جولة في بازار الانتخابات الاسرائيلية
بقلم ممدوح نوفل في 11/11/2002
يتوجه الإسرائيليون أواخر كانون الثاني القادم 2003، للمرة الثانية خلال أقل من عامين، إلى صناديق الاقتراع لحسم خلافاتهم الحزبية والسياسية والأيدلوجية وانتخاب أعضاء الكنيست السادسة عشر. وعادة تكون الانتخابات الإسرائيلية مناسبة يحاسب فيها الشعب الإسرائيلي أطراف النظام السياسي على ما قدمه كل طرف وما قصر في تقديمه، وتتسابق الأحزاب الصهيونية اليسارية واليمينية، المتدينة والعلمانية، على أصوات الناخبين. ويجري التركيز على الفئات والجماعات المهمشة اجتماعيا. وتتذكر الأحزاب الصهيونية العرب أكثر الفئات تهميشا واضطهادا، وتتقرب منهم وتتودد لهم وتغدق عليهم الوعود بأمل كسب أصواتهم.
وبينت التجربة أن الوعود التي تقدمها هذه الأحزاب للمتدينين والمستوطنين تتحول، في الغالب، إلى التزامات ترصد لها ميزانيات كافية لتطوير مؤسساتهم وتعزيز صمودهم وبناء مزيدا من المستوطنات في أرض الضفة والقطاع. أما وعودها للعرب في إسرائيل، بمختلف مللهم، فلا تختلف عن وعود الأحزاب العربية لشعوبها إبان الانتخابات البرلمانية وتتبخر بسرعة ويتم القفز عنها فور إغلاق صناديق الاقتراع. ورغم ذلك، لا تزال نسبة ليست بسيطة من العرب تصوت للأحزاب الصهيونية لاعتبارات عائلية وطائفية وشخصية وتؤمن لها أربعة مقاعد في كنيست.
وأي تكن نتائج الانتخابات الجديدة، فالفلسطينيون يستخلصون من اضطرار الإسرائيليين إلى الذهاب لانتخابات مبكرة، أن انتفاضتهم، بعجرها وبجرها، زادت في اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية التي دخلها المجتمع الإسرائيلي منذ المشاركة في عملية السلام في العام 1991. وأن تبكير الانتخابات للمرة الخامسة في عشر سنوات، وتبدل ستة رؤساء وزراء “شامير ورابين وبيريز ونتنياهو وباراك وشارون” بين عام 1992 وعام 2002، يؤكد تدهور العلاقة بين أطراف النظام السياسي الإسرائيلي وعدم تخلصه من الأزمة التي دخلها بعد التوقيع على اتفاق اوسلو مع الفلسطينيين عام 1993، واتفاق وادي عربة مع الأردنيين عام 1994.
وإذا كان بن اليعازر وبيريز ووزراء حزب العمل في حكومة شارون، تجاهلوا دور “الانتفاضة والمقاومة” في خروجهم الفجائي من حكومة شارون، واستخدموا “قصة الموازنة” وتمييز المستوطنين على حساب مدن التطوير والمتقاعدين في تغطية انسحابهم..الخ فتدقيق خبراء المال في أزمة الموازنة الإسرائيلية يبين، لمن يريد أن يرى الحقيقة، أن تعطل عملية السلام وانفجار “الانتفاضة” وارتفاع النفقات الأمنية، وفشل حكومة شارون في توفير الأمن وفرض الاستسلام على الفلسطينيين، كانت سببا رئيسيا في هذه الأزمة وفي ركود الاقتصاد الإسرائيلي. ولا شك في أن وأد عملية السلام واستمرار الصراع العربي ـ الإسرائيلي يديم الأزمة ويعرض النظام السياسي في إسرائيل إلى خضات فكرية وتنظيمية وتقلبات سياسية متواصلة.
وبصرف النظر دوافع بن اليعازر وبيريز في دخول حكومة وحدة وطنية مع الليكود، فخروجهما منها، بعد أقل من عشرين شهرا، جاء على خلفية مسائل شخصية لها أبعاد حزبية. وغادرها بيريز على مضض، ولم يقدم “فؤاد” استقالته من وزارة الدفاع عن طيب خاطر، بل أكره عليها بعد أن طوّق حبل المعارضة الحزبية عنقه وشد عليه بقوة. وتأكد بن اليعازر وأنصاره أن استمرار التمسك بالوزارة يفقده طموحه في تجديد قيادته للحزب ويسقطه من رأس قائمة مرشحيه للانتخابات.
وفي سياق التحضير للمعركة الجديدة وكسب أصوات الناخبين أسرعت الأحزاب والتجمعات السياسية إلى فتح معارضها الانتخابية وسط أجواء ساخنة حذرة يشوبها توتر شديد. وجولة سريعة في بازار انتخابات هذا العام تبين للزائر أن جميع الأحزاب والكتل الانتخابية مشغولة، هذه الأيام، في غربلة بضائعها الانتخابية السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، وبإعادة ترتيبها بأمل لفت أنظار الناخبين. وتسعى لعقد صفقات ثنائية وجماعية مشبوهة، وتستخدم كل الحيل لتسويق بضاعتها بسرعة خاصة أن فترة العرض قصيرة هذه المرة.
ويشاهد المتجول في بداية الجولة صراعات المجتمع الإسرائيلي الحقيقية، التي قلما تظهر بوضوح في مناسبات أخرى، ويرى عمق انقسامه على نفسه عموديا وأفقيا حول قضايا عديدة متنوعة منها: الصراع بين التدين والعلمانية، وتمايز اليهود السفارديم عن الاشكناز، وحرص اليهود الروس على تمييز أنفسهم عن الآخرين. ويرى أيضا صراع العمال مع أرباب العمل والفقراء ضد الأغنياء، وصراع أنصار الانفصال عن الفلسطينيين ضد أنصار “أرض إسرائيل التاريخية التي منحها الرب لبني إسرائيل”. ويلاحظ وجود خلاف حقيقي حول السلام مع الفلسطينيين والعرب ومصير عرفات وسلطته والتوسع في الاستيطان. والمشهد الإجمالي لهذه الصراعات يخلق انطباعا لدى الزائر أن المجتمع الإسرائيلي لا يزال في طور التشكل والتكوين، وان 50 عاما من عمر دولة إسرائيل لم تصهر اليهود الشرقيين والأوروبيين والروس والأمريكان والأثيوبيين في بوتقة اجتماعية وثقافية واحدة، وان تواصل الهجرة يطيل أمد عملية الدمج.
وبجانب هذه الانقسامات يرى المتجول أيضا إجماع الإسرائيليين على ثلاثة مسائل أساسية: حبهم “للشيقل” وحرصهم على إنقاذه من التدهور، والقلق من المستقبل والحرص على الأمن والتوحد في مكافحة “الإرهاب الفلسطيني” ومنحها أولوية، والمحافظة على التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية ومراعاة سياستها ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
وبرغم كثرة الأحزاب والكتل المتنافسة وعدم إتمام فرز البضائع الانتخابية، إلا أن المتجول في البازار يلاحظ اختفاء “حزب الطريق الثالث” عن المشاركة في هذا المعرض. ويرى بضائع كثيرة متشابهة ضد السلام مع العرب يعرضها حزب ليكود والأحزاب اليمينية، بشقيها العلماني والمتدين، جميعها مغلفة بشعارات براقة تستهوي المتطرفين والعنصريين الذين يشكلون نسبة هامة في الرأي العام الإسرائيلي، تقول: احذروا الدولة الفلسطينية، وحافظوا على وحدة أرض إسرائيل الكاملة التي وهبها الرب لبني إسرائيل. وصوتوا لمن مصمم على وأد عملية السلام وإلغاء الاتفاقات المدمرة لأمن إسرائيل التي وقعها بيريز ورابين مع الفلسطينيين، ومصمم على تأديب السوريين واللبنانيين والإيرانيين والعراقيين، وتدمير حزب الله وتحطيم المضخات مياه التي بدأت بسحب مياه نهر “الوزاني” التي أوجدها الله لسد حاجات شعبه المختار..وتضيف الأحزاب العنصرية المتطرفة القديمة والجديدة، أمثال حزب “المفدال” و”إسرائيل بيتنا” وحزب “المرحوم” رحبعام زئيفي “تسومت” انتخبونا لتطفيش وتسفير الممكن من الفلسطينيين..
إلى ذلك، لا يستطيع المتجول في البازار التحقق، في هذا الوقت، من قيمة بضاعة حزب العمل المتعلقة بالسلام مع العرب، فهي لا تزال مخلوطة بانتظار فرزها بعد حسم الصراع الجاري حول زعامة الحزب. صحيح أن المتنافسين الثلاث بن اليعازر وميتسناع وحاييم رامون غلفوا بضائعهم بشعار انتخبونا من أجل توفير الأمن لإسرائيل وصنع السلام مع العرب والفلسطينيين، والانفصال عنهم، إلا أن رائحة الغش والكذب المنبعثة من بضاعة “فؤاد” تصدم أنف المتجول، وتؤكد له أنها لا تختلف عن بضاعة الليكود الأصلية.
أما أقسام الأحزاب العربية في البازار فلا تزال شبه مقفلة، خاوية، مع الأسف، من المواد القادرة على جذب الجمهور العربي. ولم تبلور هذه الأحزاب أهدافها وشعاراتها، وبعضها يحاول فرض مصالحه الحزبية والشخصية الضيقة على الآخرين ويرفض الانضمام لقائمة عربية موحدة. وهناك بعض المرشحين ما زالوا يبحثون عن مواقع لهم في أحزاب صهيونية ويروجون مواقفها.
إلى ذلك، يغادر المتجول البازار وهو على قناعة أن تنافس أطراف النظام السياسي الإسرائيلي على مقاعد الكنيست السادسة عشر سوف يكون أقوي من المرات السابقة. وأن جميع الروادع الأخلاقية والإنسانية والسياسية مرشحة للسقوط مع بدء حملات الدعاية الانتخابية. وأن مشهد الألعاب الحزبية البهلوانية، الذي شاهده الإسرائيليون والفلسطينيون وجميع المهتمين بالانتخابات الإسرائيلية في الجولات السابقة، سوف يتكرر في بازار 2002 بصورة أكثر إثارة وتشويق. وإذا كان من المبكر الحديث عن فائز وخاسر في انتخابات الكنيست السادسة عشر الجديدة، ويصعب التعرف على رئيس الوزراء الإسرائيلي القادم، فالمتجول في البازار ينهي جولته الأولى وهو على اتفاق مع قول أمين عام الجامعة العربية “عمر موسى” “مستقبل المنطقة مظلم وليس في نهاية النفق نور”. ويشكل قناعة راسخة أن المجتمع الإسرائيلي غير ناضج للسلام مع العرب، وان إسرائيل تفتقد إلى زعامة تاريخية قادرة على حل أزمة الديمقراطية الإسرائيلية في القرن الحادي والعشرين وتخليص دولة إسرائيل من سياستها التوسعية العنصرية ومعالجة معضلات تطبيع وجودها مع محيطها العربي. ويخطئ من يعتقد أن الإدارة الأمريكية راغبة في التحرك لتغيير هذا الاستخلاص، بل إن بعض أركانها يسعون لتكريسه باعتباره يساهم في تنفيذ توجهاتهم الجديدة التي بلوروها بعد أحداث 11 أيلول “سبتمبر”2001 في واشنطن ونيويورك.
اعتقد أن هذه الصورة القاتمة لنتائج الانتخابات الإسرائيلية الجديدة تفرض على أنصار السلام وبخاصة العرب والإسرائيليين زج ثقلهم فيها. فهي ليست شئنا إسرائيليا داخليا طالما أنها تمس الآخرين وتؤثر في استقرار الشرق الأوسط. وإذا تعذر تغيير نتائجها وتعطيل فوز قوى اليمين فيها، يمكن تخفيف وطأة الخسارة والخروج بنتائج تضمن عدم تكرار تجربة حكومة الاتحاد الوطني. والمساهمة في تنحيته بن اليعازر عن زعامة حزب العمل حلقة مركزية في تحقيق هذا الهدف.
ولا شك أن توحد مرشحي الأحزاب العربية في إسرائيل في قائمة واحدة أو قائمتين بالحد الأقصى، يساهم في تحقيق الهدف، ويعزز الصوت العربي في الكنيست، ويمكن أعضاء الكنيست العرب خدمة مصالح أهلهم بصورة أفضل. والناس في الضفة والقطاع يعتقدون أن رفع نسبة مشاركة العرب في هذه الانتخابات، وتجديد وتفعيل دعوة وليد جنبلاط، زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، أبناء الطائفة الدرزية في إسرائيل إلى عدم التصويت للأحزاب اليمينية المتطرفة قد يقلص من معاناتهم ومن فرص اندفاع اليمين الإسرائيلي نحو إشعال حرائق تدمر مصالح شعوب المنطقة.