المناطق الامنية العازلة تؤجج الصراع ولا توفر الامن للاسرائيليين
بقلم ممدوح نوفل في 20/03/2002
بعد عام من توليه الحكم أعلن شارون في خطاب إلى الإسرائيليين يوم 21 شباط 2002 أن المجلس الوزاري المصغر قرر إقامة “مناطق عازلة” بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية، علما أنه منذ عام 1967 ظل يعارض مبدأ الفصل “الجيوسياسي” بين الشعبين. وفي سياق حملته الانتخابية للفوز بمنصب رئاسة الوزراء، اتهم شارون منافسه”باراك” زعيم حزب العمل السابق بالتخاذل في مواجهة الإرهاب الفلسطيني والاستسلام أمام شروط عرفات ومطالبه. وشن حملة قوية ضد أطروحة قيادة حزب حول “الفصل بين الشعبين باتفاق” التي طرحت في مفاوضات كامب ديفيد ومحادثات طابا. خصوصا أنها تنطلق من دولتين للشعبين وتعتمد حدود 5 حزيران 1967 أساسا لرسم الحدود بين إسرائيل والدولة فلسطينية. وتقسم القدس، وتعطي الفلسطينيين 96% من أراضي الضفة وقطاع غزة، وتتضمن إخلاء عددا كبيرا من المستوطنات وتجميعها في ثلاث تجمعات رئيسية.
واعتبرها شارون خضوعا للإرهاب وتفريطا بحقوق منحها الله لبني إسرائيل، وتعرض امن إسرائيل لأخطار استراتيجية. وتعهد علنا بالقضاء على الإرهاب خلال فترة وجيزة دون اللجوء للفصل. وقال؛ “أنا لا أفرق مستوطنة “نتسريم” الموجودة في قلب قطاع غزة عن مدينة كفار سابا المجاورة لمدينة تل أبيب”. وعندما سأل شارون عن التنازلات المؤلمة التي يمكن أن يقدم عليها من اجل السلام مع الفلسطينيين، أجاب في حينه؛ “عندما أتحدث عن تنازلات فإنني أقصد بذلك عدم احتلال مدن نابلس وأريحا ورام الله وسواها من جديد. وهذا في نظري تنازل مؤلم جدا، لأن جميع هذه الأماكن هي مهد ميلاد الشعب اليهودي. وأنا لا أعرف شعبا في العالم تنازل عن كنوزه التاريخية القومية إلا إذا هزم في الحرب ونحن لم نهزم بل انتصرنا “. وغمز من قناة “اسحق رابين” رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، ورفض قوله، في أعقاب عملية “بيت ليد” التي نفذت مطلع عام 1995 وقتل فيها أكثر من 20 جندي إسرائيلي؛ “إننا نعمل بجد ونشاط من أجل الانفصال عن الشعب الآخر وسنصل لهذه الغاية إن عاجلا أو آجلا”.
بعد فوزه بالانتخابات، لم يتطرق شارون في برنامجه الحكومي إلى مسألة “الفصل بين الشعبين” وإقامة “مناطق عازلة”. وظل يتحدث ضد الفصل بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية، ورفض خطة تفصيلية “للفصل” قدمها قسم التخطيط في الجيش الإسرائيلي بعد ستة أشهر من وجوده في مبنى رئاسة الوزراء وشك; في نجاعتها. وخشي أن يتهمه اليمين برسم حدود الدولية العبرية، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي لا تزال من دون حدود رسمية. وطرح شارون فكرة حل مرحلي طويل الأمد ووافق على إقامة دولة فلسطينية على 42% من الأرض الفلسطينية التي احتلت عام وبصرف النظر عن مواقف الإسرائيليين من خطاب شارون الذي تمحور حول دعوة “شعب الجبارين” للصمود، فأطروحته الجديدة حول إقامة “مناطق عازلة” لمكافحة “الإرهاب الفلسطيني” تتضمن تراجعا عن مواقف سابقة، اضطر له بعد فشل جميع الوسائل العسكرية التي استخدمها (الدبابات والطائرات والاغتيالات والحصار والإغلاق واحتلال مناطق ألف..) في توفير الأمن للإسرائيليين. ورغم أن شارون غلف فكرة المناطق العازلة بالغموض ولم يحدد مواقع هذه المناطق وطولها أو عرضها، ولم يتطرق إلى مصير بقية الأراضي الفلسطينية، وسبل عزل وفصل المستوطنات عن محيطها، إلا أن غلاة اليمين الإسرائيلي المتطرف، علمانيين ومتدنيين” في الليكود، وحزب المفدال الديني المتطرف، وحزب إسرائيل بيتنا بزعامة ليبرمان، وحزب رحبعام زئيفي داعية الترانسفير للفلسطينيين، وتجمعات المستوطنين..الخ عارضوا الفكرة وشنوا هجوما علنيا ضدها. واتهموا شارون بالاستسلام أمام الإرهاب الفلسطيني، وتبني أفكار حزب العمل الداعية إلى التخلي عن (يهودا والسامرا)، “أرض الميعاد التي منحها الرب لبني إسرائيل”، وتغليف استسلامه بشعار” فصل أمني وليس جيوسياسي”.
وبجانب معارضة اليمين، تواجه أطروحة شارون بناء مناطق عازلة إشكالات عملية كثيرة تفقدها نجاعتها، وتجعلها مخرجا وهميا يزيد في تدهور الوضع الأمني عند الجانبين،أهمها: 1) ستحتاج إسرائيل في المرحلة الأولى من خطة شارون شارون، إلى بناء سياج أمني وأسوار الكترونية وحواجز خرسانية ومواقع مراقبة ثابتة في مناطق طولها لا يقل عن 200 كلم، تمتد من “جلبوع” شمال الضفة إلى مرتفعات الخليل جنوبها. وبينت دراسات “لجان الفصل” التي شكلتها الحكومات السابقة، وبخاصة اللجنة التي شكلت في عهد رابين وترأسها وزير الشرطة “شاحال” وضمت وزير المالية “شوحاط” ومندوب عن هيئة الأركان العامة للجيش، أن العملية معقدة جدا وكلفتها المالية باهظة وإنجازها يتطلب وقتا طويلا. وبشان نتائجها المحتملة على الأوضاع الأمنية التكتيكية والاستراتيجية أكدت الدراسات أن خطة الفصل قادرة على تقليص عمليات التسلل إلى داخل إسرائيل لكنها لا تنهيها كليا. ترفع في نسبة الأمن لكنها لا تحققه كاملا ولا تقضي على العمليات الانتحارية وقصف الهاونات وما يشبهها. خصوصا إذا نفذت الخطة من جانب واحد. وأكدت تجربة العزل المفروضة على قطاع غزة منذ مدة صحة هذا الاستخلاص. واضطر الجيش الإسرائيلي إلى اقتحام مناطق فلسطينية المأهولة بالسكان في رفح وغزة ردا على عمليات نفذها فلسطينيون اخترقوا سياجا يشبه السياج الذي ينوي شارون بناءه في الضفة.
2) أظن ان شارون يرفض من حيث المبدأ فكرة فصل القدس الشرقية عن الغربية سواء ببناء جدار أو بالأسلاك الشائكة. ويعرف شارون أكثر من سواه أن حشد آلاف الجنود ورجال المخابرات وإغلاق الشوارع بين شقي المدينة، وخطة”تغليف القدس الكبرى” بالموانع والحواجز الثابتة والطيارة لم يمنع القوى الفلسطينية في العام الأخير من تنفيذ سلسلة عمليات كبيرة وصغيرة في شوارع القدس الغربية الرئيسية قتل فيها وعلى أبواب البؤر الاستيطانية المنشرة في القدس الشرقية عشرات الإسرائيليين. وبديهي القول أن تداخل المستوطنات مع الأحياء العربية جعل “الفصل الأمني” بين الجانبين أمرا شبه مستحيل. وإذا كان شارون وأركانه الأمنيين ورئيس بلدية القدس “أولمرت” لا يستطيعون، لاعتبارات كثيرة، تطبيق سياسة التهجير الجماعي، فإن وجود قرابة 300 ألف فلسطيني ضمن نطاق “القدس الكبرى” يحمل معظمهم الجنسية الإسرائيلية كفيل بنسف خطة شارون من أساسها.
3) لم يتطرق شارون في حديثه عن المناطق العازلة إلى مصير وسبل التعاطي مع مئات ألوف الفلسطينيين الذين يعيشون في مدن قلقيلية وطولكرم وجنين وعشرات القرى والبلدات الواقعة على الخط الأخضر مباشرة. لقد جرب باراك قبل الانتفاضة وبعدها فصل هذه المدن والبلدات عن إسرائيل، وقام الجيش الإسرائيلي، من جانب واحد بهدوء، بإجراءات عملية على الأرض لفصلها عن إسرائيل. وطور بنيان السياج الأمني وأجرى تعديلات طفيفة على الحدود في أكثر من مكان، ونقل سبعة حواجز عسكرية إلى مواقع جديدة شرقي حدود عام 1967، لكن جميع هذه الإجراءات فشلت في منع بضع آلاف من العمال الفلسطينيين من التسلل للعمل في إسرائيل أقام بعضهم فيها أسابع و شهور طويلة. ونجحت جميع التشكيلات العسكرية الفلسطينية في اختراق إجراءات الجيش والشرطة وحرس الحدود، ووصل “الإنتحاريون” وغيرهم مرات عدة إلى قلب حيفا والخضيرة والعفولة وتل أبيب.
4) لم تعالج خطة شارون معضلة أمن المستوطنين والمستوطنات المنتشرة في كل أنحاء الضفة وقطاع غزة، ويرفض إخلاء أي مستوطنة صغيرة أو كبيرة. وإذا كان بإمكان الجيش الإسرائيلي إقامة مناطق عازلة على طول حدود 1967 فهذا أمر يستحيل تحقيقه في محيط المستوطنات. خاصة ان بعضها بني داخل مدن فلسطينية مثل القدس والخليل، وكثير منها مثل بيت إيل وكريات أربع وألفي منشة وأرائيل وكرني شمرون..الخ ملاصق لمدن وقرى فلسطينية، ولا مجال لبناء مناطق عازلة بينها. أعتقد أن هذه النواقص والثغرات الأساسية وسواها في خطة “بناء المناطق العازلة” كافية لتحويل حلم شارون بتحقيق الأمن في بقية عهده إلى وهم خادع، شبيه بوهم فرض الاستسلام على الفلسطينيين الذي خدع به الإسرائيليين في العام الأول من حكمه. ووهم آخر دام 20 عاما بناه أركان المؤسسة الأمنية على المنطقة العازلة الشاسعة التي أقاموها في جنوب لبنان.
لقد خدع شارون الإسرائيليين عام 1982 وغزا لبنان وورط الجيش الإسرائيلي في حرب خرج منها مهزوما، ولن يتأخر أغلبية الإسرائيليين في إدراك مخاطر أطروحة شارون الجديدة. وإذا كان هدف شارون، غير المعلن، رسم خريطة الحل النهائي تحت ستار بناء المناطق الأمنية العازلة، فالشروع في تنفيذ هذا المشروع يقضي على فكرة السلام العربي الإسرائيلي ويؤجج الصراع في المنطقة ويوسع دائرة العنف على أرض فلسطين التاريخية. وفي كل الأحوال لا مناص من متابعة العمل من أجل إحداث تغيير في موقف الشارع الإسرائيلي، وإقناعه بأن حل النزاع “الجيوسياسي” المتعلق بالأرض والحدود والمستوطنات بالقوة يديم النزاع. وأن أمن إسرائيل يتحقق عبر سياج السلام وحده وليس ببناء مناطق عازلة. والمبادرة السعودية الجديدة توفر فرصة ثمينة للإسرائيليين للتخلص من الأوهام والشروع في بناء هذا السياج .