توجهات بوش تبريد النزاع واحتواء الموقف العربي وانتظار استسلام الفلسطينيين
بقلم ممدوح نوفل في 15/06/2002
أنهى الرئيس الأمريكي بوش مداولاته مع حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية في أوروبا والشرق الأوسط بشأن وقف تدهور الوضع في الأراضي الفلسطينية ومعالجة النزاع العربي الإسرائيلي. ويعتزم سيد البيت الأبيض توجيه خطاب إلى الشعب الأمريكي، في وقت قريب، يتضمن خطة إدارته لإصلاح قطار السلام وإعادة تشغيله على مساراته السابقة.. فهل قرر بوش إنهاء سياسة التردد التي انتهجها منذ دخوله البيت الأبيض مطلع العام الماضي ؟ وهل عقد العزم على تنفيذ “الرؤية” الأمريكية حول قيام دولتين “إسرائيل وفلسطين” ؟ وهل سيعطي القوى الدولية والإقليمية المعنية بصنع السلام في المنطقة، دورا في معالجة نزاع أهلها المزمن، بعد تعطيل دورها وتقيد حركتها سنوات طويلة؟
في سياق البحث عن الجواب، يواجه المراقب المحايد مواقف أمريكية رسمية متباينة ومتناقضة. يقرأ، مثلا، حديث وزير الخارجية ” باول” الخاص والطويل في”الحياة” يوم 12حزيران الجاري يعجب به، لكنه عندما يقرأ مواقف الرئيس بوش في لقاءه مع شارون ومع الرئيس مبارك يتعجب ويحتار أي من الموقفين يعتمد. في لقاءه مع “الحياة” أكد ” باول” الموقف ذاته الذي طرحه مدير وكالة الاستخبارات المركزية “جورج تنيت” ومساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأوسط وليم “بيرنز” في لقاءيهما برئيس السلطة الفلسطينية، وكانت خلاصته؛ إدارة الرئيس بوش مصممة على مواصلة الجهود لحل النزاع العربي الإسرائيلي، خاصة شقه الفلسطيني الإسرائيلي، وجهودها سوف تسير في ثلاث اتجاهات متوازية: وقف العنف والإرهاب، المساعدة في إصلاح أوضاع السلطة الفلسطينية وإعادة تأهيل أجهزتها الأمنية، واستئناف عملية السلام.”المؤتمر الدولي للسلام في الشرق الوسط سيعقد خلال الصيف برئاسة باول”، “الرئيس بوش لم يتراجع قدم واحد عن “رؤيته” ولوصول تلك الرؤية قد يكون ضروريا قيام دولة فلسطينية مؤقتة.. كخطوة انتقالية قبل وصول الدولة الدائمة”. واعتبر”باول” التعديل الوزاري الذي أجراه الرئيس عرفات خطوة في الاتجاه الصحيح.
من جهته، الرئيس بوش قال بالصوت والصورة، في لقاءاته بالرئيس مبارك وشارون، كلاما يتناقض تماما مع ما قاله باول وتنيت وبيرنز. وتطابق موقف بوش مع موقف شارون: سخف خطوة الإصلاح الفلسطينية. وتبى موقف شارون من عرفات واتهمه بالتراخي في محاربة الإرهاب. وأيد شرط شارون قف العنف والقضاء على الإرهاب قبل استئناف عملية السلام، وقال لا نرى شريكا في محادثات السلام. رفض الالتزام بجدول زمني للمفاوضات وقيام الدولة الفلسطينية. وصمت على تدمير شارون الاتفاقات الموقعة بين الطرفين واعتبر اقتحام الجيش الإسرائيلي المدن والمخيمات الفلسطينية ومحاصرة عرفات حربا على الإرهاب، وقال لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ضد الإرهابين. وبصرف النظر عن خلفيات هذا التناقض في مواقف أركان الإدارة الأمريكية، بديهي القول أن الرئيس بوش هو صاحب القرار. ويخطأ الفلسطينيون وأركان النظام السياسي العربي إذا تعاملوا مع أقوال بوش باعتبارها زلة لسان صدرت عن جاهل في السياسة الدولية.. وإذا راهنوا على انتصار وجهة النظر الأخرى وتحولها إلى سياسة رسمية أمريكية.
لقد تبنى باول وتنيت وبيرنز، مرات كثيرة، مواقف شبه متوازنة من قضايا النزاع، لكن مواقفهم تبخرت وتراجعوا عن بعضها بسرعة بعد أن رفضها شارون بفجاجة، ونقضها علنا الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض. وتراجع الوزير باول عن فكرة وجود قوات طرف ثالث تفصل الفلسطينيين والإسرائيليين، وتراجع إدارة بوش عن تشكيل لجنة تحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في مخيم حنين، وإلغاء مهمة المبعوث الأمريكي الخاص “الجنرال زيني” بهدوء، وتبخر الحديث الأمريكي عن تقرير لجنة “ميتشيل” وخطة “تنيت”، ومبادرة السلام العربية “السعودية”، وصمت باول وبوش وباقي أركان إدارته على اقتحام الجيش الإسرائيلي مدينة رام الله خلال وجود شارون في واشنطن..الخ جميعها مواقف ملموسة تكفي لحسم الشك باليقين؛ أن العلة في غياب الأفق السياسي، في الفترة السابقة، لحل لنزاع الفلسطيني الإسرائيلي والسوري اللبناني ـ الإسرائيلي، لا تكمن في سياسة شارون وحده، بل وأيضا في صلب السياسة التي اعتمدتها إدارة بوش قبل وبعد أحداث 11 أيلول “سبتمبر” في واشنطون ونيويورك، وفي ما استخلصته من ملف المفاوضات في عهد الرئيس السابق كلينتون. وأن رفع شارون شارة الفيتو من تل أبيب يكفي لتراجع بوش في حديقة البيت الأبيض وأمام الكونغرس، وتراجع باول ومساعديه في الخارجية وقاعات الأمم المتحدة.
وإذا كانت وقائع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أكدت أن الحقيقة الوحيدة التي ظلت ثابتة في سياسة إدارة بوش في الشرق الأوسط هي التزام مصالح إسرائيل مهما كانت الظروف، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ وحقوق الإنسان والقوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة، فخطاب بوش “المنتظر” سوف يؤكد هذه الحقيقة من جديد وبشكل فج. و”خطته” الجديدة لحل الأزمة لن تتضمن شيئا يؤدي لتصادم مكشوف مع شارون، وسوف يتفادي بوش طرح أي مبادرة سياسية تحرج الحكومة الإسرائيلية. ولن يتخلى عن سياسة التفرد بمعالجة النزاع العربي، ولن يمنح الاتحاد الأوروبي وروسيا دورا أساسيا في عملية صنع السلام في المنطقة. وأشك أن يحدد بوش موعدا للمؤتمر الدولي وجدول أعمال هذا المؤتمر والأطراف الدولية والإقليمية المدعوة للمشاركة فيه. والمعلومات المتوفرة للقيادة الفلسطينية تؤكد أن الرئيس بوش تحدث مع القيادة الروسية وقادة دول الاتحاد الأوروبي عن “لقاءات” إقليمية ودولية، ولم يتحدث عن مؤتمر دولي شبيه بمؤتمر مدريد. وتخشى القيادة الفلسطينية أن يكون الغرض من عقد هذه اللقاءات هو اقتناص الشق الأول من المبادرة السعودية ـ العربية “الاعتراف والتطبيع” من دون دفع ثمن ذلك، أي إقرار إسرائيل بقيام دولة فلسطينية ذات سيادة، والانسحاب من جميع الأراضي العربية التي احتلت في العام 1967.
وسلفا يمكن الجزم أن خطاب بوش “المنتظر” لن يحمل جديدا بشأن حل أزمة المفاوضات المستعصية على المسارين السوري واللبناني. وليس عاقلا من يتصور أن القيادة السورية تقبل استئناف المفاوضات من نقطة الصفر، والدخول في حلول مرحلية طويلة تبدأ بتطبيع العلاقات وترتيبات ميدانية تضمن أمن إسرائيل كما يطالب شارون. وأن توافق على إعادة البحث في مسألتي المستوطنات والانسحاب من الأراضي السورية المحتلة، بعد موافقة رابين وباراك بحضور الرئيس كلينتون، على إزالة جميع المستوطنات والعودة إلى خطوط الرابع من حزيران 1967.
إلى ذلك، عبّرت إدارة بوش، من بداية عهدها، بوضوح عن نفورها من طرح أي مبادرة سياسية واضحة لمعالجة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، لها جدولا زمنيا محددا. ويمكن الجزم أن خطة بوش الجديدة لن تتضمن جداول زمنية لانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق الفلسطينية التي احتلتها زمن الانتفاضة أواخر أيلول 2000، أو للانسحاب من الضفة وقطاع غزة، أو لبدء المفاوضات وانتهائها حول قيام الدولة الفلسطينية “المؤقتة” أو الدائمة. فطرح جداول زمنية يعني الالتزام، والالتزام يعني التصادم مع الحكومة الإسرائيلية، أو دفع شارون للتصادم مع قادة وكوادر حزب الليكود الذين صوتوا قبل أسابيع ضد فكرة دولة فلسطينية غرب نهر الأردن. ولن يقدم بوش على هذا الأمر خاصة أنه يعرف أن ذلك يعني، أيضا، التصادم مع الأغلبية الساحقة في الكونغرس، ومع أكثر من 40 حاكم من حكام الولايات المتحدة الأمريكية ال51، الذين رفعوا للبيت الأبيض مذكرة رسمية تطالب عدم الضغط على إسرائيل ومساندتها بقوة في الدفاع عن نفسها وفي محاربة “الإرهاب” الفلسطيني.
وبديهي القول أن الرئيس بوش سوف يطنب في الحديث عن إصلاح أوضاع السلطة الفلسطينية ودمقرطتها، وعن استعداد إدارته مساعدتها في إعادة بناء أجهزة الأمن وتطوير قدراتها. ويسترسل في دعوة عرفات إلى نبذ العنف ومحاربة الإرهاب منظمات وأفراد دون هوادة حتى إذا تعارض ذلك مع الإصلاح الديمقراطي.. وقد يحاول بوش بعث بعض الأمل في نفوس الفلسطينيين، ويكرر الحديث عن ضرورة قيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل عبر المفاوضات. لكنه لن يلتزم بقيامها على الأرض الفلسطينية التي احتلت في العام 1967. وقد يتكرم بالحديث عن معاناة الشعب الفلسطيني ويطالب حكومة شارون المساعدة في رفع هذه المعانة، لكنه لن يفرض على شارون رفع الحصار والإغلاق وإلغاء نظام الفصل العنصري الذي يطبقه على الشعب الفلسطيني، واحترام الاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية وسحب الجيش الإسرائيلي من الأراضي والمدن والقرى الفلسطينية الخاضعة لسلطة السلطة الفلسطينية بموجب هذه الاتفاقات، ولن يفرض عليه أو يطالبه علنا ووقف غزوها من جديد.
باختصار، يمكن القول لا داعي لان ينتظر العرب والفلسطينيين ما سيعلنه الرئيس بوش في الأيام القريبة القادمة للأمة الأمريكية، بشان نزاعهم مع إسرائيل. وقديما قالوا المكتوب يقرأ من عنوانه، وساذج من يعتقد اليوم أن خطاب الرئيس بوش “المنتظر” سوف يتضمن سياسة أمريكية جديدة، تختلف في الجوهر عن سياسة تبريد النزاع ومنع انفجار الأزمة واحتواء الموقف العربي التي اعتمدتها إدارته في أول 18 شهرا من عمرها. وخير للعرب أن يشرعوا في العمل لمواجهة مخطط شارون الهادف إلى ابتلاع مزيد من الأراضي الفلسطينية، وفرض هيمنة إسرائيل على المنطقة العربية. وعلى الفلسطينيين عدم التعلق بالأوهام التي تحاول إدارة بوش زرعها في أذهانهم، وأن يدركوا أن “الدولة المؤقتة” فيلم أمريكي جديد طويل هدفه التخدير. وهم في مرحلة لا يمكن تحقيق مكاسب جديدة فيها، وبالكاد يستطيعون، بدعم عربي، تقليص حجم الخسائر التي قد تلحقها بهم خطة بوش الجديدة وسياسته الثابتة في انحيازها لإسرائيل. وفي كل الأحوال تبقى سياسة التخدير الأمريكية كافية لتسكين الصراع لكنها بالتأكيد لا تصلح لمنع انفجار النزاع بصورة أكثر دموية.