حوار صحفي مع مجلة اليمامة السعودية
بقلم ممدوح نوفل في 09/10/2002
سؤال/ دخلت الانتفاضة عامها الثالث وبرزت من خلالها العمليات الاستشهادية كأحد الأسلحة التي تستخدمها حركات المقاومة، ما موقفكم من هذه العمليات وكيف ترون جدواها السياسية.
ج) اعتقد أن الذكرى الثانية لانطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الثانية “28/9/”2000 ودخولها العام الثالث محطة مناسبة لإجراء مراجعة شاملة وجريئة لمسيرة الانتفاضة في العامين الماضيين، وأعتقد أن سؤالكم حول العمليات الاستشهادية وعسكرة الانتفاضة قد مس أحد القضايا الأساسية التي يجب أن تشملها المراجعة، حيث ظلت هذه المسألة موضع خلاف في الساحة الفلسطينية.البعض يرى فيها سلاحا فعالا ضد الاحتلال، وآخرون يعتقدون عكس ذلك، وشخصيا انتمي لتيار الرأي الثاني.
أجزم أن لا خلاف مع أنصار العمليات “الإستشهادية” ضد المدنيين الإسرائيليين في إسرائيل حول عدالة الموقف الفلسطيني، وحق الناس في الضفة والقطاع في مقاومة الاحتلال وهذا الحق تجيزه الشرائع السماوية والدنيوية. وفي الحالة الفلسطينية لا جدال حول أن مقاومة الاحتلال واجب على كل الوطنيين الفلسطينيين. لكن الخلاف الجوهري يدور حول الممكن تحقيقه من الأهداف الوطنية في هذه المرحلة أو تلك والوسائل والأساليب الأنجع لتحقيقها، وأيضا حول تحديد ساحة النضال الرئيسية وكيفية توسيع جبهة الحلفاء والأصدقاء وتقلص جبهة الأعداء في هذه المعركة الطويلة والقاسية.
شخصيا مقتنع أن الساحة الرئيسية للنضال الفلسطيني هي الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 وليس أي بقعة أخرى في العالم، باعتبارها أرض الدولة الفلسطينية المحتلة. وأؤمن أن هناك دائما وسائل فعّالة ومجدية في النضال ضد الاحتلال، وأخرى فعالة لكنها ضارة وتلحق الضرر بالأهداف وبالمناضلين من أجلها وهذه الأساليب يجب تفاديها حتى لو كانت عادلة ومشروعة. وهناك نوع ثالث يحرمه القانون والمبادئ الأخلاقية وهذا أيضا يجب تفاديه كليا. وأظن أن ليس من حق أحد أن يورط الآخرين فيما يجب تفاديه، خاصة إذا كان ثمن التوريط دما ودمارا.
وبغض النظر عن النوايا، ومع احترامي لتضحيات منفذي العمليات “الإشتشهادية” ضد المدنيين الإسرائيليين في إسرائيل، أرى أن هذا الصنف من العمليات يندرج تحت بند النوع الثاني والثالث. وأنها ألحقت أضرارا واسعة بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني وتواصلها يلحق مزيد من الخسائر ويستهلك جزءا من المكاسب. وإذا كان شارون فاز في الانتخابات على قاعدة محاربة ما يسميه “إرهاب” فلسطيني والإنتصار عليه، وهو أصلا معاد لعملية السلام مع الفلسطينيين ويعارض اتفاق اوسلو وجميع الاتفاقات التي توصل لها الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي.. الخ من المواقف المتطرفة، فإن أشد الناس حماسة للعمليات الاستشهادية لا يستطيعون إنكار أن هذه العمليات سهلت على شارون والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية إخفاء أهدافهم ونواياهم الحقيقية والمضي قدما في تنفيذها بأريحية داخلية ودولية، وعززت مواقع أحزاب اليمين التي تنادي بالموت للعرب وترحيل الفلسطينيين.
وبصرف النظر عن النوايا فإن العمليات الاستشهادية شوهت صورة النضال الفلسطيني العادل والمشروع وسهلت على شارون وأركانه وصمه بالإرهاب، وارتكاب أعمال القتل والإغلاق والحصار والاعتقال وتدميرا ممتلكات الناس ومؤسسات السلطة الفلسطينية، تحت شعار محاربة الإرهاب الفلسطيني الذي يستهدف الأطفال والنساء في المطاعم والمقاهي وحافلات الركاب. ووجد بعد أحداث 11 أيلول في أمريكا وفي ساحات دولية أخرى من يصدقه.
ومن يدقق في جرائم شارون الكبيرة النافرة يلحظ أنها تمت بعد عملية انتحارية نفذت داخل إسرائيل استهدفت مدنيين إسرائيليين. خذ مثلا: بعد عملية حماس في مدينة نتانيا أواخر آذار الماضي نفذ الجيش الإسرائيلي “عملية الجدار الواقي” التي زرعت القتل والخراب والدمار في شتى أنحاء الضفة الغربية، ودمر البنية التحتية الفلسطينية، وحاصر مقر عرفات في رام الله وكنيسة المهد في بيت لحم. وبعد العملية الانتحارية في أيار الماضي في مدينة “ريشون لتسيون” جنوب تل أبيب اجتاح شارون جميع مدن الضفة الغربية وقصف مخيمات غزة بالطائرات. وبعد العملية الأخيرة التي نفذت في الشهر الماضي “أيلول” وسع نطاق عملياته ورفع درجة ومستوى اجراءته العدوانية العنصرية ضد الشعب الفلسطيني وقيادته. وفرض نظام حظر تجول على جميع المدن والقرى والمخيمات، ولا يزال هذا النظام مفروضا حتى ألان، يرفع بين فترة وأخرى عن هذه المدينة أو تلك وفقا لمزاج شارون وتقدير قادة أجهزة الأمن الإسرائيلية لحسن أخلاق الناس هنا أو هناك. وكل هذا جرى ويجري تحت سمع وبصر العالم.
وبجانب ذلك كله، أرى أن العمليات “الانتحارية” تقلص دور الناس العاديين في النضال ضد الاحتلال وتحولهم إلى جمهور من المنتظرين والمتفرجين، تارة ينتظرون قيام هذا الانتحاري أو الاستشهادي بعملية وأخرى يجلسون خلف شاشات التلفاز يتفرجون على صور العملية. وهبة الشارع الفلسطيني في الأيام الأخيرة أعادت للنضال الفلسطيني العادل والمشروع صورته وساهمت مع الحركة الدولية والأوروبية في دفع الإدارة الأمريكية إلى إعطاء الأوامر لشارون بفك الحصار عن مقر القيادة الفلسطيني. وأظن أن هذه الهبة الشعبية بحاجة إلى رعاية وتطوير وهذا لا يتم بتنفيذ عمليات استشهادية التي لا تعطي الناس دورا في النضال ضد عدوهم، وإنما بابتداع أشكال من النضال تتسع لدور العامل والطالب والمعلم والفلاح وسائر فئات الشعب الأخرى.
سؤال/ يردد الكثير بأن هذه العمليات حققت ما يمكن ان يوصف ب “توازن الرعب” الأول من نوعه في تاريخ الصراع، إضافة للخسائر الإسرائيلية كارتفاع معدلات البطالة والهجرة العكسية وضرب قطاع السياحة.. ما ردكم ؟
ج) لا شك في أن الانتفاضة بأشكال نضالها المتنوعة وضمنها العمليات الاستشهادية ألحقت خسائر بإسرائيل كبيرة ومتنوعة. وأهم إنجازاتها أنها أثبتت فشل نظرية الأمن التي اعتمدها شارون في القضاء على الانتفاضة وتحقيق امن الإسرائيليين، إضافة للخسائر في الجانب السياسي وفي والاقتصادي وبخاصة قطاع الزراعة والسياحة وارتفاع معدلات البطالة، ووسعت الانتفاضة الهجرة العكسية أيضا.
والتدقيق في موقع العمليات الاستشهادية في إيقاع هذه الخسائر نجده محدودا. فالهجرة العكسية زادت نتيجة عاملين؛ الأول، تراجع الاقتصاد الإسرائيلي، وتراجع هذه الاقتصاد ناتج عن عوامل محلية ودولية كثيرة وضمنها ارتباطه بالاقتصاد الأمريكي والأوروبي الذي يشهد تراجعا في هذه الحقبة. وضمنها أيضا ارتفاع نفقات أجهزة الأمن الإسرائيلية ليس فقط لمواجهة العمليات الانتحارية بل وأيضا لاحتلال المدن والقرى والمخيمات في محاولة لقمع الانتفاضة. كما ولعبت سياسة المقاطعة الفلسطينية والعربية للمنتوجات الإسرائيلية دورا محوريا في هذه الخسائر. وميزان الربح والخسارة يبين أن خسائر الفلسطينيين البشرية والاقتصادية ليست قليلة، ولا يجوز التقليل من حجم الدمار الهائل الذي لحق بالاقتصاد الفلسطيني الناشئ.
ثانيا، إذا كانت العمليات الاستشهادية زعزعت الأمن وزادت في الخسائر الإسرائيلية، فاني أعتقد أن من المبالغة القول أنها خلقت حالة من “توازن الرعب” وهناك فرق كبير بين الرعب الدائم ـ متنوع الصنوف والأشكال ـ الجماعي والفردي الذي يخلقه الاحتلال، وبين الرعب الفردي الموسمي الذي تصنعه العمليات الانتحارية. والحديث عن توازن الرعب وتضخيم أثر العمليات النفسي والمعنوي في المجتمع الإسرائيلي يفيد شارون ويوفر له الغطاء لأعماله العنصرية. ولا يستطيع أنصار العمليات الاستشهادية إنكار أن هذا النمط من العمليات دفع المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف ووحد الشارع الإسرائيلي خلف شارون وقوى اليمين المتطرف الذي ينادي بالترانسفير ويعتبر الضفة والقطاع “أرض الميعاد التي منحها الرب لبني إسرائيل”. وأضعفت هذه العمليات قوى السلام في إسرائيل التي تؤمن بحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة بجانب دولة إسرائيل، وعطلت دورها وتأثيرها في المجتمع الإسرائيلي.
سؤال/ حركات المقاومة ـ الإسلامية تحديدا ـ ترفض مطالب السلطة بإيقاف العمليات الاستشهادية، وترفض أيضا الحوار معها تحت سقف اتفاقية اوسلو ـ على حد تعبيرهم ـ كيف ترى هذا الموقف من حركات المقاومة ؟
ج) التباين حول المواقف من العمليات انتحارية مسألة طبيعية، مثله مثل الخلاف حول المشاركة في عملية السلام واتفاق أوسلو، ومسائل فكرية وسياسية أخرى كبيرة كثيرة، لكن الأعراف الديمقراطية ومبدأ الحرص على الوحدة الوطنية الفلسطينية، يحرمان أي طرف حسم قضايا الخلاف بفرض رأيه بالأمر الواقع على الآخرين، وخرق القوانين وتنفيذ ما يحلو له حتى لو أدى إلى كوارث وطنية. وأظن أن من يفرض رأيه ينسف القاسم المشترك مع الآخرين. وفي هذا السياق نسفت عمليات حماس السابقة والأخيرة أسس الإطار القيادي المعروف بقيادة “القوى الوطنية والإسلامية” الذي تشكل مع بداية الانتفاضة، وقاد حركة الشارع الفلسطيني على مدى عامين. ولم يعد بمقدور حركة فتح وحزب فدا وحزب الشعب وجبهة النضال الشعبي، والمنظمات والإتحادات الشعبية وتجمع البلديات الفلسطينية..الخ من القوى والمؤسسات المشاركة في هذه القيادة وتعارض العمليات الانتحارية، مواصلة العمل مع حماس والجهاد الإسلامي في إطار قيادي واحد، خاصة عندما تصر على عدم احترام رأي الأكثرية وخرقت الإجماع الوطني. ثم هناك سلطة فلسطينية منتخبة التزمت باتفاقات دولية، وهناك أنظمة وقوانين تحدد العلاقة داخل المجتمع الفلسطيني. وإذا كان من حق المعارضة التعبير عن مواقفها وتوجهاتها بالطرق السلمية والديمقراطية وضمنها معارضة اتفاق اوسلو، فليس من حقها التمرد على هذه الأنظمة والقوانين وتعمد تدمير الإتفاقات التي وقعتها السلطة المنتخبة بالقوة، وأظن أن الاحتكام إلى صناديق الاقتراع هو السبيل الوحيد لحسم الخلافات الكبيرة.
سؤال/ برأيكم ما تأثير العمليات الاستشهادية في كسب الرأي العام العالمي والتأييد الدولي للقضية؟
ج) لا يستطيع أنصار العمليات الاستشهادية وبخاصة حماس والجهاد الإسلامي تجاهل إن قتل المدنيين الإسرائيليين أظهر إسرائيل في مرآة السياسة الدولية أحد ضحايا “الإرهاب” الفلسطيني، واستقبل الرأي العام العالمي هذا النمط من العمليات باستنكار شديد واختلطت عليه الصورة، وظهر المجرم القاتل وكأنه ضحية من ضحايا الإرهاب. إلى ذلك، تبين الحركة السياسية الفلسطينية في الحقل الدولي أن أنصار القضية الفلسطينية في الساحة الدولية لم يستوعبو هذا النمط من العمليات ولم يتقبلوه، وفتر حماس بعضهم لمساندة النضال الفلسطيني وآخرون واجهوا صعوبات كثيرة في الدفاع عن عدالة القضية الفلسطينية، وجميعهم ينصحون الفلسطينيين وقف العمليات الاستشهادية التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين. إلى ذلك، تسببت العمليات الاستشهادية في إرباك السياسية الفلسطينية الخارجية. وسهلت على شارون وحكومته في وصم النضال الفلسطيني بالإرهاب وتعبئة الرأي العام العالمي “ضد قتلة” النساء والأطفال في المطاعم والمقاهي. وأضعفت موقف السلطة في المؤسسات الدولية وصدرت قرارات كثيرة عن الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان ليست في صالح النضال الفلسطيني. وفي كل الأحوال اعتقد ان الحفاظ على نظافة النضال الفلسطيني وعدم تلويثه بدم الأطفال والنساء مهمة وطنية وأخلاقية يجب الحفاظ عليها حتى لو ارتكب شارون مجازر بحق أطفال وشيوخ ونساء فلسطيني. وليس من مصلحة الفلسطينيين أن ينزع العالم عنهم صورة الضحية فالعالم يتضامن مع الضحايا ولو بعد حين.
واعتقد يا أخي العزيز أن مفعول صورة استشهاد الطفل محمد الدرة في حضن والده وتدمير مخيم جنين في الساحة العربية والدولية كان أكبر من مفاعيل جميع العمليات الانتحارية. وقدمت هذه الصور وما شابهها للعالم الحقيقة كما هي: الشعب الفلسطيني أرضا وبشرا وحجر هو الضحية، وشارون هو الجلاد المجرم الذي لا يميز بين طفل وشيخ وامرأة.