الانتخابات الفلسطينية اختبار لصدقية الدعوة الامريكية لتعزيز الديمقراطية
بقلم ممدوح نوفل في 16/12/2002
تعليقا على إعلان السلطة الفلسطينية نيتها إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في 20 كانون الثاني “يناير” 2003، قلت في هذه صفحة من “الحياة” في 11 تموز “يوليو” الماضي؛ انتظار الانتخابات الفلسطينية هدر للوقت وتشتيت للطاقات. وشككت في جدية حديث أركان الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي وإسرائيل حول إصلاح وتجديد بنية النظام السياسي الفلسطيني. في حينه اتهمني بعض المتفائلين بالموقف الأمريكي بنشر التشائم والتسرع وتشويه موقف إدارة بوش من دمقرطة وإصلاح الوضع الفلسطيني. والآن، لا خلاف على أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية الفلسطينية لن تجري في موعدها المحدد. ولا بد من مصارحة الناس في الضفة والقطاع والقول بوضوح؛ لا أفق في عهد اليمين الإسرائيلي، بزعامة شارون، طال زمن وجوده في الحكم أو قصر، لإجراء انتخابات فلسطينية حرة وديمقراطية يشارك فيها أهل القدس الشرقية وضواحيها، سواء رشح عرفات نفسه أم لم يرشح، وسواء ساد الهدوء أم ظل الوضع مضطربا.
في كل الأحوال، حفظ الكرامة الوطنية الفلسطينية يفرض تأجيل الانتخابات إلى إشعار آخر دون تعيين تاريخ محدد لها، وربط إجرائها بانسحاب الجيش الإسرائيلي من المدن والقرى والمخيمات، والبحث في بدائل واقعية مناسبة للتجديد والإصلاح. ولا خيار أمام الرئيس عرفات ولجنة الانتخابات الوطنية برئاسة د حنا ناصر رئيس جامعة بيرزيت، سوى الإعلان، في الأيام القادمة، عن تأجيل الانتخابات بسبب؛ أولا ضيق الوقت وعدم القدرة اللجنة والسلطة على إعداد قوائم الناخبين، وتعذر تشكيل لجان الإشراف والرقابة على الصناديق وتحضير بقية مستلزمات نجاح العملية الانتخابية في شهر واحد. وثانيا، وهو الأهم، ليس في الأفق ما يشير إلى أن حكومة شارون سوف تسهل إجراء هذه الانتخابات، وتسحب قواتها من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية إلى مواقعها قبل انفجار الانتفاضة أواخر أيلول “سبتمبر” 200، وتنهي الحصار والإغلاق وتسهل الحركة على الطرقات. وكل الدلائل تشير إلى أن هذه الحكومة بصدد تكثيف تواجدها وتوسيع سيطرتها على التجمعات السكانية الفلسطينية في قطاع غزة بعد أن أحكمت سيطرتها العسكرية على الضفة الغربية. وتصريحات شارون حول تسلل عناصر إرهابية من تنظيم بن لادن “القاعدة” إلى قطاع غزة، هدفها تبرير مسبق لأعمال عدوانية واسعة مبيته ينوي القيام بها، وتهيئة الرأي العام الإسرائيلي وكسب أصوات المتطرفين الإسرائيليين في انتخابات الكنيست المقررة في 28 كانون الثاني “يناير”2003، وتأمين الغطاء الأمريكي والدولي لها ولعملية الاجتياح المتدرجة الجارية بالتقسيط لمدن ومخيمات قطاع غزة.
ويخطئ من يعتقد أن “خريطة الطريق” و”مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية” التي أطلقها وزير الخارجية الأمريكية “كولن باول” يوم 12 كانون الأول “يناير” الجاري، ودعوته إلى تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط، توفر فرصة أمام الفلسطينيين لإجراء انتخاباتهم التشريعية والرئاسية في موعدها الشهر القادم. فالخريطة حرمت الفلسطينيين من ممارسة حقهم في اختيار قيادتهم عبر الانتخابات، وصاحب الخريطة وافق على تأجيل فتحها، إرضاء لشارون، إلى ما بعد الانتخابات الإسرائيلية التي سوف تتم بعد أيام من الموعد المحدد نظريا للانتخابات الفلسطينية. وإن اعتماد الانتخابات الفلسطينية أساسا لاختبار “مبادرة الشراكة” وصدقية الحديث الأمريكي عن نشر الديمقراطية والتنمية..الخ يؤكد فشل هذه “المبادرة” ورسوب صاحبها في الامتحان. خاصة أنها قفزت كليا عن دور الصراع العربي الإسرائيلي في تعطيل التنمية ونشر الفقر والتخلف وقمع الحريات في المنطقة العربية، وتعقيد العلاقات العربية الأمريكية. وظهر صاحب المبادرة “الوزير باول” وكأنه يستخف بعقول الشعوب العربية وتطلعاتهم نحو التقدم والديمقراطية والتحرر من التبعية، خصوصا عندما استشهد بتجارب الدول العربية التي سماها، مع احترامي الكبير لتجاربها في مجال الديمقراطية، وقرر رصد مبلغ 29 مليون دولار مبلغا أوليا لنشر الديمقراطية وتعزيز المجتمع المدني..الخ مقابل مليارت تم رصدها لإشعال الحروب المدمرة للتقدم والتنمية.
جميل أن تبحث الإدارة الأمريكية في أسباب انتشار الكراهية والعداء “لأمريكا” في منطقة الشرق الوسط وفي سبل عقد مصالحة مع شعوبها. ولا جدال في أن مخاطبة الوزير باول الشارع العربي والإسلامي مباشرة خطوة في الاتجاه الصحيح. وحديثه عن إجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وتنمية المجتمع المدني وتعزيز دور المرأة..ألخ يتقاطع، بصرف النظر عن النوايا، مع تطلعات شعوب المنطقة نحو الديمقراطية ومحاربة الفقر والتخلف والمرض. لكن هذا الحديث لم يدخل في عقول الفلسطينيين المحاصرين في مدنهم وقراهم ومخيماتهم والمشغولبن في تدبير لقمة العيش وتأمين خروجهم من بيوتهم والعودة إليها سالمين. وحيث باول في نظرهم أشبه بنكتة سمجة تقال في مجالس العزاء بالشهداء وفوق البيوت المنسوفة وعند حواجز العذاب المنتشرة في كل مكان، ولا تساعد في عقد مصالحة معهم وتغيير قناعتهم بأن باول وجميع أركان البيت الأبيض شركاء في الجريمة التي ترتكب بحقهم.
ولعل يفيد أن يعرف الوزير باول أن الفلسطينيون لا يثقون بكلامه ويعتبرون مبادرته شكلا من الدعاية الإعلامية الساذجة قبل بدء الحرب على العراق. وهم مقتنعون أن رفع شارون شارة الفيتو من تل أبيب يكفي لتراجعه وتراجع سيد البيت الأبيض والكونغرس عن مبادراتهم، وسحب كلامهم الجميل عن الديمقراطية والشراكة من التداول في سوق الشرق الأوسط. ولم ينسى الفلسطينيون أن بوش وصفهم بالإرهابيين، ويعارض إجراء انتخابات فلسطينية حرة ونزيهة وديمقراطية يشارك فيها من يشاء من الفلسطينيين.
ويتذكرون كيف صمت باول في أخر زيارة له للمنطقة، منتصف نيسان “ابريل” الماضي، على حصار كنيسة المهد في بيت لحم، ويصمت الآن على إصرار شارون على بقائها تحت الحصار ومنعهم من الاحتفال بالميلاد كما يشتهون. وصورته وهو يدخل مقر عرفات في رام الله “المقاطعة”، والدبابات الإسرائيلية والجرافات تطوق المقر من جميع الجهات لا تزال ماثلة أمامهم. وبعد انتقاله من رام الله إلى تل أبيب تراجع، في حينه، عن مواقفه التي طرحها أمام الصحفيين وبخاصة دعوته إلى؛ وقف العمليات الحربية وانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق الفلسطينية التي احتلتها بعد 28 آذار “مارس”، وضرورة جود قوات طرف ثالث تفصل الفلسطينيين والإسرائيليين. وقال يومها بعد اصطدامه بشارون “القصة معقدة أكثر مما كنت أتصور وحلها بحاجة لوقت أطول مما كنت توقع”.
لا شك في أن أوضاع النظام السياسي الفلسطيني، بحاجة إلى عملية تجديد وإصلاح ودمقرطة. وإذا كان تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية قدرا لا مفر منه، وانتظار الفرج السياسي والديمقراطي من أمريكا وأوروبا يعني بقاء الوضع الفلسطيني المأساوي على ما هو عليه إلى إشعار آخر، فليس أمام قوى النظام السياسي الفلسطيني، سلطة ومعارضة، سوى إشغال الذهن واستنباط أفضل الأساليب الواقعية لمعالجة الأزمة الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية الطاحنة التي يعيشها الفلسطينيون سلطة ومعارضة ومجتمع مدني.
وفي هذا السياق أعتقد أن بناء برنامج سياسي مشترك عبر استفتاء شعبي يمثل قاعدة الحد الأدنى من الإجماع الوطني، بات ضرورة وطنية لا غنى عنها للخروج من المأزق والخلاص من حالة الارتباك السياسي والتنظيمي التي يعيشها الجميع. وإذا تعذر إجراء مثل هذا الاستفتاء في عهد شارون يمكن الاتفاق على أفضل الصيغ العملية الممكنة لإشراك الشعب وقواه السياسية والاجتماعية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني في بلورة هذا البرنامج وحمايته، وتحديد أنجع الطرق لتنفيذه على الأرض ونشره في حقل السياسة الدولية، ومتابعة الإصلاحات في بنية النظام السياسي الفلسطيني بشقيه، سلطة ومعارضة، وتطوير عمل المؤسسات الفلسطينية وإعادة بناء المؤسسة الأمنية.
في كل الأحوال لا غنى في هذه المرحلة عن برنامج مشترك يلحظ الأخطار المحدقة بالقضية، دون مبالغة ودون تصغير أو تبسيط أيضا. برنامج واقعي يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الدولية بعد أحداث 11 سبتمبر “أيلول” في واشنطن ونيويورك، وإعلان العالم الحرب على الإرهاب في كل مكان. برنامج عملي قادر على توحيد السلطة والمعارضة وتعبئة الطاقات الذاتية، وتوسيع جبهة الأصدقاء وتقليص جبهة الأعداء، وتعزيز موقف دور قوى السلام الإسرائيلية في انتخابات الكنيست أواخر الشهر القادم. وتحضير الأوضاع الذاتية لمواجهة اندفاع المجتمع الإسرائيلي نحو التطرف وتحكم شارون وأقطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف بزمام الحكم يضع سنوات إضافية. برنامج يحمي الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية من الخراب والدمار الذي تحمله رياح “عاصفة الصحراء” الجديدة العاتية التي بدأت تتحرك من العراق باتجاه فلسطين وبلاد العرب من المحيط إلى الخليج.
وإذا كان اللقاء الأول بين حركتي حماس وفتح في القاهرة لم يخرج بنتائج ملموسة فالشعب الفلسطيني لن يغفر للطرفين فشلهم في بلورة أسس البرنامج المطلوب في اللقاء الثاني المرتقب. وأظن أن إشراك حركة الجهاد الإسلامي وقوى أخرى وعدد من الشخصيات الوطنية المستقلة الفاعلة في المجتمع الفلسطيني يساهم في نجاح اللقاء وخروجه بالنتائج المرجوة. ومن غير المفهوم استمرار تلكؤ القيادة الفلسطينية في إحياء وتفعيل دور مؤسسات منظمة منظمة التحرير التشريعية والتنفيذية في توحيد الطاقات الفلسطينية ودرء الأخطار المحيطة بالشعب والقضية.
لقد أوقفت حركتي حماس والجهاد الإسلامي وكتائب شهداء الأقصى لسبب أو آخر عملياتها ضد المدنيين الإسرائيليين في العامين الماضيين أكثر من مرة، دون اتفاق مع إسرائيل ودون تدخل مصري وسعودي وأوروبي، ولا أجد سببا مقنعا لعدم الإعلان عن وقفها مرة أخرى، بل هناك مئة سبب وسبب وطني يفرض ذلك في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها شعوب المنطقة وبخاصة الشعب الفلسطيني.