العمليات الاستشهادية ضد المدنيين تلحق ضررا كبيرا بالفلسطينيين

بقلم ممدوح نوفل في 10/05/2002

يعيش الفلسطينيون أجواء هجوم إسرائيلي جديد يرجح ان يتركز في قطاع غزة، والحديث بينهم يدور حول شكل الهجوم وحجمه. وبصرف النظر عن نوايا قيادة حركة حماس، أعتقد أن العملية التي نفذها جناحها العسكري “قوات عز الدين القسام” مساء يوم 7/5/ 2002 ضد المدنيين الإسرائيليين في نادي بلياردو وقمار في مدينة “ريشون لتسيون” جنوب تل أبيب، ألحقت أضرارا كبيرة بالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني. تماما كما كانت حصيلة ” عملية نتانيا” التي نفذتها حماس أواخر آذار “مارس” الماضي. عملية نتانيا مهدت الطريق أمام الجيش الإسرائيلي لتنفيذ “عملية الجدار الواقي” التي زرعت القتل والخراب والدمار في شتى أنحاء الضفة الغربية، وتوقفت بفعل ضغوط دولية قبل تحقيق كامل أهدافها، ودون اتفاق أمني أو سياسي يتبجح به شارون أمام جمهوره المتطرف. والعملية الجديدة في “ريشون ليتسيون” تمهد الطريق أمامه لاستكمال الفصل الثاني “الجدار الواقي” بأريحية داخلية ودولية كبيرة.
وقبل ظهور هذه السطور على صفحات الجريدة قد تكون الطائرات الحربية الإسرائيلية شرعت في قصف المواقع الأمنية والمدنية الفلسطينية، وعبرت الدبابات أكثر من مدينة وقرية ومخيم في قطاع غزة. وقتلت وجرحت من الفلسطينيين أضعاف الإسرائيليين الذين قتلوا في كازينو”ريشون ليتسيون”. ودمرت أجزاء من البنية التحتية وعددا من مؤسسات السلطة في قطاع غزة. واحتمال استهداف القطاع في الهجوم لا علاقة له بمكان ميلاد أو إقامة منفذ العملية، غير المعروفة حتى الآن، بل لاستكمال مشروع تدمير أجهزة السلطة الأمنية والمدنية وتدمير ما يسميه شارون بنية الإرهاب.
وبدلا عن مراجعة الذات واستخلاص العبر المفيدة مما حصل للشعب الفلسطيني بعد عملية “نتانيا” والعمليات “الانتحارية” الأخرى ضد المدنيين الإسرائيليين، تصرفت قيادة حماس وكأن شيئا لم يحصل في مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية. ولم تأبه بنتائج موقفها على الوحدة الوطنية ومصالح المواطنين. وتابعت نهجها، وضربت عرض الحائط رأي الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين. واستهترت برأي قوى عربية وعالمية صديقة تعارض هذا النمط من العمليات وترى فيه تشويها لصورة النضال الفلسطيني المشروع، ويلحق أضرارا كبيرة وواسعة بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني.
ولا تستطيع قيادة حماس إنكار أن عملية “نتانيا” وفرت لشارون ذريعة برر بها أعمال القتل والإغلاق والحصار والاعتقال وتدمير مؤسسات السلطة الفلسطينية وتدمير ممتلكات الناس. ولا تستطيع إثبات براءتها التامة من تهمة توفير الفرصة شارون لتفريغ حقده وتدمير مخيم جنين وأجزاء واسعة من حي القصبة في مدينة نابلس. وقتل ما لا يقل300 فلسطيني وجرح قرابة 3000 آلاف واعتقال ما يزيد على 6000 بقي منهم 2000 حتى الآن في السجون الإسرائيلية يعانون أقسى أنواع العذاب الجسدي والنفسي.
وسلفا لا تستطيع قيادة حماس التهرب من تحمل قسطا كبيرا من المسئولية عن الخسائر الفلسطينية البشرية والسياسية والاقتصادية المتوقعة بعد عملية “ريشون ليتسيون”، مهما كان حجمها .

لا خلاف مع حماس وأنصار العمليات “الإستشهادية” ضد المدنيين حول عدالة الموقف الفلسطيني وشرعية مقاومة الاحتلال، لكن الخلاف الجوهري حول الممكن تحقيقه من الأهداف الوطنية في هذه المرحلة، وحول الوسائل والأساليب الأنجع لتحقيقها. وهناك دائما وسائل فعّالة ومجدية، وأخرى فعالة لكنها ضارة وتتسبب في إلحاق الهزيمة بالأهداف وبالمناضلين من أجلها. وهذه الأساليب يجب تفاديها حتى لو كانت عادلة ومشروعة. وهناك نوع ثالث يحرمه القانون والمبادئ الأخلاقية وهذا أيضا يجب تفاديه كليا، وليس من حق أحد أن يورط الآخرين فيما يجب تفاديه، خاصة إذا كان ثمن التوريط دما ودمارا.
صحيح ما تقوله حماس أن لدى شارون وأركانه مشروعا قديما يقوم على قتل وتهجير أكبر قدر من الفلسطينيين، وضم مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية، وتدمير السلطة الفلسطينية وفرض قيادة بديلة عميلة، وتدمير عملية السلام ونسف نتائجها على الأرض وشطب الاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية التي تم التوصل إليها منذ العام 1993 وحتى الآن، وتحطيم مقومات قيام دولتهم فلسطينية مستقلة بجانب دولة إسرائيل…الخ لكن الصحيح أيضا أن العمليات “الانتحارية” التي نفذت ضد المدنيين الإسرائيليين سهلت على شارون إخفاء أهدافه ونواياه الحقيقية. ووحدت الشارع الإسرائيلي خلفه. ودفعت المجتمع الإسرائيلي إلى أحضان أحزاب اليمين التي تنادي بالموت للعرب وترحيل الفلسطينيين.
وبصرف النظر عن نوايا وأهداف قيادة حماس من توقيت تنفيذ عملية “ريشون ليتسيون” خلال فترة زيارة شارون إلى واشنطن ولقاءه بالرئيس بوش، فالنتيجة الأكيدة لهذا التوقيت؛ منح حديث شارون عن الإرهاب الفلسطيني في البيت الأبيض ومع رجال الصحافة والإعلام العالمية مصداقية عالية. وأظن انه نال تضامنا أمريكيا لا يقل عن الذي حصل عليه في “عملية الجدار الواقي”، سوف يستخدمه في التغطية على جرائم جديدة يرتكبها الشعب الفلسطيني، والهروب من مفاوضات جادة حول صنع السلام في المنطقة.
وأيا تكن قناعة حماس والقوى الأخرى التي تتبنى العمليات الانتحارية، فإن قتل المدنيين الإسرائيليين أظهر إسرائيل في مرآة السياسة الدولية أحد ضحايا “الإرهاب” الفلسطيني، واستقبل الرأي العام العالمي هذا النمط من العمليات باستنكار شديد، واختلطت عليه الصورة، وظهر المجرم القاتل على أنه ضحية أيضا. وبدلا من مساهمة قيادة حماس في توفير المناخ السياسي الملائم لمتابعة الحملة الفلسطينية والعربية والدولية الهادفة إلى فضح سلوك الجيش الإسرائيلي في حربه الأخيرة، وإجراء تحقيق دولي في جرائم الحرب التي ارتكبها في جنين ونابلس، خلقت عمليتها الجديدة مناخا سلبيا يعطل الحملة.
لا شك في أن التباين حول المواقف من العمليات انتحارية مسألة طبيعية، مثله مثل الخلاف حول المشاركة في عملية السلام ومسائل فكرية وسياسية أخرى كبيرة كثيرة، لكن الأعراف الديمقراطية ومبدأ الحرص على الوحدة الوطنية يحرمان أي طرف حسم قضايا الخلاف بفرض رأيه بالأمر الواقع على الآخرين. وتنفيذ ما يحلو له حتى لو أدى إلى كوارث وطنية. وأظن ان من يفرض رأيه ينسف القاسم المشترك مع الآخرين. وفي هذا السياق نسفت عمليات حماس السابقة والأخيرة أسس الإطار القيادي المعروف بقيادة “القوى الوطنية والإسلامية” الذي تشكل مع بداية الانتفاضة، وقاد حركة الشارع الفلسطيني على مدى تسعة عشر شهرا. ولم يعد بمقدور حركة فتح وحزب فدا وحزب الشعب وجبهة النضال الشعبي، والمنظمات والإتحادات الشعبية وتجمع البلديات..الخ من القوى والمؤسسات المناهضة للعمليات الانتحارية مواصلة العمل مع حماس في إطار قيادي واحد. وسكوتها على سلوك حماس وتفردها بالقرار يضعف قدرتها على خوض هذه المعركة الداخلية الفكرية السياسية الهامة، ويشوش الصورة في نظر المواطن الفلسطيني.
اعتقد أن حماس خرقت الإجماع الوطني، وألحق عمليتها في “ريشون ليتسيون” أضرارا كبيرة بالمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني، وأخرجت نفسها من إطار “قيادة القوى الوطنية والإسلامية”. والحرص على المصالح الوطنية يفرض على القوى المؤمنة بأهمية العمليات “الانتحارية” التي تستهدف المدنيين، إجراء مراجعة شاملة لموقفها واستخلاص عبر التجربة. ومطالبة بقراءة التطورات الدولية قراءة واقعية، وتأكيد التزامها بوقف جميع الأعمال التي تسهل على شارون تفريغ حقده على الشعب الفلسطيني وتنفيذ أحلامه القديمة الجديدة بتصفية الحركة الوطنية وقيادتها.
صحيح أن قهر الاحتلال، وما قام ويقوم به الجيش الإسرائيلي في الضفة وقطاع غزة، ساوى الموت بالحياة
عند نسبة كبيرة من الفلسطينيين. ويدفع كثيرين إلى اختيار الموت في عملية انتقامية “انتحارية” على حياة القهر والذل. لكن وقائع حياة الفلسطينيين وتجاربهم النضالية تؤكد أن هذا الدرب من المقاومة والخلاص الفردي، لا يعالج في هذا الزمان الألم والعذاب الجماعي بل يزيده ويوسع انتشاره، ويضعف النضال ضد الاحتلال في جبهات أساسية أخرى.
وإذا كانت القيادة الشرعية “السلطة” ملزمة في المرحلة الراهنة بعمل ما يلزم لفرض سلطة القانون وحماية المصالح العليا للشعب الفلسطيني ووضعها فوق جميع الاعتبارات الأخرى. فان دحض هذه نظرية “العمليات الإستشهادية” لا تتوقف على السلطة الرسمية وحدها، وليست الأساليب الأمنية أنجع الحلول. إنها معركة فكرية سياسية قبل أي شيء، لا تحسم بتصنيف علماء الدين لها “استشهادية” أو “انتحارية”، أو بفتوى دينية حول موقع منفذ العملية “الإستشهادية” عند الله يوم القيامة. ميدانها الشارع الفلسطيني ووسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة. والتحضير لمواجهة الهجوم الإسرائيلي الجديد لا يتعارض مع خوضها الآن وخوض معركة التغيير والإصلاح الداخلي أيضا. وحان الوقت للقوى والأحزاب الوطنية للمجلس الوطني والتشريعي هيئات وأفراد، واتحاد الكتاب والمثقفين والصحفيين والاتحادات الشعبية الأخرى والنقابات..الخ المعارضين لهذا النمط من العمليات، التحرر من الابتزاز ومن عقدة الحرص على الوحدة الوطنية وتركيز الجهد في مواجهة الاحتلال، ورفع أصواتهم دفاعا عن قناعتهم وعن المصالح العليا للشعب الفلسطيني. وأتمنى أن تساهم القوى والأحزاب والنقابات والكتاب والمثقفين العرب في هذه المعركة الفكرية بإدلاء الرأي، خصوصا أن نتائجها تؤثر على الجميع.