تدمير مقر عرفات أم قطع طريق الاصلاح
بقلم ممدوح نوفل في 11/09/2002
قبيل تفجير”انتحاري” من حماس نفسه في الباص وسط مدينة تل أبيب ظهر يوم 19أيلول سبتمبر الجاري، كان الحديث في مكتب الرئيس عرفات يدور حول ثلاث قضايا أساسية وردت في مذكرة رفعها له عدد من الشخصيات الوطنية: أبعاد موافقة القيادة العراقية على عودة المفتشين الدوليين إلى العراق، تطبيق قرار منع العمليات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين، واتخاذ إجراءات ملموسة ضد من خطط لتنفيذ عملية انتحارية عند مدخل مدينة أم الفحم، والإقدام على خطوة تنظيمية نوعية في إطار عملية الإصلاح الداخلي واستحداث منصب رئيس وزراء وتكليف أبو مازن تحديدا تشكيل وزارة انتقالية تتولى مهمة التحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية وبلدية.
في تلك الجلسة، كشف الرئيس عرفات عن فحوى رسالة بعثها للقيادة العراقية ناشدها فيها باسم الشعب الفلسطيني ومقدساته وشهداءه العمل بكل السبل على تجنب الضربة والموافقة على عودة المفتشين الدوليين، وقطع الطريق على القوى الدولية وإسرائيل التي تريد تدمير العراق، واستكمال تدمير حلم الشعب الفلسطيني. وقال عرفات”الشعب الفلسطيني هو الخاسر الأكبر في حرب الخليج الثالثة إذا وقعت”. وأبدى في الجلسة ارتياحه لقرار القيادة العراقية الموافقة على عودة المفتشين دون قيد أو شرط ووصفه بالقرار الحكيم. لكنه أبدى شكوكا في إلغاء الهجوم ورجح أن يساهم القرار العراقي في تأجيله بضع شهور فقط. واعتبر ذلك خطوة مهمة وفرصة لإعادة تسليط الأضواء الدولية على جرائم حكومة شارون ـ بن اليعازر وبيرس، ضد الشعب الفلسطيني وتعطيل خطة الهجوم الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة الجاهزة للتنفيذ.
وبشأن وقف العمليات الانتحارية أكد أبو عمار أنها ألحقت أضرارا فادحة بالمصالح الفلسطينية العليا، وقال:”العملية التي تمت على مدخل مدينة أم الفحم يوم أمس ” 18/9/2002″ مشبوهة”. وطعن في وطنية من خطط لها، وقال ” بصرف النظر عن النوايا، فهذه العملية تغطي في زمانها ومكانها جرائم حكومة شارون في الضفة والقطاع، وتأجج عملية التحريض التي يقودها أقطاب اليمين الإسرائيلي ضد الوجود الفلسطيني الكثيف داخل إسرائيل، وتخلق المناخ الأمني الملائم للحديث عن الترانسفير والتضييق على أهلنا في إسرائيل وبث الذعر في صفوفهم وإشغالهم عن المطالبة بحقوقهم المدنية وعن تقديم العون الإنساني لإخوانهم في الضفة وقطاع غزة”.
وبشأن استحداث منصب رئيس وزراء في إطار الإصلاحات الداخلية، أبدى أبو عمار شكوكه في الحديث الأمريكي عن إصلاح السلطة الفلسطينية، وقال “شارون ماض في خطته ويريد تدمير مقومات قيام دولة فلسطينية، وتدمير السلطة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والأمنية، ولن يوافق على انتخابات تشريعية يشارك فيها أهل القدس، ولا يريد أن يرى للفلسطينيين رئيس حكومة ولا رئيس سلطة ولا وزراء ولا مجلس تشريعي ولا أجهزة أمنية. ويريد تحويل السلطة إلى إدارة مدنية”. وأشار إلى تعامي الإدارة الأمريكية عن أعمال شارون وانشغالها في تحضير الأجواء الداخلية الأمريكية والدولية لضرب العراق، وأنها لن تمارس ضغوطا جدية على حكومة شارون لتسهيل إجراء الانتخابات الفلسطينية أو الإصلاحات التي تحدث عنها بوش وشرعت القيادة الفلسطينية في تنفيذها قبل أن يحولها بوش وأركانه إلى ذريعة.
خلال الحديث دخل أحد المساعدين ووضع بهدوء ورقة أمام عرفات. قرأ أبو عمار الورقة وقال: “الآن تم تفجير باص وسط مدينة تل أبيب، هناك عشرات الإصابات في صفوف المدنيين الإسرائيليين”. وأضاف: “هذا العمل يؤكد ما كنا نتحدث عنه، وهدف من خطط لهذه العملية وأمر بتنفيذها في هذا الوقت بالذات، لا يختلف عن هدف شارون”. والطرفان متفقان على تدمير عملية السلام وتدمير السلطة الفلسطينية.
عندها توقف الحديث عن الإصلاحات والانتخابات الفلسطينية وتشكيل الحكومة انتقالية، وانشغل أبو عمار بملاحقة الرد الإسرائيلي المحتمل وأبعاد دعوة شارون المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للاجتماع.
وأثناء تناول طعام الغداء تابع أبوعمار مواقف وتصريحات شارون وأركان حكومته ونظر إلى ساعته وقال: “بعد قليل يصحو أركان البيت البيض من نومهم وسنسمع تصريحاتهم المعهودة عن الإرهاب الفلسطيني وتقصير السلطة الفلسطينية في محاربته” وأضاف:”حضّروا أنفسكم لحفلة دموية جديدة وحصار طويل”. وأعطى توجيهاته للتدقيق في كميات التموين المتوفرة في المقر وقال مازحا: “كلوا واشبعوا من هذه الوجبة الدسمة لأنكم سوف تتذكروها وتشتاقون إليها فترة طويلة”. قلت: أظن أن شارون سوف يستغل هذه العملية ويوسع نطاق عملياته الحربية في قطاع غزة وقد يرتكب حماقة ويدخل المدن والمخيمات هناك. قال: ” في المفاوضات دائما غزة أولا، لكنهم في الأعمال الحربية يضعون مقر عرفات أولا وغزة ثانيا”.
بعد بضع ساعات قليلة طوقت القوات الإسرائيلية مقر عرفات ودخلت الدبابات ساحاته ووقف بعضها أمام المدخل. وباشرت الجرافات فورا في تدمير ما تبقى من مبان قريبة من المبنى الذي يقع فيه مكتب عرفات. ونسف المهندسون الإسرائيليون ممرا يربط المكتب مع مبنى مجاور يستخدم عادة لاستقبال الوفود الرسمية والشعبية الكبيرة. وهذا المبنى تحول مؤخرا إلى مقر لعمل عددا من الإداريين وحراسات الرئاسة بعد تدمير الجيش الإسرائيلي مقارهم الأصلية، وتمكن بعضهم من الانتقال إلى المبنى الرئيسي حيث يقيم عرفات، وقطعت الطريق أمام عشرون ووقعوا في الأسر. وقصفت الدبابات مدخل المركز الرئيسي وأصابت الدرج الموصل بين الطابق الثاني والطابق الأرضي وقطعت الماء والكهرباء عن المقر ومنعت وصول التموين للمحاصرين، وتقف الدبابات والمجنزرات بكامل أطقمها على مدخل المبنى بانتظار تعليمات جديدة…
كل هذا جرى ويجري أمام سمع وبصر أركان بوش وطوني بلير، دعاة شن الهجوم على العراق دفاعا عن قرارات الأمم المتحدة، وأبطال الحرب دون هوادة ضد الإرهاب في كل مكان.. ولم يسمع الشعب الفلسطيني صوتهم ضد الإرهاب الإسرائيلي، ولم يسمع المحاصرون حتى الآن صوتا عربيا رسميا أو شعبيا يعزز صمودهم في هذه المعركة، ويبدو أن الصوت العربي، في هذا الزمن، يرتفع فقط أثناء وبعد تشييع جنازات الفلسطينيين للترحم على أرواح الأموات وتعزية الأحياء منهم…
وبصرف النظر عن النوايا، فإن الصمت العربي والدولي وضعف صوت قوى السلام في إسرائيل على الجرائم المتواصلة منذ أكثر من عام، يشجع شارون على القيام بما هو أكبر وأخطر مما قام به حتى الآن. وحديث بيريس وبن اليعازر عن معارضتهم إبعاد عرفات خارج الأراضي الفلسطينية وتأكيدهم أن لا هدف للمس به شخصيا، لن يمنع شارون عن المضي قدما في تصحيح ما سماه بالأخطاء التي ارتكبها من سبقه من حكام إسرائيل في اتفاق اوسلو عام 1993 وفي السنوات التي تلته، وبخاصة ما يتعلق بعودة ما يزيد على 100 ألف كادر ومواطن فلسطيني، وبناء مؤسسات دولة وقوات شرطة وأجهزة أمنية فلسطينية واسعة ومسلحة.
لا حاجة لمنجم عالمي بارع ينبؤ بوش وبلير أو زرقاء يمامة عربية تخبّر العرب، بأن ما يجري في مقر عرفات يختلف عن الذي جرى فيه في المرات السابقة. وإذا كانت أهداف شارون الإستراتيجية معروفة للجميع، ونجح حتى الآن في تدمير عملية السلام، وعبئ الشارع الإسرائيلي ضد السلام مع العرب وملأ سماء المنطقة بغيوم الحرب، فالتدقيق السريع ـ وليس المتأني والعميق ـ في أهداف شارون المباشرة من العملية الجارية في مقر عرفات يشير إلى انه مصمم على استكمال تدمير السلطة الفلسطينية والخلاص من عرفات بطريقة ما. وقطع طريق الإصلاح الداخلي ويرى فيها إرباكا لعلاقته بصديقه بوش وأركانه الذين يتبنون التوجه ويضغطون يوميا على العرب والقيادة الفلسطينية القدامى والجدد لتنفيذه، ويرفضون الحديث في مستقبل عرفات.
وبديهي القول أن الحديث الأمريكي والداخلي الفلسطيني عن الإصلاح قد تناثر في الهواء مع حجارة 15 مبنى دمرها الجيش الإسرائيلي في محيط مكتب عرفات. وأظن أن المجلس التشريعي لن يتمكن من استكمال دورة أعماله التي بدأها بحجب الثقة عن الحكومة طالما ظل عرفات محاصرا. ولن تتمكن الهيئات القيادية الفلسطينية الأخرى ـ لجنة تنفيذية ومجلس وزراء واللجنة المركزية لحركة فتح ـ من عقد اجتماعات خاصة، كما كان مقررا، لمناقشة اقتراح استحداث منصب رئيس وزراء وتشكيل حكومة جديدة انتقالية لا تضم أعضاء في اللجنة التنفيذية أو في لجنة المفاوضات. فهذه الهيئات ومعها الحكومة القديمة عطل الحصار عملها إلى إشعار آخر”، ودخلت “السجن” الذي يقبع فيه المحاصرون في بقايا مركز “المقاطعة” في رام الله.
وإذا نجح المجلس التشريعي ورئيسه في الإفلات من طوق شارون المضروب حول مقر عرفات ووصلوا مقر المجلس في رام الله، فلن يبحثون في استكمال جدول أعمالهم وسيجدون أنفسهم مجبرين على بحث، أولا وقبل أي مسألة أخرى، سبل فك الحصار عن عرفات والمدن والمخيمات.
إلى ذلك اعتقد أن بوش وبلير وأركانهما ومعهم حكومات دول الاتحاد الأوروبي وجميع الحكومات العربية سينشغلوا في الأيام والأسابيع القادمة في فك العقدة الجديدة التي خلقها شارون، حين ربط حصار مقر عرفات بوجود مطلوبين “للعدالة الإسرائيلية” داخله. وأظن ان شارون سوف يطالب الجميع بالضغط على عرفات لتسليمه المطلوبين مقابل فك الحصار عن عرفات، وقد يتنازل، في مرحلة لاحقة، إكراما لهم.. ويكتفي بإبعاد “المطلوبين الصغار” إلى قطاع غزة ودول الاتحاد الأوروبي، عملا بالسابقة التي اعتمدت في فك الحصار عن كنيست المهد في بيت لحم..! وقد يطالب بزج “المطلوبين الكبار” في “السجن الدولي” في أريحا، الذي اخترعه دهاة أجهزة الأمن الأمريكية والبريطانية ويقبع فيه منذ عدة شهور أمين عام الجبهة الشعبية. وتحت شعار الحفاظ على سلامة الرئيس عرفات، من غير المستبعد أن يتفهم بوش وبلير وبعض العرب موقف الحكومة الإسرائيلية ويضغطون على عرفات والمحاصرين من اجل تلبية مطالب شارون وتنفيذ مقترحاته..
وبصرف النظر عن نوايا شارون ومواقف إدارة بوش وزعماء الاتحاد الأوروبي والعرب والأمم المتحدة، أجزم أن قرار عرفات ومن معه هو الصمود والدفاع عن النفس وعدم تكرار التجربة السابقة، وان أبو عمار يعني ما قاله سابقا “يريدونني طريدا، وأريدها شهيدا شهيدا شهيد”.