أفق المؤتمر الدولي لحل النزاع قاتمة
بقلم ممدوح نوفل في 14/05/2002
قبل وبعد انتهاء حصار القوات الإسرائيلية مقر الرئيس عرفات في رام اللة وكنيسة المهد في بيت لحم، كثر الحديث في المحافل السياسية الدولية والإقليمية حول استئناف الجهود لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وازدحمت أجواء المنطقة بمشاريع الحلول، وطرحت أفكار كبيرة من نوع مؤتمر إقليمي ومؤتمر دولي. وبعثت الحياة في “المبادرة السعودية”، و”الرؤية الأمريكية”، وتحمس البعض وتحدث عن أفق جديد لحل النزاع السوري واللبناني الإسرائيلي بجانب النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وزار واشنطن عدد من زعماء المنطقة. ويتوقع ان يصل المنطقة في الأسابيع القادمة مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية “جورج تنيت” والمبعوث الأمريكي “زيني”، يليهما وزير الخارجية “باول” وعدد من الوزراء الأوروبيين.
فهل في الأفق ما ينبأ بقرب التوصل إلى حل للنزاع، أم أن أقصى ما يمكن إنجازه على الجبهة الفلسطينية اتفاقا مرحليا جديدا، والوضع على الأرض الفلسطينية وجبهة والجولان وجنوب لبنان باق على حاله فترة طويلة، وقد يتدهور أكثر في الأسابيع والشهور القادمة ؟
يجمع أنصار صنع السلام على أن عملية “الجدار الواقي” أو “الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الثانية” كما يسميها الفلسطينيون، أكدت حقيقتين سياسيتين رئيسيتين؛ الوقت ملح أكثر من أي وقت مضى لإيجاد حل سياسي للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي والسوري الإسرائيلي وترسيم الحل على الجبهة اللبنانية. وأن الأعمال العسكرية من الطرفين، دفاعية أو هجومية لا تحل الإشكال، وتخلق مضاعفات وتفاعلات تؤثر في أوضاع قوى إقليمية كثيرة. والحقيقة الثانية، هي أن التأخر في وصول هذا الحل يزيد الخسائر البشرية والاقتصادية في الجانبين، ويزيد في تعقيد أزمة الشرق الأوسط، ويقربها من حافة الانفجار الشامل ويعرض مصالح قوى دولية للخطر.
ولدى تفحص الأفكار العملية المطروحة للحل يتبين أن المشروع الرئيسي الذي يستحق التوقف أمامه، هي دعوة الإدارة الأمريكية ومعها الاتحاد الأوروبي وروسيا وأمين عام الأمم المتحدة، إلى عقد مؤتمر دولي لمعالجة النزاع. أما فكرة المؤتمر الإقليمي التي طرحها شارون فلم تستطع شق طريقها إلى الحياة وماتت بسرعة دون إعلان رسمي عن وفاتها. وبينت الردود عليها أنها فكرة خيالية، أرادها صاحبها “شارون” قنبلة دخانية تغطي جرائمه التي ارتكبها ضد الفلسطينيين، وتضليل أصوات كثيرة ارتفعت داخل إسرائيل وخارجها طالبت بتوضيح الأهداف السياسية للحرب وسبل تحقيقها. وفشل شارون قبل رحلته الخامسة إلى واشنطن بإقناع بيريس وبن اليعازر وآخرون في إسرائيل تبني فكرته، ورفضها أيضا العرب والفلسطينيون قبل قراءتها، ولم يجد في الأمم المتحدة والبيت الأبيض ودول الاتحاد الأوروبي من يشتريها.
وبشان آفاق المؤتمر الدولي الذي دعت له الأطراف الأربعة وضمنها إدارة بوش، آمل أن لا أتهم بالتسرع ونشر اليأس والإحباط وتسويد صورة المؤتمر قبل عقده؛ الفكرة جميلة، لكن التناقض في المفاهيم والأهداف بين طرفي النزاع “العرب وإسرائيل” يؤكد أن ليس كل ما يلمع هو ذهب. فهناك عقبات كثيرة تحول دون عقد هذا المؤتمر، بدءا من صعوبة الاتفاق حول أهدافه وأسس وقواعد انعقاده وجدول أعماله، وانتهاء بتحديد المشاركين ومستوى التمثيل فيه. العرب يريدون المؤتمر الدولي “المنتظر” إطارا لتنفيذ “رؤية” الأمير عبدالله التي تحولت في قمة بيروت إلى خطة سلام عربية، جوهرها انسحاب القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في العام 1967، مقابل الاعتراف والتطبيع. وتنفيذ رؤية الرئيس بوش التي تحدثت عن دولة فلسطينية. ويربطون مشاركتهم في المؤتمر بإلزام إسرائيل وقف عدوانها المتواصل ضد الفلسطينيين، سلطة وشعب، وسحب الجيش الإسرائيلي من جميع الأراضي والمواقع المدنية التي احتلها في أيلول 2001، وآذار 2002، وفك الحصار عن المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية. ويصرون على وقف الأعمال الاستيطانية فورا. ويعتبرون عرفات الرئيس الشرعي، وعنوان الفلسطينيين في المفاوضات وفي الاتفاقات التي يمكن التوصل إليها.
والفلسطينيون يرفضون الحلول المرحلية والاتفاقات الجزئية وتجربتهم معها مريرة. ويربطون مشاركتهم في المؤتمر باعتماد مبدأ الأرض مقابل السلام، وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، بدءا من القرار 194 في العام 1948 الخاص بحل قضية اللاجئين وانتهاء بقرارات مجلس الأمن الدولي 1401 و1402 و1405، قبل أسابيع، التي أكدت قيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل. ويرفضون وضع قيود وشروط على مستوى مشاركتهم وتمثيلهم فيه وبخاصة مشاركة الرئيس عرفات.
وعلى ضفة الصراع الأخرى تقف حكومة يمينية يتزعمها شارون؛ ترفض فكرة المؤتمر الدولي، وترفض الالتزام بقرارات الشرعية الدولية المتعلقة بحل النزاع. ترفض التعامل مع عرفات وتعتبره منبع الإرهاب ويقود عصابة إرهابية. ترفض وقف الاستيطان أو المس بوضع أية مستوطنة حتى لو كانت صغيرة ومعزولة. وترفض البحث في الحل النهائي وتصر على حلول مرحلية انتقالية تدوم سنين طويلة. وترفض العودة إلى طاولة المفاوضات وفك الحصار والانسحاب من مداخل المدن والقرى والمخيمات..الخ قبل استتباب الأمن بمفهومها التعجيزي. تعتقد أنها انتصرت في الحرب الأخيرة “السور الواقي”، ومن حقها جني مكاسب سياسية، بعد أن منحت ضباط وجنود جيشها جني الغنائم الشخصية.
وإصرار شارون مؤخرا على التدخل في الشئون الداخلية الفلسطينية، ووضع إصلاح أوضاع السلطة شرطا مسبقا لاستئناف المفاوضات، كفيل بإشغال أصحاب الدعوة للمؤتمر شهور طويلة قبل عقده. وقرار مركز الليكود يوم 12/5/2002 ” رفض مبدأ قيام دولة فلسطينية مستقلة بين النهر والبحر”، نسف فكرة المؤتمر وبات لا معنى ولا قيمه لعقده. وإصرار الوزير”باول” عقده على مستوى وزراء الخارجية بعد هذه المواقف يوفر غطاء عربيا ودوليا للقرار الليكود باستمرار الاحتلال.
ويعرف الرئيس بوش ووزير خارجيته باول والاتحاد الأوروبي أن الدولة الفلسطينية التي يتحدث عنها شارون لا تختلف في الجوهر الحكم الذاتي الذي يقترحه نتنياهو. وأن شارون ليس في وارد التفاوض حول الانسحاب من الجولان وبقية الأراضي المحتلة في جنوب لبنان، ويعتبر مشاركة سوريا في المؤتمر أمرا غير مرغوب به ولا معنى له، وقرار مركز الليكود حسم الشك باليقين.
وبجانب هذا التناقض الجذري بين الموقفين الرسميين العربي والإسرائيلي، يوجد متضررون في الجانبين من عملية السلام ومن الحلول التي يمكن أن تسفر عنها. وأكدت وقائع الحياة، في العام الماضي، أن هؤلاء المتضررين قادرون على التأثير في مسار الأحداث. وقادرون على تعطيل الجهود الأمريكية والدولية الأخرى الصادقة الرامية إلى صنع السلام، وزرع الألغام في طريقها وشل حركتها وإشغالها في إطفاء الحرائق. والشواهد كثيرة، بدءا من عمليات الجيش الإسرائيلي “حقل الأشواك، والسور الواقي” واغتيال كوادر الحركة الوطنية الفلسطينية، مرورا بعمليات حماس “الانتحارية” في الدولفيناريوم في تل أبيب ونتانيا وعملية ريشون ليتسيون الأخيرة.
صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على التأثير في الأحداث وفي مواقف أطراف النزاع، وأن تطورا ملحوظا طرأ على موقف إدارة بوش وتراجعت عن موقف الاستنكاف الذي قررته لنفسها في بداية عهدها، وانغمست في النزاع وتقوم بدور نشيط شبيه من حيث الشكل بدور إدارة الرئيس كلينتون الذي انتقدته. لكن وقائع هذا الدور أكدت أنه لم يكن يوما متوازنا، وانه جاهز للتراجع بسرعة أمام التحفظ أو الاعتراض الإسرائيلي. وانحيازه الصارخ للموقف الإسرائيلي جعل الفلسطينيين يشكون في الأطروحات الأمريكية، ويعيشون على أعصابهم كلما وصل مبعوث أمريكي إلى المنطقة.
وتراجع إدارة بوش بشأن تشكيل لجنة تقصي الحقائق في مخيم جنين شاهد على ذلك، سوف يبقى حيا في ذاكرة الفلسطينيين سنين طويلة، وكذلك ابتزازها القيادة الفلسطينية وفرض حل مؤلم لقصة المسلحين الذين لجأوا إلى كنيسة المهد. ونجاح الإدارة الأمريكية في حل قصة “سعدات” أمين عام الجبهة الشعبية وقتلة الوزير “رحبعام زئيفي”، وقصة “فؤاد الشوبكي وسفينة السلاح كارين A”، وفك الحصار عن مقر عرفات في رام الله وعن مدينة بيت لحم..الخ من القضايا التفصيلية لا يعني أنها قادرة على تذليل العقبات الكبيرة المذكورة أعلاه بسهولة.
أعتقد أن القراءة موضوعية لهذه الصورة الواقعية لمواقف الأطراف يكفي للقول؛ لا أفق لصنع السلام بين الطرفين العربي والإسرائيلي طالما بقي اليمين الإسرائيلي في الحكم. ولا أفق لنجاح الجهود “الصادقة” المبذولة لعقد المؤتمر الدولي. ويخطأ أصحاب فكرة المؤتمر الدولي للسلام إذا اعتقدوا أن نجاح شارون في تدمير بنية السلطة الفلسطينية وتدمير أجهزة الأمن الفلسطينية في عملية “السور الواقي”، والتهديد باقتحام قطاع غزة..الخ كاف لإرغام الزعماء العرب والقيادة الفلسطينية على التنازل عن حقوقهم وتغيير مواقفهم المعلنة. لقد قدم العرب في بيروت عرضا مغريا للإسرائيليين، سلام شامل وتطبيع كامل مقابل الانسحاب، ورد شارون على العرض بشن هجوم شامل ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. ويبدوا انه لن يرضى بأقل من الاستسلام الكامل، وأظن أن العرب والفلسطينيون لا يستطيعون تقديم أكثر مما قدموا في بيروت، وتدهور حالهم لم يصل مستوى رفع الراية البيضاء أمام شارون.
لا شك في أن لا مصلحة للعرب في التصادم مع الموقف الأمريكي، ورمي مبعوثيها بالشتائم والبيض الفاسد في جنين ونابلس وغزة لا يجدي، وقد يضر ولا ينفع. خصوصا أن وقائع الحياة أكدت أن البيت الأبيض في واشنطن هو مكان حل قضايا الصراع الصغيرة والكبيرة، وليس مقر الأمم المتحدة في نيويورك وأيضا ليس باريس ولندن وبروكسل. وطبعا هناك فرق كبير بين عدم الدخول في اشتباك مباشر مع الإدارة الأمريكية وبين الاستسلام.
وخير للعرب وأنصار صنع السلام عدم هدر الجهد والوقت في الشغل على عقد مؤتمر دولي للسلام، وتركيز الجهود باتجاه منع تدهور الوضع وتوفير حماية دولية للشعب الفلسطيني قبل فوات الأوان.