المؤتمر الاقليمي قنبلة دخانية هدفها تغطية جرائم شارون
بقلم ممدوح نوفل في 19/04/2002
إطلاق شارون وأركان المؤسسة العسكرية الإسرائيلية اسم “الجدار الواقي” على عمليات قتل الأطفال والشيوخ والنساء وتدمير المخيمات والمؤسسات والممتلكات ضد الفلسطينيين، لا يتناقض مع تعريف الفلسطينيين لها؛ أنها أول حرب فلسطينية إسرائيلية منذ نكبة عام 1947 ـ 1948، ارتكبت فيه المؤسسة السياسية العسكرية الإسرائيلية جرائم. خططت لها جيدا ووفرت مستلزماتها الأساسية، المادية والدعائية. وهي الثانية، بعد الحرب الشهيرة التي وقعت على الأرض اللبنانية في العام 1982، ودامت قرابة 90 يوما. وليس من قبيل الصدفة وقوع كلا الحربين في عهد شارون؛ في الأولى كان وزيرا للدفاع، وفي الثانية رئيسا للوزراء. وفي كلا الحربي حصل شارون على مصادقة أمريكية قبل وقوعها؛ الأولى باركها “ريغن” وسقط وزير خارجيته “هيغ” قبل توقفها، والثانية باركها بوش وأركان إدارته واعتبروها دفاعا عن النفس، ولا تزال تفاعلاتها الدولية والإقليمية وداخل الأمم المتحدة جارية.
وأيا تكن ملاحظات القوى الفلسطينية والعربية صحيحة حول نواقص عملية السلام واتفاق أوسلو، وطبيعة السلطة الفلسطينية التي انبثقت عنه، فهي التي وفرت مقومات وقوع هذه الحرب في الزمان والمكان اللذين وقعت فيهما. حشدت إسرائيل أربع فرق عسكرية تساندها أحدث الطائرات الأمريكية، واستدعت لأول مرة منذ عشرين عاما 30 ألف رجل من قوات الاحتياط. واستخدمت ما يمكن استخدامه من وسائل قتالية متوفرة للجيش الإسرائيلي في مواجهة شعب أعزل من السلاح، وضد تنظيمات سياسية بنت لنفسها تشكيلات عسكرية محدودة العدد والعتاد. وتركز الهجوم الإسرائيلي على أجهزة السلطة الفلسطينية التي أفرزها أسلو، وظل تسليحها أفرادها كميات محدودة من المتفجرات والأسلحة الخفيفة. ولم يجري تدريبها وتجهيزها وإعدادها، معنويا وعسكريا، لخوض الحرب، وقاتل بعضها في صيغة مليشيا شعبية غير منظمة.
والمبررات التي ساقها شارون لعملية “الجدار الواقي” لا ولم تفلح في إخفاء أهدافها الحقيقية. وهي الأهداف المركزية ذاتها التي حددها شارون لنفسه قبل فوزه برئاسة الوزراء وظل يرددها طيلة العام الأول من حكمه: أولا، توفير الأمن العام والشخصي للإسرائيليين بالاعتماد طاقات إسرائيل وإلغاء فكرة الاعتماد الاتفاقات الموقعة مع السلطة الفلسطينية. وفصل أمن إسرائيل عن المفاوضات السياسية ونتائجها المحتملة. ثانيا، تدمير أسس ومرتكزات عملية السلام مع الفلسطينيين، ونسف اتفاق اوسلو وجميع الاتفاقات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تم التوصل إليها. ثالثا، تدمير السلطة الفلسطينية وضمنها أجهزة الأمن وتجريدها من أسلحتها، وخلق مبررات للاستمرار في احتلال بصيغة وأخرى. وتدمير البنية التحتية الفلسطينية ونسف مقومات قيام دولة فلسطينية مستقلة. والتخلص من عرفات باعتباره “منبع العنف والإرهاب في المنطقة وزعيم عصابة إرهابية”، وتشكيل قيادة بديلة شبيهة بقيادة “أنطوان لحد وسعد حداد” العميلة. رابعا، فرض تسوية سياسية أساسها “دويلة” فلسطينية في قطاع غزة ونصف أراضي الضفة الغربية فقط والمضي قدما في استيطان النصف الآخر تمهيدا لضمه، وجعل القدس المدينة موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل. وأضاف في الآونة الأخيرة أهداف حزبية خاصة.
والتدقيق في مدى اقتراب شارون من تحقيق هذه الأهداف يؤكد: نجاحه بامتياز في جر المجتمع الإسرائيلي للحرب تماما كما حصل عام 1982. وورط حزب العمل في ترويج أفكاره المتطرفة في الشارع الإسرائيلي وشغّل أركان حزب العمل في تسويقها في الساحة الدولية، وفي تنفيذ توجهاته المعادية للسلام مع العرب والفلسطينيين الذي ينادي به حزب العمل. وثبت شارون وضع حكومته حتى آخر يوم من مدتها القانونية بنهاية عام 2003. وكرس زعامته لليمين وتخلص من شبح منافسه نتنياهو الذي كان يطارده. وضمن الفوز بزعامة الليكود أربع سنوات إضافية في المؤتمر الذي سيعقده الحزب بعد أقل من شهرين. وزاد في ثقل اليمين في الشارع الإسرائيلي وفي احتمال هيمنة المتطرفين العنصريين على السلطة أربع سنوات إضافية. لاسيما أن المواطن الإسرائيلي لم يعد قادرا على تمييز العمل وزعامته عن الأحزاب اليمينية المتطرفة وزعمائها. وشمعون بيريس وبن اليعازر عملا نجارين بارعين في ورشة شارون، ودقا آخر مسمار في نعش حزب العمل الذي أسهموا في تأسيسه. وبات هذا الحزب عاجزا عن المنافسة في الانتخابات القادمة، ولا مجال لإعادة تأهيله قبل الانتخابات القادمة ويتوقع أن يشهد مزيدا من التمزق بعد توقف الحرب.
صحيح أن شارون فشل في تحقيق الأمن، وخسائر إسرائيل البشرية والاقتصادية والسياسية في عهده كبيرة، وأعماله ضد الشعب الفلسطيني ترقى إلى مستوى جرائم حرب، تستدعي محاكمته دوليا وداخل إسرائيل ومنعه من تبؤ أي مركز سياسي كما حصل في العام 1982..الخ إلا أن انجراف المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف وغياب المعارضة الفعّالة، كفيل في المدى المباشر بتحويل الفشل إلى انتصار، وتحويل جرائمه إلى أعمال بطولية ضد الإرهاب والإرهابين. وتواطؤ إدارة الرئيس بوش مع شارون ومباركتها جرائمه، تعزز مواقفه في مواجهة صوت أنصار السلام في إسرائيل والعالم، وتحول دون مثوله أمام المحاكم الدولية المتخصصة بمحاكمة مجرمي الحرب. خاصة أن التهم الموجهة إليه تطال الرئيس الأمريكي ” بوش” وأركان إدارته. واعترافاته أمام هذه المحاكم “إذا اعترف” تضعهم بجانبه في قفص الاتهام، كشركاء في الجريمة. التي وصفها “تري لارسن” ممثل الأمين العام للأمم المتحدة “فظيعة تفوق التصور”.
إلى ذلك، يسجل لشارون نجاحه بامتياز بتدمير اوسلو وما انبثق عنه من اتفاقات وعلاقات سلام فلسطينية إسرائيلية وبما هو أخطر من ذلك. فقد أعاد منطقة الشرق الأوسط برمتها إلى أجواء خمسينات وستينات القرن الماضي، وكرس سيادة الأفكار المتطرفة على ضفتي الصراع لسنوات.
ونشر شارون وأركانه في الشارع الإسرائيلي بذور جديدة للكراهية والعداء للعرب والفلسطينيين. وأحيى مكونات الحقد الفلسطيني العربي القديمة على إسرائيل، وأضاف إليها مكونات جديدة أقوى وأعمق. وسوف تبقى مجازر الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين ونابلس، وحصار الرئيس عرفات، والتنكيل بالفلسطينيين في المناطق الأخرى، وإهانتهم وإذلالهم وحبسهم في مدنهم وتجويعهم، وتدمير ممتلكاتهم.. الخ حية في ذاكرة الفلسطينيين سنين طويلة، ووصمة عار في جبين عملية السلام وحزب العمل الذي ساهم فيها. وستبقى حواجز عالية تحول الوصول إلى السلام الحقيقي بين الشعبين في العقد الأول من الحالي الجديد.
ودعوة شارون إلى مؤتمر إقليمي للسلام يعقد في واشنطن، حدد سلفا حق المشاركة فيه، ليس أكثر من لعبة إعلامية عمرها قصير، فبركها شمعون بيريس. وأطلقها شارون في صيغة قنبلة دخانية في سماء المنطقة، بهدف تغطية الجرائم البشعة التي جيشه ضد الفلسطينيين وتمويه موقفه الحقيقي المعادي للسلام مع العرب، والرد على ادعاءات الأوروبيين والفلسطينيين والعرب، وبعض الإسرائيليين انه لا يملك تصورا سياسيا لحل النزاع العربي الإسرائيلي، والظهور أمام العالم بمظهر من يملك تصورا لحل هذا النزاع. والتشويش على مبادرة السلام التي طرحها الأمير عبد الله وتحولت في قمة بيروت إلى مبادرة عربية.
وبعد الذي جرى على الأرض الفلسطينية ساذج من ينضم للرئيس بوش ويصدق أن شارون “رجل سلام”، جاد في الدعوة إلى مؤتمر إقليمي أو دولي للسلام في الشرق الأوسط، وانه يملك خطة سلام حقيقي يطرحها على المؤتمر. أو أن مؤتمرا للسلام بين العرب وإسرائيل يمكن أن يعقد في وقت قريب. خصوصا أن شارون استثنى مشاركة عرفات وسوريا ولبنان والإتحاد الأوروبي وروسيا. ونزع فكرة السلام بين الشعبين من ذهن جيل من الفلسطينيين والإسرائيليين وجيشه ماض في تدمير المجتمع الفلسطيني ودفعه نحو التطرف. وصار الحديث عن السلام الفلسطيني الإسرائيلي لا لون ولا طعم له، ورائحته في المدن والمخيمات والقرى الفلسطينية تذكر الفلسطينيين بالمجازر التي ارتكبها شارون وشريكه بوش راعي عملية السلام. وترحيب وزير الخارجية الأمريكية بدعوة شارون لهذا المؤتمر يشير إلى أن إدارة الرئيس بوش مصممة على غسل يدي شارون من الدم الفلسطيني.
ويعتقد شارون أن إسرائيل بالتعاون مع الإدارة الأمريكية يمكنها أخذ حصتها من المبادرة السعودية ـ عربية دون مقابل. والضربة القوية التي وجهها للفلسطينيين، وظهور عضلات إسرائيل العسكرية في الحرب، وانكشاف ضعف النظام الرسمي العربي..الخ يفرض على القيادة الفلسطينية والزعماء العرب الموافقة على المؤتمر والزحف لواشنطن راكعين على ركبهم. وإشارة “باول” إلى أن اللقاء يمكن عقده على مستوى وزراء الخارجية، فيها استخفاف بعقل الحاكم العربي وتحقير للحركة الشعبية، التي طافت شوارع المدن العربية من المحيط إلى الخليج. وتتضمن عزم الإدارة طمس معالم الجريمة التي ارتكبها شارون ودعم توجهاته وفرض الاستسلام على العرب.
وإذا كان لا مجال لمراجعة المواقف من عملية السلام واتفاق اوسلو، فإنصاف الحقيقة التاريخية، وإكرام الشهداء، الأحياء منهم والأموات، يفرض على من اتهموا عرفات “وزمرة اوسلو” بالاستسلام والخيانة الوطنية، واتهموا القيادة الفلسطينية بالتفريط والتخاذل والاستسلام، واتهموا أجهزة الأمن الفلسطينية بالتحول إلى عملاء وأدوات في يد الاحتلال ..الخ أن يعترفوا للتاريخ أنهم تسرعوا واخطئوا في تقدير الموقف. ويعتذروا للجمهور الفلسطيني الذي أساءوا توجيهه وتعبئته. ولا يستطيع ألد أعداء عملية السلام إنكار أنه لو يكن هناك اتفاق اسمه اتفاق اوسلو لما وقعت هذه الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الثانية على الأرض الفلسطينية. وأن أجهزة الأمن الفلسطيني نالت شرف الدفاع عن شعبها، وسقط من أفرادها وكوادرها مئات الشهداء واعتقل الآلاف منهم. وما تم بناؤه في عهد السلطة كان هدفا رئيسيا لحرب شارون. وبالرغم من الدمار الهائل الذي لحق بالأجهزة الأمنية والمدنية تبقى عقبة رئيسية تحول دون نجاح شارون في تحقيق أهدافه.
والمطالبة الآن بمثل هذا الاعتراف والاعتذار له ضرورته الوطنية وخاصة ما يتعلق بإدارة المعركة السياسية بعد انقشاع غبار الحرب، وإعادة بناء ما دمره شارون. والارتقاء بالفكر السياسي الفلسطيني والتخلص من ارث الماضي السياسي والتنظيمي البغيض، الذي ساهم في وصول شارون إلى قمة الهرم السياسي في إسرائيل، وسهل له الاستفراد بالشعب الفلسطيني. وقبل ذلك كله وضع خطة تحرك سياسي قادرة على التعامل مع الدعوة إلى مؤتمر إقليمي للسلام ترعاه الإدارة الأمريكية.