سقف مهمة الجنرال زيني هدنة أمنية مؤقتة
بقلم ممدوح نوفل في 18/03/2002
مطلع آذار “مارس” أظهر استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أجرته صحيفة “معاريف” واسعة الانتشار تفوق نتنياهو على شارون بعشرة نقاط. وقال 68% من الإسرائيليين أنهم مقتنعون أن وضع إسرائيل بعد عام من حكم شارون أسوء مما كان عليه قبله. وقال 78% أن خطته حكومته الاقتصادية فشلت. وقال 61% أنه فشل في تحقيق الأمن، وزاد عدد العمليات “الإرهابية” في عهده وارتفع عدد القتلى. وبعد يومين من هذا الإستطلاع، قال شمعون بيريس للصحافة اثر اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي يوم 5 آذار”مارس”: “لو كنت اعرف أن الوضع سيصل إلى ما وصل إليه لما كنت شاركت في هذه الحكومة لأننا لم نحقق أي هدف”.
أعتقد أن نتائج هذا الإستطلاع والجملة المفيدة التي قالها “شمعون بيريس” تقيمان بدقة العام الأول عمر حكومة شارون. بيريس كان أبرز المنظرين لمشاركة حزب العمل في حكومة إتحاد وطني برئاسة شارون، وهو من السياسيين المخضرمين القادرين على استشفاف آفاق المستقبل وتحسس العاصفة قبل هبوبها والقفز من السفينة قبل غرقها. واعترافه بفشل الحكومة التي أرسى أسس قيامها مؤشر إلى أن فترة العد التنازلي لوجود حكومة شارون قد بدأ.
شارون وبيريس وجميع السياسيين الإسرائيليين المحترفين يؤمنون باستطلاعات الرأي العام ويتأثرون بها، ويتعاطون معها حسب مصالحهم الحزبية والشخصية. مصالح بيريس الشخصية والحزبية دفعته بعد عام من الشراكة إلى البدء بالتكيف مع الرأي العام الإسرائيلي بعد تعرض شارون وسياسة حكومته للقصف بقذائف نقد ثقيلة. وشروع على ما يبدو في تهيئة الرأي العام وتحضير قواعد الحزب لتقبل خروجه وخروج حزبه من حكومة الإتحاد الوطني. أما شارون فمصالحه الشخصية ومصالح حزبه”الليكود” تدفعه بذل كل جهد مستطاع لتعديل النسب التي أظهرها استطلاع الرأي. ولتحقيق ذلك آثر شارون تركيز جهوده في الحقل الأمني باعتباره حقله المفضل والأكثر حساسية عند الإسرائيليين ويتقن اللعب فيه. وقفز شارون عن الحقل الاقتصادي لمعرفته أن لا حلا سحريا لتدهور الاقتصاد الإسرائيلي، وانتعاشه مرتبط بوقف الانتفاضة، واستقرار الوضع الأمني، وتخلص الاقتصاد العالمي من حالة الركود التي يمر بها.
ويعتقد شارون أن قدرات جيش الدفاع الإسرائيلي وخبرته في محاربة “الإرهاب” تكفي لتحقيق إنجازات سريعة يوظفها في تحسين صورته. وأمر قادة أذرع الأمن اقتحام مخيمي بلاطة وجنين ومدن قلقيلية ورام الله والبيرة وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور. وظن ان عرض صور الدبابات الضباط والجنود الإسرائيليين داخل المدن والمخيمات الفلسطينية، يعيد صورته أمام الجمهور، صانع المعجزات الأمنية، التي على أساسها انتخبوه العام الماضي بنسبة عالية أذهلت الجميع.
وحدد شارون هدف هذه العملية النوعية الواسعة؛ ضرب البنية التحتية للإرهاب وتدمير”مصانع”الذخيرة والمتفجرات..اعتقال”المخربين” الذين لم يعتقلهم عرفات. تعطيل انطلاق “الانتحاريين” لتنفيذ عمليات جديدة في إسرائيل. الضغط على الفلسطينيين شعبا وقيادة وإخضاعهم لشروطه. وإقناعهم بالقوة أن أزقة المخيمات والشوارع الضيقة في المدن والقرى لا توفر الأمن الشخصي لأحد. وابلغ شارون أركان الإدارة الأمريكية بقراره ونال موافقتها، مرفقة بتمنيات إختصار المدة الزمنية للعملية وتقليص إراقة دماء المدنيين قدر الإمكان…
تلقف رئيس الأركان ونائبه القرار بحماس وشرعا في تنفيذه بأمل إنقاذ سمعة الجيش وسمعتهما الشخصية. ورفض شارون وموفاز الأخذ بتحذيرات قائد المنطقة الوسطى في الجيش ورئيس شعبة الاستخبارات العسكرية” من خطورة العملية، وأن نتائجها ستكون ضئيلة ولا تستحق المجازفة. ورفض سماع تحذير خبراء ومحللين إستراتيجيين إسرائيليين ضمنهم سياسيين وعسكريين متقاعدين، من رد الفعل الفلسطيني والعربي والدولي. وتوقع بعضهم فشل العملية. وشبهوا مهمة الجيش خصوصا اعتقال المطلوبين في المدن والمخيمات ومصادرة الأسلحة، بأحمق أضاع وقته في البحث عن إبرة في كومة قش.
ما توقعه الخبراء والمحللون حصل، ولم يفلح الجيش الإسرائيلي باعتقال المطلوبين. وعثر على قليل من الأسلحة الخفيفة والمتفجرات وصفت بأنها محدودة ولا تؤثر في حجم ونوعية سلاح الفلسطينيين. ودمر عديد المنازل بنتها وكالة غوث اللاجئين. وصبغ خطته بلون الدم، وقتل ما يزيد على سبعين فلسطيني وجرح أكثر من 300 في أقل من أسبوع. وفي اليوم الثاني من اقتحام مخيم بلاطة تبجح جنرال إسرائيلي عنصري وقال “شبهوا لنا مخيم بلاطة بالنمر الكاسر لكن النمر تحول إلى قط”. ولم يفكر شارون وأمثال هذا الجنرال برد الفعل الفلسطيني ونتائج إحياء ذكرى مجازر صبرا وشاتيلا في ذهن الفلسطينيين، وبث اليأس والحقد والكراهية في نفوسهم.
وقبل إكمال الجيش الإسرائيلي مهمته نفذ فلسطينيون عدة عمليات عسكرية مؤلمة؛ فجر أحد “الانتحاريين” من مخيم الدهيشة نفسه في حي “بيت يسرائيل” في القدس الغربية. وهاجم قناص حاجز “عيون الحرامية”، المشهور بتنكيله بالفلسطينيين. ودمر مقاتلون فلسطينيون دبابة ثانية من نوع “مركبا” في قطاع غزة، وأعطبوا ثلاث آليات عسكرية في رام الله، وهاجموا قافلة عسكرية تحرس حركة المستوطنين، وأخرى في شمال إسرائيل. وقتل في هذه العمليات ما يزيد على 30 إسرائيلي. وصمت الجنرال صاحب “قصة النمر الذي تحول إلى قط” بعد نجاح “قط” صغير ذكي في قنص جميع أفراد طاقم حاجز “عيون الحرامية” على طريق نابلس رام الله.
وذهل شارون وأركانه من فشل أفراد جيش الدفاع في الدفاع عن أنفسهم، وفشل أذرع الأمن الإسرائيلية في منع وقوع العمليات واعتقال المطلوبين. وارتفعت أصوات قوية يمينية طالبت بإعلان الحرب الشاملة ضد الفلسطينيين وتدمير تنظيم فتح وسلطة عرفات. قابلها أصوات من اليسار دعت لنبذ الحل العسكري والعودة لطاولة المفاوضات وإنهاء احتلال الضفة والقطاع. وكلا الاتجاهين، اليميني واليساري، اتهم شارون بالفشل في تحقيق الأمن.
أعتقد أن الأزمة الفلسطينية الإسرائيلية بلغت ذروتها وبدأ العد التنازلي للمرحلة حكم شارون. وأي استطلاع جديد للرأي العام الإسرائيلي يظهر خسارة شارون نقاطا إضافة للنقاط الأربعين التي خسرها في العام الأول من حكمه. وسيخسر في الأسابيع والشهور القليلة القادمة مزيدا من رصيده. ولن ينجح شارون في وقف خسارته ووقف تدهور شعبيته وتدهور أوضاع حكومته. خاصة لا أفق لحسم المعركة ووقف عمليات الفلسطينيين بالعمل العسكري. ومسار الحرب على المدن والمخيمات، ورفع معدل الشهداء من أربعة إلى عشرة يوميا، يؤجج الصراع ويزيد العمليات ضد الإسرائيليين ويوسع دائرة المنخرطين فيها ويجعلها أكثر دموية.
إلى ذلك، يخطئ من يعتقد أن فترة العد التنازلي لحكم شارون قصيرة، بل ستكون طويلة وقاسية على الفلسطينيين والعد فيها بطيء. لأسباب عدة منها؛ شارون ليس من صنف البشر الذي يعترف بفشله ويعتكف في منزله، كما فعل “بيغن” وقبله “بن غوريون” عندما واجهوا أزمات كبيرة. بل من الصنف العنجهي العنيد المغامر الذي يرفض الاعتراف بالحقائق المرة، ويهرب دائما إلى الأمام بأمل تحقيق نجاحا جديدا يغطي فشله. وأعماله الأخيرة تؤكد انه يتصرف على قاعدة ما لم يتحقق بالقوة الحالية يتحقق بقوة أكبر. والسبب الثاني هو ضعف المعارضة. صحيح ان نسبة عالية من الإسرائيليين بدأت تتفهم خطورة توجهات شارون وبدأت تلمس فشل خطته الأمنية العسكرية، إلا أن المعارضة المنظمة ليست في وضع يمكّنها تقصير فترة حكم شارون. وأوضاع حزب العمل مترهلة ولا يملك برنامجا بديلا يلتف حوله الإسرائيليون، وانسحابه من حكومة الإتحاد الوطني قد لا يتم في وقت قريب.
والسبب الثالث يتعلق بموقف الإدارة الأمريكية الداعم لسياسة شارون والمحبط لقوى السلام في إسرائيل. وهي لا تكتفي بالإمتناع عن توجيه أي نقد لسياسة شارون يفيد المعارضة، بل تشجع بيريز وبن اليعازر على البقاء في حكومة شارون وعدم الانسحاب منها. صحيح أن إدارة الرئيس بوش ضغطت على شارون وأجبرته وقف عملياته الحربية داخل المدن والمخيمات الفلسطينية، وأرسلت المبعوث الجنرال “زيني” للمنطقة من جديد، واتخذت موقفا إيجابيا من مبادرة السلام السعودية التي أطلقها الأمير عبد الله، وصوتت بجانب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1397. لكن الصحيح أيضا أن هذه الخطوات الإيجابية الصغيرة جاءت بعد تعرضها لنقد دولي شامل وضغوط أوروبية وعربية واسعة. وفشل شارون في إخضاع الفلسطينيين ضمن المهلة الزمنية التي منحتها له، وتحطم مخططه الأمني على صخرة الصمود الفلسطيني. وبلوغ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منعطفا خطيرا ينذر بتحوله إلى صراع إقليمي يفسد التوجهات الأمريكية في مواصلة الحرب ضد الإرهاب التي أعلنتها بعد أحداث 11أيلول “سبتمبر” 2001 .
لا شك في أن الإدارة الأمريكية تبقى الجهة الوحيدة القادرة على وضع حد لتهور شارون في فترة نزوله من قمة الهرم السياسي، لكن يخطئ من يعتقد أنها في وارد ممارسة ضغط جدي عليه وإلزامه بالتراجع عن توجهاته الحربية العدوانية المدمرة لفكر السلام. بامكان الإدارة الأمريكية إرغام شارون على ما هو أكبر من سحب قواته فورا من الأراضي الخاضعة للسيادة الفلسطينية لكنها لا تفعل ذلك. واللقاءات الأولى مع المبعوث الأمريكي “الجنرال زيني” بينت للفلسطينيين أن مهمتة لا تتعدى تبريد الصراع. وهمه الأساسي يتركز حول التوصل إلى إتفاق وقف إطلاق النار بين الجانبين على قاعدة الخطة التي وضعها مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية “جورج تنيت”. أما حديثه عن تنفيذ توصيات “ميتشيل” التي تلزم شارون بوقف جميع أشكال الاستيطان فسوف يتبخر بعد جمع الطرفين داخل غرف المفاوضات، والشيء ذاته بشان مبادرة ألأمير عبدالله للسلام. وأظن ان مصير اتفاق وقف إطلاق النار،المرتقب، لن يكون أفضل من مصير الاتفاقات التي سبقته، ولن يكون أكثر من هدنة عسكرية مؤقتة، طالما ظل شارون رئيسا للوزراء، وظلت الإدارة الأمريكية ترفض وجود مراقبين يراقبون وقف النار. ويبقى الحل السياسي رهن بتكريس فشل سياسة شارون وتعجيل العد التنازلي لفترة حكمه. وهذا الذي يجب ان ينال أهمية استثنائية في توجهات السياسية العربية، وفي برنامج النضال الفلسطيني ضد الإحتلال.