تفعيل المبادرة السعودية يعجل في انهاء مرحلة شارون
بقلم ممدوح نوفل في 01/03/2002
رغم تأكيد الأمير عبد الله، ولي عهد المملكة العربية السعودية، للصحفي الأمريكي “فريدمان”، انه طوى “مبادرة سياسية” كان ينوي طرحها على القمة العربية المقرر عقدها أواخر آذار “مارس” الجاري، وأنه وضعها في الدرج بسبب تصعيد شارون مواقفه المتطرفة وتوسيع ممارساته العدوانية ضد الشعب الفلسطيني وقيادته، إلا أن جميع القوى الدولية والإقليمية الراعية والداعمة لعملية السلام العربية الإسرائيلية تلقفتها فورا، وبدأت تتداولها بحماس قبل أن يطرحها صاحبها رسميا على احد.
وبسرعة قياسية انتقلت “المبادرة السعودية” إلى عواصم الدول الكبرى وأروقة الأمم المتحدة، وحظيت بترحيب دولي وإقليمي واسع. بدءا من الرئيس بوش ومرورا بالإتحاد الأوروبي وروسيا والصين وأمين عام الأمم المتحدة ومعظم الدول العربية، وضمنها منظمة التحرير الفلسطينية، وانتهاء برئيس الدولة العبرية “كساف” ووزير خارجيتها بيريس. ويسعى بعضهم لإخراج المبادرة من الدرج ووضعها فوق طاولة وتحويلها إلى مبادرة دولية. فهل ولدت المبادرة السعودية في ظرف استثنائي أفضل من الظروف التي أحاطت بالمبادرات التي سبقتها وفشلت في معالجة النزاع ؟ وهل الترحيب الشامل يكفي لنقلها من وسائل الإعلام إلى طاولة المفاوضات وجعلها مرجعية جديدة لحل النزاع قابلة للتنفيذ؟ أم أن الترحيب الإسرائيلي غير صادق، والأمريكي مؤقت، ومصير المبادرة ليس أفضل من المبادرات والخطط والتوصيات والاتفاقات التي طرحت في العام الأخير واستهلكتها حكومة شارون ؟
أسئلة كثيرة أثارتها مبادرة الأمير عبداللة والجدل الدائر حولها مرشح للتواصل. وبصرف النظر عن طبيعة المواقف منها، فهي تحمل في طياتها مقومات البقاء موضع تداول في حقل السياسة الدولية فترة طويلة. خصوصا أنها جاءت بعد 17 شهرا من انفجار عملية السلام، ويأس الجميع من تهدئة الوضع على أرض الضفة وقطاع غزة وإعادة الطرفين إلى طاولة المفاوضات. وبلوغ الصراع العربي الإسرائيلي ذروة أزمته، وتبخر الحديث عن السلام في الشارعين العربي والإسرائيلي وأروقة الأمم المتحدة وعواصم الدول الكبرى. وحل محله حديث طويل ممل حول وقف إطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وسبل منع تمدد الحريق المشتعل على أرض فلسطين التاريخية إلى دول أخرى في الإقليم. رافقه حديث آخر حول مراحل الحرب على الإرهاب التي أعلنتها الإدارة الأمريكية بعد الهجوم الإرهابي على واشنطن ونيويورك يوم 11ايلول /سبتمبر الماضي.
ودون انتقاص قيمة أي دولة عربية فان “فكرة” مبادلة انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي العربية، الفلسطينية والسورية واللبنانية، التي احتلتها عام 1967، مقابل اعتراف العرب بإسرائيل وتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية معها، طرحها أكثر من زعيم عربي في العقدين الأخيرين. أولهم “الأمير فهد” في قمة فاس الأولى عام 1982، وآخرهم الزعيم الليبي “معمر القذافي” الذي قال قبل عام في قمة عمان؛ “إما أن نحارب معا أو نصالح معا”. والفكرة ذاتها بحثت في مؤتمرات القمة العربية مرات عدة، ونالت، بصيغة وأخرى، موافقة الزعماء العرب. وعلى قاعدة الأرض مقابل السلام المشتقة منها، شارك أغلبية الدول العربية في “مؤتمر مدريد” للسلام عام 1991. وبعده، شارك بعضها في مؤتمر”متعدد الأطراف”. وبعد اتفاق أوسلو عام 1993، استبق بعض العرب النتائج النهائية للمفاوضات الثنائية ومتعددة الأطراف، وطبّع علاقاته السياسية والاقتصادية مع إسرائيل، وآخرون تسرّعوا وتبادلوا مكاتب التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل، وظلت المكاتب مفتوحة حتى انفجار عملية السلام وتفجر”انتفاضة القدس والاستقلال” الجارية.
وبصرف النظر عن صيغة إعلان الأمير عبدالله عن مبادرته، يفترض أن لا يظهر خلاف عربي حولها. فالعرب كانوا وما زالوا بحاجة ماسة إلى هكذا مبادرة واقعية. والمصلحة القومية العليا المشتركة تفرض تقديمها للعالم فورا لأسباب كثيرة منها: إعادة الاعتبار الدولي لأولوية حل نزاعهم مع إسرائيل واستعادة حقوقهم المغتصبة بعد تراجعه لصالح “الحرب ضد الإرهاب. وهم بحاجة إلى مواقف واقعية وتوجهات عملية قادرة على فضح سياسة شارون العدوانية التوسعية المعادية للسلام. واستدراج تدخل دولي يوقف المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. ودحض تهمة رفض السلام ورفض العروض السخية التي قدمها رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق “باراك”، رفض الصلح والاعتراف بإسرائيل والرغبة في تدميرها..الخ من التهم التي نجحت إسرائيل بترويجها وإلصاقها بهم بعد فشل المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية، وفشل مفاوضات”كامب ديفيد وطابا” مع الفلسطينيين، وانفجار الانتفاضة وتحولها من حركة شعبية سلمية إلى مقاومة مسلحة.
لاشك في أن القمة العربية المقرر عقدها في بيروت أواخر شهر آذار/مارس الجاري سوف تتبنى المبادرة السعودية بأغلبية كبيرة قريبة من الإجماع، في حال شارك عرفات فيها. وستتحول من مبادرة خاصة إلى مبادرة عربية، ليس فقط بسبب ثقل العربية السعودية في إطار النظام السياسي العربي، بل لأن مبادرتها هي السبيل الوحيد لنجاح القمة وخروجها بنتيجة ذات قيمة سياسية ملموسة. أما عدم ترحيب بعض الدول العربية بهذه المبادرة حتى الآن وترحيب البعض بتحفظ، فإنه قابل للتحول إلى موافقة في أول لقاء يجمع المتحفظين بصاحب المبادرة. خاصة أن مضمونها مشتق من استراتيجية السلام العربية. وصاحبها أكد أنه سيطرحها على القمة للنقاش قبل تقديمها للعالم رسميا. وأظن انه يوافق، سلفا، لأشقائه تفصيلها وإضافة ما لم يرد فيها، وبخاصة ما يتعلق بحقوق اللاجئين الفلسطينيين. فهو وجميع المعنيين بحل النزاع العربي الإسرائيلي يؤمنون بأن لا حل نهائي شامل ودائم للمسألة الفلسطينية دون حل قضية اللاجئين بصورة عادلة وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.
والأمير عبد الله وجميع الزعماء العرب وبخاصة قادة الدول التي تزال أرضها محتلة، مقتنعون تماما أن لا أفق لتحول المبادرة السعودية، في عهد شارون وحكومته اليمينية إلى خطة دولية قابلة للتنفيذ. حتى لو أقرت في مجلس الأمن الدولي وجميع هيئات الأمم المتحدة، بسبب أولا، سياسة الإدارة الأمريكية وتوجهاتها بعد 11 أيلول 200، والثاني وجود شارون في قمة الهرم السياسي الإسرائيلي. ولا خلاف عربي على أن إدارة بوش تجنبت منذ توليها الحكم الغوص في حل النزاع العربي الإسرائيلي. ويبدو أنها استخلصت من تجربة كلينتون أن الطرفين ليسا ناضجين للحل ولم تدافع عن خطة ميتشيل التي صنعتها إدارته، وقررت إدارة الصراع وليس حل النزاع. وبعد فوز شارون بالانتخابات زادت قناعة بان لا حل لهذا النزاع في عهد شارون وعرفات. وبعد أحداث 11 أيلول قررت منح محاربة “الإرهاب” أولوية مطلقة وغابت مسٍالة حل النزاع العربي الإسرائيلي من جدول اهتماماتها المباشرة.
صحيح أن الإدارة الأمريكية حريصة على بقاء علاقاتها حميمة مع العربية السعودية، لكن حرصها على تحالفها الاستراتيجي مع إسرائيلي أكبر وأشمل، لاعتبارات داخلية وخارجية كثيرة. وإدارة بوش ليست على استعداد دخول معركة مع اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس وخارجه من اجل صداقتها مع العربية السعودية وبقية العرب. ولا خلاف عربي حول ان شارون رائد التوسع والاستيطان لم يتغير بعد انتخابه رئيسا للوزراء. كان وما زال معاد للسلام مع العرب. يرفض الانسحاب من الضفة والقطاع باعتبارها أرض الميعاد. ومن رفض تنفيذ تفاهمات “جورج تنيت” مدير وكالة المخابرات الأمريكية ورفض خطة “ميتشيل” لن يقبل بمبادرة عربية تطالبه بالانسحاب من جميع الأراضي التي احتلتها عام 1967 وعودة القدس العربية إلى السيادة الفلسطينية، وتفكيك المستوطنات وحل قضية اللاجئين بصيغة تلبي الحد الأدنى من حقوقهم كما حددتها قرارات الشرعية الدولية، حتى لو كان العرض العربي مغريا.
وأنصار السلام في إسرائيل مقتنعون أكثر من العرب، بأن إيعاز شارون لرئيس الدولة “موشي كساب” الترحيب بالمبادرة السعودية وتوجيه الدعوة للأمير عبدالله لزيارة إسرائيل، يندرج في إطار وضع العصي في دواليب المبادرة السعودية، ووقف تفاعلاتها داخل المجتمع الإسرائيلي وفي الساحة الدولية. وحديث شارون مع منسق العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي “خفير سولانا” واستعداده اللقاء بمندوب عن القيادة السعودية سرا وعلنا وفي الزمان والمكان الذي تحدده، محاولة للتذاكي وقطف بعض ثمار المبادرة السعودية دون دفع ثمنها.
وبرغم ذلك كله أرى أن انغلاق أفق صنع السلام بين العرب وإسرائيل في عهد شارون ـ بوش، لا يفقد مبادرة الأمير عبدالله قيمتها بل يزيده. وهي قبل تحولها إلى مبادرة عربية جماعية وفرت للعرب قاعدة أساسية لاستعادة زمام المبادرة السياسية بعد أن فقدوه طويلا. وهيأت لهم المناخ المناسب لإدارة الصراع في الحقل الدولي بصورة أفعل. وحركت الجهود الدولية لحل النزاع العربي الإسرائيلي من جديد. وفرضت على الإدارة الأمريكية القيام بخطوة، ولو بالشكل” لترجمة ترحيبها بالمبادرة، وأرسلت إلى الرياض مبعوثا خاصة لبحث تفاصيلها مع القيادة السعودية. وفتحت المبادرة أمام أنصار صنع السلام في المنطقة نافذة واسعة في جدار الجمود الذي انتصب في وجه الجميع بعد فوز شارون برئاسة الوزراء ونجاحه في جذب بيريس وأركان حزب العمل إلى حكومة إتحاد الوطني.
إلى ذلك كله، لا يجوز التقليل من فعل المبادرة السعودية، المباشر واللاحق، داخل المجتمع الإسرائيلي. فقد كشفت للأغلبية في إسرائيل زيف ادعاءات شارون وحزب الليكود واليمين المتطرف أن الفلسطينيين والعرب يرفضون الإقرار بوجود إسرائيل ويرفضون الاعتراف بها ويسعون إلى تدميرها. وحشرت ” بيريس” وزعيم حزب العمل “بن اليعازر” وبقية وزراء حزب العمل في حكومة شارون في زاوية سياسية ضيقة. وزودت قوى السلام وأنصاره في إسرائيل، وضمنهم كوادر وقواعد حزب العمل، بمقومات اليقظة من السبات والحيرة والارتباك الغارقين فيها. ووفر لهم سلاحا سياسيا يمكنهم استخدامه في تفعيل حركتهم لفك التحالف غير المقدس والضار بالسلام، القائم بين بيريس وبن أليعازر وشارون. باعتبار ذلك خطوة مفصلية لا غنى عنها للانطلاق في رحلة الإطاحة بحكومة شارون. والانتقال لبحث جدي مع القيادة الفلسطينية والسورية واللبنانية حول إنهاء الاحتلال والانسحاب من الأراضي العربية التي احتلت عام 1967. وحول سبل تحويل أفكار الأمير عبدالله إلى اتفاقات سلام عربية ـ إسرائيلية وخطوات تطبيع عملية ملموسة.
لا جدال في أن تحول المبادرة السعودية إلى مبادرة عربية يزيد في هذه الإنجازات الهامة، ويفرض على صاحبها وجميع الحكومات العربية حمايتها من التبديد والاستهلاك. ووضع خطة عمل متكاملة وآلية تفصلية لمتابعتها في الحقل السياسي الإسرائيلي أولا والدولي ثانيا. والفلسطينيين معنيون أكثر من سواهم بخلق الظروف المناسبة لتفعيل المبادرة السعودية قبل قمة بيروت وبعدها. والواقعيون منهم يؤمنون، رغم المجازر التي ارتكبها شارون في مخيمي بلاطة وجنين، أن العمليات العسكرية التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين في إسرائيل تضعف قدرة الفلسطينيين والعرب على جني ثمار هذه المبادرة الواقعية القيمة.
ـ