خريطة الطريق تقود إلى بغداد وليس لدولة فلسطينية
بقلم ممدوح نوفل في 22/10/2002
في سابع مرة استقبل الرئيس بوش “صديقه الحميم” شارون، تحدث سيد البيت الأبيض مع ضيفه “رجل السلام” عن “خريطة طريق” وخطة تحرك أمريكية جديدة لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وقبل وصول شارون مطار تل أبيب أعلنت الإدارة الأمريكية عن إرسال مساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأوسط “وليم بيرنز” إلى المنطقة لإطلاع اثنا عشر زعيما من زعمائها على الخطة و”الخريطة”. فهل قرر الرئيس بوش إنهاء سياسة التردد التي انتهجها إزاء النزاع العربي الإسرائيلي منذ دخول البيت الأبيض مطلع عام 2001، وعقد العزم على تنفيذ “الرؤية”الأمريكية التي طرحها في 24 حزيران/يونيو لماضي حول قيام دولتين “إسرائيل وفلسطين” ؟ هل سيعطي اللجنة الرباعية الدولية دورا في معالجة هذا النزاع بعد تعطيل دور الأمم المتحدة والروس والأوروبيين سنين طويلة ؟ وهل “خريطة الطريق” الأمريكية تقود إلى دولة فلسطينية أم إلى مكان آخر في المنطقة؟
في سياق البحث عن جواب لهذه الأسئلة، يواجه المراقب المحايد مواقف أمريكية رسمية متباينة ومتناقضة: من جهة تمنع إدارة الرئيس بوش رئيس الحكومة الإسرائيلية “شارون” من قتل عرفات أو طرده خارج الأراضي الفلسطينية، ومن جهة أخرى تقاطع عرفات وتدعو إلى عزله مرة بالإيحاء وأخرى مباشرة وصريحة. ترفض دعوة عرفات إلى واشنطن وتمنع أفراد السفارة الأمريكية في تل أبيب والقنصلية في القدس من اللقاء به، لكنها تستقبل رسله على أعلى المستويات في واشنطن وأخرها لقاء وزير المالية “فياض” في حكومة عرفات، مع وزير الخارجية “باول” ومستشارة الرئيس بوش لشئون الأمن القومي “غونداليزا رايس”. ترسل مبعوثيها إلى المنطقة وتحظر عليهم اللقاء بعرفات، لكنها تسمح لهم بلقاء من يكلفهم عرفات، وتعرف أن المكلفين يحملون رأيه وموقفه ولا يستطيعون البت بأية قضية صغيرة أو كبيرة قبل العودة إليه.
وبصرف النظر عن موقف الإدارة الأمريكية من عرفات وطرقها الملتوية في التعامل معه، فإن قراءة رجل كشاف مبتدأ في علم الجغرافيا السياسية لـ”خريطة الطريق” التي سلمها المبعوث الأمريكي لمندوب عرفات وزعماء دول المنطقة، تبين أنها لا تحتوي على طريق رئيسي أو فرعي يوصل إلى القدس عاصمة الدولة فلسطينية التي منحها الكونغرس الأمريكي سلفا لإسرائيل. وتقود “الخريطة” من يهتدي بها إلى مكان آخر في الشرق الأوسط عبر عنوان فضفاض يحمل اسم “دولة” فلسطينية:
في المرحلة الأولى الممتدة من تشرين الأول/أكتوبر الجاري حتى أيار 2003، تقفز”خريطة الطريق” عن جميع الاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية التي تم التوصل إليها في السنوات العشر الماضية وتعيد الفلسطينيين إلى المربع الأول. تطالب “القيادة الفلسطينية” دون تعريفها ـ منظمة التحرير أو السلطة الوطنية أو المجلس تشريعي أو عرفات أو المجلس الوطني ـ لأن التعريف يربك صاحب الخريطة مع شارون ـ بإصدار بيان “تعترف فيه على نحو لا يقبل التأويل بحق إسرائيل في الوجود بسلام وأمن”. وتتجاهل الخريطة رسائل الاعتراف المتبادل بين رابين وعرفات قبل التوقيع على اتفاق اوسلو في 13 أيلول سبتمبر 1993 في البيت الأبيض، التي تضمنت اعتراف عرفات بحق إسرائيل في الوجود واعترف رابين بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني. وكأن “الخريطة” سحبت اعترافها بالسلطة الوطنية المنتخبة التي أفرزها اتفاق أوسلو وبمنظمة التحرير التي وقعت هذا الاتفاق باسم الشعب الفلسطيني وألغت رسائل الاعتراف المتبادلة.
وفي البند ذاته تطالب “الخريطة” “القيادة الفلسطينية” بـ”وقف فوري للانتفاضة وكل أشكال العنف ضد الإسرائيليين في كل مكان ووقف التحريض ضد إسرائيل”، ولا تطالب إسرائيل بوقف إطلاق النار ضد المدنيين الفلسطينيين ولا تتحدث عن إطلاق سراح آلاف المعتقلين الذين اعتقلوا فترة الانتفاضة.
تضع “خريطة الطريق” والخطة الأمريكية الجديدة التي يحملها “بيرنز” قضية الإصلاح والتجديد والتغيير في بنية السلطة الفلسطينية وتعيين مجلس وزاري جديد، واستحداث منصب رئيس حكومة ذي صلاحيات وإجراء انتخابات حرة ونزيهة للمجلس التشريعي فقط..ألخ شرطا مسبقا للتحرك، وترفض إجراء هذه الإصلاحات عبر انتخابات حرة ونزيهة. وترفض توجيه طلبها إلى عرفات وهي تعرف انه وحده صاحب القرار، وترفض السماح له بالتنافس على منصب رئيس السلطة علما أن اتفاق أوسلو نص على “انتخاب رئيس سلطة فلسطينية بصورة مباشرة”. فهل هدف “خريطة الطريق” إعادة فتح اتفاق أسلو وإلغاء بنود أساسية يرفضها شارون؟
تربط “الخريطة” انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي احتلها في زمن “الانتفاضة” بتوصل الطرفين إلى “اتفاق أمني جديد وفقا لخطة تنيت” مدير وكالة الاستخبارات الأمريكية. وتنص على؛ “توحيد قوى الأمن الفلسطينية في ثلاثة أجهزة تخضع لإشراف وزير داخلية ذي صلاحيات”، “وكلما تقدم التعاون الأمني بين الطرفين انسحب الجيش الإسرائيلي تدريجيا من المناطق التي احتلت منذ 28 أيلول/سبتمبر 2000، والانسحاب يستكمل قبل الانتخابات الفلسطينية”. وينسى مصمم “الخريطة” أن شارون وأركانه دمروا عن قصد أجهزة الأمن الفلسطينية وقتلوا واعتقلوا أعدادا كبيرة من أفرادها، ودمروا مراكزها وجردوها من أسلحتها ومعداتها وضربوا وضعها المعنوي في الصميم وباتت عاجزة عن الحركة. وفي كل الأحوال لا تستطيع أجهزة الأمن الفلسطينية النهوض بمهامها قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي من المدن والقرى والمخيمات. فعملها في ظل الاحتلال ووجود الجيش الإسرائيلي في المدن الفلسطينية ينزع عنها ردائها الوطني ويشوه صورتها ويعقد علاقتها بالناس ويشل دورها الأمني. ولا حاجة إلى خبراء أمنيين حتى يبينوا لمن يهمه الأمر، أن إعادة بناء وتجهيز وتأهيل وتوحيد أجهزة الأمن الفلسطينية يحتاج إمكانيات مادية كبيرة وهذه غير متوفرة، وإلى مدة زمنية تتجاوز فترة المرحلة الأولى في “الخريطة ” كاملة التي بدأت من أكتوبر الجاري وتنتهي في أيار 2003.
إلى ذلك، تدعو خريطة الطريق” حكومة إسرائيل إلى “وقف النشاطات التي من شأنها المس بالثقة وبضمنها هجماتها على التجمعات السكانية ومصادرة الممتلكات، وتحويل المبالغ المستقطعة للسلطة. وتقوم بتفكيك النقاط الاستيطانية التي أقيمت منذ تشكيل الحكومة الحالية”. ولا توضح “الخريطة” وأصحابها متى وكيف يمكن إلزام إسرائيل بذلك، وما هي الخطوة اللاحقة في حال رفض شارون هذا البند وسواه من بنود أخرى. وينسى أصحاب الخريطة، أو يتناسون، أن شارون نبي المستوطنين يرفض التفريق بين مستوطنة نتسريم الواقعة وسط القطاع بجوار مدينة غزة وبين مدينة نتانيا المجاورة لتل أبيب على شاطئ البحر، وهو الذي دعا المستوطنين إلى احتلال اكبر قدر ممكن من التلال والأرض وقال “كل تلة وكل بقعة أرض لا يحتلها إسرائيليون اليوم يفقدوها غدا”.
أعتقد أن الملاحظات المذكورة أعلاه حول المرحلة الأولى فقط من “خريطة الطريق” تؤكد الحاجة إلى خريطة توضيحية لكل بند بنودها. وإذا كان أصحاب الخريطة قفزوا عن “خريطة الطريق” التي رسمها الرئيس الأمريكي السابق”كلينتون” في مبادرته في كانون الأول يناير 2000، وعن جميع الاتفاقات والتفاهمات التي تم التوصل إليها في عهد حكومة باراك، وأجلوا في “الخريطة الجديدة” قضايا الحل الدائم ـ القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود..الخ حتى عام 2005 إرضاء لشارون، يصبح من حق الجانب الفلسطيني التعاطي مع هذه “الخريطة” بعد الاتفاق على الخرائط التفصيلية التوضيحية المطلوبة. وواجب المفاوض الفلسطيني “مندوب عرفات” ربط الاتفاق حول المرحلة الأولى من “الخريطة” بالاتفاق على المرحلة الثانية التي تتحدث عن إقامة الدولة الفلسطينية قبل نهاية كانون الأول /يناير2003. خاصة أن الخريطة تطرح مرحلة انتقالية طويلة جديدة كما يطالب شارون، علما أن المرحلة الانتقالية لعملية السلام الأساسية انتهت قبل 3 سنوات حسب نصوص اتفاق اوسلو.
وإذا كان وقائع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في العامين الأخيرين أكدت أن الحقيقة الوحيدة التي ظلت ثابتة في سياسة إدارة بوش في الشرق الأوسط هي التزام مصالح إسرائيل مهما كانت الظروف، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ وحقوق الإنسان والقوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة..الخ فالموقف”المنتظر” من هذه الإدارة سواء، في إطار اللجنة الرباعية الدولية أو في اللقاءات التي يعقدها رسولها “بيرنز” في المنطقة، سوف يؤكد هذه الحقيقة الظالمة من جديد بشكل أكثر فجاجة من السابق. ويخطئ من يعتقد أن”خريطة الطريق”، بداية لسياسة أمريكية جديدة إزاء الصراع في المنطقة. أو أن بوش وأركانه يمكن أن يتبنوا موقفا شبه متوازن لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي يحرج شارون ويضعهم في صدام مكشوف معه.
إن القراءة الصحيحة لتبني الإدارة الأمريكية “خريطة الطريق” التي أعدتها اللجنة الرباعية الدولية تفرض رؤية موقع هذه “الخريطة” ودورها في إطار الحرب “العالمية” الطويلة التي أعلنها الرئيس بوش وأركانه ضد “الإرهاب” بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر في واشنطن ونيويورك. وفي سياق اللعب بالوقت الضائع في الموضوع الفلسطيني وتخدير العرب سمحت لروسيا وأوروبا والأمم المتحدة المشاركة في البحث عن حل للنزاع تخفيه في البيت الأبيض. وعندما يحين وقت الحل الجدي لن يظهروا على خشبة المسرح تماما كما فعلت مع المرحوم “هولست” وزير خارجية النرويج عند توقيع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض.
وإرسالها “بيرنز” للمنطقة بعد غياب طويل.. وقبلها إرغام شارون وقف هدم مقر عرفات ومنعه من قتله أو ترحيلة، يندرج في إطار التحضير لفتح جبهة جديدة ضد العراق وضد الجماعات “الإرهابية” في الشرق الاوسط بجانب الجبهة المفتوحة في أفغانستان. أوقفت إدارة بوش حركة شارون الهوجاء ضد عرفات كي لا يشوش على توجهها المركزي نحو ضرب العراق. ومهمة “بيرنز” في المنطقة نزع تهمة إهمال عملية السلام التي يراهن العرب على استعادة حقوقهم من خلالها، والإيحاء لهم بأن إدارة يوش عاقدة العزم على تحريك هذه العملية ومتابعة حركتها حتى قيام الدولة الفلسطينية وحل قضايا القدس واللاجئين..الخ في العام 2005. وفي أكثر من مكان في المنطقة طلب بيرنز المساعدة في إقناع عرفات بتسليم السلطة لسواه والاكتفاء بموقع رئيس رمزي يحفظ كرامته. وإذا كان هدف الخطة الأمريكية توسيع طريق الهجوم على بغداد، فان”خريطة الطريق” ليست مطروحة للتنفيذ، والخطأ في قراءتها يفجر صراعات فلسطينية داخلية. ومن حق الفلسطينيين الإصرار على وجود قوات طرف ثالث قادرة على حمايتهم من شارون قبل فتح “خريطة الطريق”.