أفق التباين الامريكي البريطاني الاسرائيلي محدود ولا يعول عليه
بقلم ممدوح نوفل في 04/10/2002
بعد فك الحصار الإسرائيلي عن “المقاطعة” في رام الله، اعتبر أعضاء في القيادة الفلسطينية الصمود الفلسطيني ورفض تكرار تجربة كنيسة المهد في بيت لحم و”سجن أريحا الدولي” انتصارا مهما وبداية العد العكسي لبرنامج تدمير السلطة وعزل عرفات التي اعتمده شارون فور فوزه برئاسة الوزراء في شباط/فبراير 2001. وفي لقاء عقد في مكتب الرئيس عرفات قدّر البعض أن اضطرار شارون على الانسحاب من “المقاطعة” يشير إلى تطور سياسي جديد يمكن البناء عليه. في حينه أيد أبو عمار اعتبار انسحاب شارون دون شروط إنجازا مهما، إلا انه شكك في إمكانية البناء عليه، وقال: “الصمود في المقاطعة والهبة الشعبية الرائعة في المدن والقرى والمخيمات وضغط العرب والأصدقاء، كسر صمت الإدارة الأمريكية على سياسة شارون وأعماله العدوانية العنصرية، واضطر بعد رسالة من بوش وقف تدمير بقايا المقر”.
وبشان بناء موقف أمني سياسي على تراجع شارون عن المس بعرفات وانسحابه من ساحة “المقاطعة” قال أبوعمار: “تجاربنا القديمة والحديثة مع شارون تؤكد أنه لا يحترم قرارات الشرعية الدولية، ولا يوثق بتعهداته وضمنها التي يقدمها للإدارة الأمريكية”. وذكّر أبو عمار الحاضرين بمجازر صبرا وشاتيلا عام 1982، وقال: “خرجنا من بيروت بعد اتفاق رعته إدارة ريغان وتعهد شارون للأمريكان والحكومة اللبنانية في عهد شفيق الوزان بعدم الاعتداء على المدنيين الفلسطينيين، لكنه خرق الاتفاق ونقض التعهد الذي نقله لنا المرحوم صائب سلام وارتكب المجزرة الشهيرة، ومرت الإدارة الأمريكية عليها مرور الكرام”.
ولاحقا اعتبر بعض الفلسطينيين حديث رئيس الحكومة البريطانية “توني بلير” عن معاناة الفلسطينيين وحقهم في دولة، ودعوته الطرفين إلى استئناف مفاوضات الحل النهائي قبل نهاية العام الجاري، تطورا ثان مهم يمكن البناء عليه. ويعتقد المتفائلون من أن حديث “بلير” تم بتنسيق مسبق مع بوش، وان السيناريو الأمريكي الذي تلا حرب الخليج الثانية عام 1990ـ1991 سوف يتكرر بعد الثالثة. ويقول بعض السياسيين والمحللين إذا كانت حرب الخليج الثانية أفرزت مؤتمر مدريد للسلام، فإن ضرب العراق في حرب خليجية ثالثة ستسفر عن إحياء عملية السلام وفرض حل دولي على الطرفين تقوده أمريكا وبريطانيا.
لا شك في أن خضوع شارون للضغوط الأمريكية وانسحابه من ساحة مقر عرفات وحديث رئيس الوزراء البريطاني “توني بلير” عن معاناة الفلسطينيين واستئناف المفاوضات، مسألتان تستحقان التوقف أمام مدلولاتهما وأبعادهما الأمنية والسياسية واستشفاف آفاقها المستقبلية. وفي هذا السياق، أعتقد أن لا شارون انهزم ولا عرفات انتصر في جولة الحصار الأخيرة، وان تقييم عرفات لانسحاب شارون من ساحة المقاطعة هو الأدق. فالانسحاب الإسرائيلي من ساحة مقر عرفات شكلي ولم يتعدى سحب الجرافات والدبابات. وإذا كانت الجرافات الثقيلة اختفت عن الأنظار داخل مستوطنة “بيت إيل”، التي تبعد أقل من ألفي متر عن “المقاطعة”، فإن الدبابات وجنود المشاه خرجوا من ساحتها وتمركزوا في مبان مجاورة لها وضمنها مبنى وزارة الثقافة الفلسطينية. وبعض المواقع العسكرية الإسرائيلية الجديدة يبعد مسافة بسيطة عن سور المقاطعة، وتستطيع خلال دقيقة واحدة دبابة أو مجموعة من جنود المشاة الإسرائيليين، إغلاق الطريق في وجه الجميع، ومنع ” سكان أطلال المقاطعة” من الحركة خارج الغرف المهشمة.
ويعرف المقيمون في المقاطعة والعابرون والخارجون منها وضمنهم الدبلوماسيون العرب والأجانب أنهم يتحركون تحت “رحمة” أمر شارون اليومي، وأمره في هذه الأيام يسمح بزيارة عرفات والتجول في مدينتي رام الله والبيرة خلال ساعات النهار فقط، يستثنى منها نهار يوم الجمعة حيث يفرض حظر التجول طيلة ساعات هذا اليوم لمنع المظاهرات السلمية من الخروج من المساجد بعد صلاة الجمعة. وأظن أن أركان بوش وبلير وأمين عام الأمم المتحدة وأمين الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي..الخ يعرفون هذا الحال، ويعرفون أيضا أن الآليات والدوريات الإسرائيلية تجوب شوارع رام الله والبيرة وقت تشاء، وجميع مدن وقرى ومخيمات الضفة لا تزال تخضع لنظام حظر تجول تتفاوت مدته بين موقع وأخر حسب مزاج شارون أركانه الأمنيين وتقييمهم لمدى “حسن أخلاق” وانضباط ناس هذا الموقع السكاني أو ذاك.
لا جدال في أن شارون انسحب من المقاطعة ودفع مبالغ قليلة من أموال السلطة التي يحتجزها، تحت ضغط إدارة بوش، وظهر أنه لا يختلف كثيرا عن شامير ونتنياهو عتاة اليمين الإسرائيلي، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع الإدارة الأمريكية، وعندما تتعارض السياسة الإسرائيلية مع التوجهات الأساسية الأمريكية وتتخذ الإدارة الأمريكي موقفا حازما دفاعا عن مصالحها.
في العام 1991 خضع شامير للإرادة الأمريكية في عهد إدارة بوش ـ بيكر، ووافق على مبادرتهما وذهب مكرها إلى مؤتمر مدريد للسلام، كما يذهب الولد اليتيم إلى عرس أمه. وفي عهد نتنياهو أجبرت إدارة كلينتون حكومة اليمين بزعامة نتنياهو إبان “هبة النفق” عام 1996 على وقف إطلاق النار، وفرضت عليه العودة إلى طاولة المفاوضات والتوقيع على اتفاق “واي ريفر”، وانسحب من أجزاء واسعة من مدينة الخليل.
وإدارة الرئيس بوش التي فرضت على شارون دفع مبالغ مالية للسلطة، ووقف تهديم بقايا مباني مقر عرفات في رام الله والانسحاب من ساحتها خلال أقل من ساعتين، تستطيع ببساطة ـ إذا أرادت ـ أن تفرض عليه الانسحاب كليا من جميع أحياء مدينتي رام الله والبيرة المحيطة والبعيدة عن “المقاطعة”، وسحب جيشه من جميع المدن والقرى والمخيمات في الضفة الغربية إلى المواقع التي كانت تتمركز فيها قبل 28 أيلول/سبتمبر2000. وبإمكانها أيضا إلزام شارون تنفيذ خطط أمريكية ـ وليس عربية أو أوروبية ـ وضعها “جورج تنيت” مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية و” الجنرال زيني” مبعوث البيت الأبيض للمنطقة، وخطة “جورج ميتشيل” عضو مجلس الشيوخ الأمريكي سابقا، والتي نسيها الناس في المنطقة بعد أن تناساها أصحابها. وبديهي القول أن عدم قيام إدارة بوش بهذه المهمة لصالح صنع السلام في المنطقة، يثبت تهمة الفلسطينيين لهذه الإدارة أنها شريكا كاملا في عمليات القتل والتدمير والتخريب الذي قام بها جيش شارون منذ توليه زمام الحكم في إسرائيل في شهر شباط عام 2001.
وأظن أن شارون الذي أطاع البيت الأبيض مرتين لا يستطيع التمرد عليه في المرة الثالثة، خاصة أن دوافع ومسببات الطاعة لا تزال قائمة. وشارون نفسه يعتمد في حياته السياسية على التغني بعلاقته الحميمة مع صديقه “بوش”. ويعرف شارون تمام المعرفة أن حكومته بقيت وما تزال على قيد الحياة بسبب استمرار إدارة بوش في دعم سياسته وتشجيعها بيريز بن اليعازر مواصلة الشراكة مع شارون في إطار حكومة الوحدة الوطنية التي تجمعهم.
وإذا كان رئيس الحكومة البريطانية نسق حديثه عن الدولة الفلسطينية وضرورة التزام إسرائيل بقرارات الشرعية الدولية واستئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، مع الإدارة الأمريكية فالفلسطينيون يشبهون حديثه بوعد رجال الدين المسلمين والمسيحيين للفقراء الجائعين أنهم لهم الجنة..ويعتبرونه ذرا للرماد في عيون العرب بأمل شراء صمتهم على ضرب العراق. ويتمنى الناس في الضفة والقطاع على السيد “بلير” أن يوقف حديثه عن الدولة الفلسطينية وتطبيق قرارات الشرعية الدولية على إسرائيل مثل العراق، لأنهم يعرفون أن ذلك بعيد المنال طالما ظل اليمين يمسك بزمام الحكم في إسرائيل. والفلسطينيين لم ينسوا اعتذار رئيس حكومة بريطانيا “العظمى” عندما تجرأت أو أخطأت زوجته وطالبت رفع الظلم الإسرائيلي عنهم.
ويتمنى الفلسطينيون، قيادة وشعب، على السيد بلير أن يقنع بوش، حليفه في الحرب ضد العراق، بضرورة ممارسة الضغط على الحكومة الإسرائيلية وإجبارها على إنهاء حرب التجويع والإذلال التي يشنها الجيش الإسرائيلي والمستوطنون ضد الفلسطينيين، ووقف مصادرة الأراضي والتوسع في الاستيطان. ووقف عمليات القصف والاعتقال والاغتيال والتوغل ونسف البيوت المتواصلة ليل نهار في الضفة والقطاع. وأن يقنع صديقه بوش حامي حمى الديمقراطية بحق الفلسطينيين في إجراء الانتخابات مطلع العام القادم. وإجبار شارون على سحب جيشه من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية قبل الموعد الذي حدده الفلسطينيون لهذه الانتخابات، وينتزعا موافقته على اشتراك أهل القدس فيها كما شاركوا في الانتخابات السابقة.
اعتقد أن هذه المطالب الفلسطينية “البسيطة” العادلة لن تتحقق على يد بوش وبلير قبل الحرب القادمة على العراق، ويخطئ من يعتقد أنها قد تتحقق خلال أو بعد هذه الحرب. فهذه الحرب إذا وقعت سوف تكون طويلة، ولها تفاعلات أمنية وسياسية واقتصادية عميقة وواسعة تتعدى حدود إقليم الشرق الأوسط. وإذا كان متعذرا تقدير نتائج هذه الحرب على المنطقة وأنظمتها السياسية، فالمؤكد أنها تكفي لإشغال بوش وبلير والأمم المتحدة وزعماء العرب عن حل القضية الفلسطينية وفق “رؤية” بوش وأفكار بلير “الخلاقة”. خصوصا أن شارون هو أحد المستفيدين الرئيسيين من حرب الخليج الثالثة، وخسارة العرب والفلسطينيين فيها لن تكون أقل من الخسائر التي تكبدوها في حرب الخليج الثانية. ويخطئ الفلسطينيون والعرب إذا اعتقدوا أن تغيرا نوعيا طرأ على الموقفين الأمريكي والبريطاني من سياسة شارون المعادية لعملية السلام والمعطلة للجهود الدولية والإقليمية. وتضخيم ايجابيات خطوة بوش بفك الحصار عن “المقاطعة” في رام الله، والمبالغة في تفسير حديث بلير عن الدولة والمفاوضات، يلحق أضرارا فادحة بالمصالح الفلسطينية العليا. وبعض الظن بالرئيسين الأمريكي والبريطاني ليس إثم.