع غزة الحديث عن تباين أمريكي إسرائيلي بنكتة سمجة تقال في مجالس العزاء بالشهداء الذين يتساقطون يوميا، وعلى حواجز الرعب والعذاب المنتشرة في كل مكان وفوق ركام المنازل المدمرة.
لاشك في أن من حق أطراف النظام السياسي العربي، وضمنه القوى الوطنية والإسلامية في فلسطين تقديم قراءة خاصة للحركة الأمريكية والأوروبية الأخيرة، ولكن ليس من حق أي فصيل أو حزب فلسطيني دفن رأسه في التراب وتحاشي رؤية سلبيات السياسة الأمريكية على الأوضاع العربية، وخصوصا وضع الشعب الفلسطيني ونضاله العادل والمشروع ضد الاحتلال. ولا أحد يستطيع إنكار أن إدارة بوش لا تعير للعرب شعوبا وحكومات قيمة تذكر. وأنها لم تخطئ وجهتها الداعمة لإسرائيل ظالمة أو مظلومة منذ إستلام بوش الحكم في البيت الأبيض. وان عملية السلام العربية الإسرائيلية باتت تحتل بعد أحداث 11أيلول/سبتمبر درجة ثانية في أولويات إدارة بوش. وان اهتمامها المباشر ينصب على محاربة الإرهاب. ولا حاجة إلى نبي او منجم ينبأ العرب أن رحلة نائب الرئيس الأمريكي “ديك شيني” إلى دول لمنطقة تحمل في طياتها أخطار جسيمة عليهم جميعا. وانه قادم لتهيئة مسرح الإقليم لتقبل الضربة القادمة للعراق وإقناع الزعماء العرب بمساندة الحملة الأمريكية لإسقاط نظام صدام. والضغط على عرفات لوقف العنف والإرهاب الذي يمارسه ضد الإسرائيليين…
صحيح ان المصالح القومية العليا للشعوب العربية تتطلب التعامل بحكمة مع التطورات الدولية، ومع ما يحمله “ديك تشيني”. لكن الحكمة العربية الناقصة تتحول إلى ضعف يشجع على التطاول. خصوصا إذا لم تقرن بموقف واضح وشجاع يؤكد لنائب الرئيس الأمريكي رفض العرب توجيه ضربة للعراق. وان انحياز الإدارة الأمريكية غير المحدود لسياسة شارون، وغياب البعد السياسي في المشاريع الأمريكية الرامية تهدئة الوضع في الأراضي الفلسطينية يؤجج الصراع. ويحوله إلى صراع إقليمي مدمر يطال المصالح الأمريكية والأوروبية في المنطقة. فهل سيسمع ديك تشيني مثل هذا الكلام ؟