شارون نجح في أسر الجنرال زيني مع سفينة السلاح كارين A
بقلم ممدوح نوفل في 19/01/2003
بعد قصة سفينة السلاح “كارين A” التي سيطرت عليها القوات الإسرائيلية في عرض البحر الأحمر، صعّدت حكومة شارون حملتها الدبلوماسية والإعلامية ضد السلطة الفلسطينية ورئيسها. وتعمل بكل الوسائل على عزله وإضعاف مكانته السياسية والمعنوية داخليا وخارجيا. وواصلت أمام العرب والعالم منعه من مغادرة مدينة رام الله وتحاصر مقر إقامته بالدبابات. وتحاول إقناع الرأي العام الإسرائيلي والدولي بأن عرفات طلّق السلام وتحول إلى إرهابي خطير يهدد أمن الشرق الأوسط كله. وتتهمه بإدارة الإرهاب وتنظيمه ضد إسرائيل والتستر على “إرهابيين”، ووسع دائرة تعاونه مع إيران واستعاد علاقته بحزب الله لتخريب استقرار المنطقة. فهل هذه الحملة الإسرائيلية المركزة عابرة وأغراضها تكتيكية، تستهدف إضعاف السلطة الفلسطينية وابتزاز رئيسها وانتزاع تنازلات سياسية، أم إنها فصل من فصول مشروع خطير يبيته شارون ضد السلطة وقيادتها وضد السلام مع العرب وضد إيران وحزب الله ؟
بالاستناد لتاريخ شارون السياسي العسكري وتجربة الصراع العربي الإسرائيلي، يمكن الجزم بأن الحملة الإسرائيلية الجديدة تتجاوز حدود الابتزاز السياسي للسلطة الفلسطينية ورئيسها، ولها أهداف سياسية وعسكرية وأمنية كبيرة تتجاوز حدود الضفة وقطاع غزة. فالابتزاز السياسي يعني وجود نية وتوجه للعودة إلى طاولة المفاوضات تحت شروط معينة. ومواقف شارون المعلنة من المفاوضات مع السلطة تؤكد أن هذا الأمر غير وارد في تفكيره وتفكير شركاؤه في الحكم أقطاب اليمين. خاصة أن الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي تبنت “تقرير ميتشيل” الذي يدعو إلى وقف جميع أنواع وأشكال الاستيطان. وممارساته العملية على أرض الضفة والقطاع، منذ استلامه دفة الحكم، تؤكد انه ماض في تدمير ما تبقى من الاتفاقات التي توصل إليها الطرفان. وينتظر اللحظة المناسبة لإلغائها بصورة رسمية، باعتبارها خطأ استراتيجي ارتكبه قادة حزب العمل يقود حتما إلى قيام دولة فلسطينية معادية لإسرائيل.
وبصرف النظر عن ملابسات “سفينة السلاح” فقد سقطت عليه هدية من السماء في الوقت المناسب. ووجد فيها صيدا ثمينا ينقذه من المأزق الذي واجهه على أبواب جولة المبعوث الأمريكي الخاص الجنرال “زيني” الثانية. حيث نجح عرفات في “امتحان أسبوع التهدئة” وفرض سيطرته على الأوضاع وتوقف إطلاق النار. وتشكل إجماع دولي في حينه على ضرورة عودة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى طاولة المفاوضات والشروع في تنفيذ تقرير “لجنة ميتشيل”، كخطوة أولى على طريق تنفيذ الاتفاقات الرسمية الموقعة بين الطرفين، ووضع آلية لتنفيذ “الرؤية الأمريكية” التي تحدثت عن دولة فلسطينية. ويسجل للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية نجاحها بالتعاون مع جهات أمنية أمريكية باختراق مسلسل السفينة “كارينA” من بدايته. وصورتها وكأنها مدمرة حربية تحمل رؤوسا نووية قادرة على تدمير إسرائيل.. ورغم أنها ليست اكبر ولا أقل من مشروع نقل سلاح تقليدي، بهدف التجارة والسمسرة، من نقطة مجهولة في المياه الدولية إلى نقطة أخرى أقرب إلى ساحة الصراع العربي الإسرائيلي الملتهبة، حيث تزدهر تجارة السلاح، نجحت القيادة الإسرائيلية في خلط الحقائق بالأكاذيب، وفبركت وقائع جديدة وصاغت رواية كاملة، تم إخراجها في فيلم بوليسي طويل متقن، تعمل على عرضه في واشنطن وعواصم الدول الأوروبية أطول فترة ممكنة.
لا شك في ان تورط عناصر فلسطينية في قصة “كارين A ” ألحق ضررا فادحا بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني، وأربكت الحركة الفلسطينية في حقل السياسة الدولية وداخل إسرائيل. وسهل على المؤسسة السياسية الأمنية الإسرائيلية صرف الأنظار عن ممارسات الجيش الإسرائيلي العنصرية ضد الفلسطينيين. وزودت شارون وحكومته بما يلزم لأسر الموقف الأمريكي والإيراني واللبناني دفعة واحدة بشبكة واحدة:
أشرك الولايات المتحدة الأمريكية، في “القصة ” من بدايتها قبل بضع شهور، وشغّل أجهزة الاستخبارات الأمريكية في جمع المعلومات عن السفينة وحركتها في المياه الدولية. وحصلت المخابرات الإسرائيلية على معلومات أقمار التجسس الأمريكية أولا بأول. ووظفتها في إفشال مهمة المبعوث الأمريكي الجنرال “زيني”، واستقبلته بالإعلان عن سيطرة الجيش الإسرائيلي على السفينة وكشفت عن محتويات السفينة قبل وصولها ميناء ايلات. وأسرت موقفه، واضطر إلى تعديل جدول أعماله الذي أعده قبل وصوله المنطقة. ومنح “قصة السفينة” أولوية على ما عداها من المسائل. وسيطرت المسائل الأمنية على أجواء اللقاءات التي عقدها مع الفلسطينيين وعكرتها. وتحولت إلى ذريعة لشطب جميع الجهود التي بذلتها القيادة الفلسطينية لتهدئة الوضع فترة أربعة أسابيع، وتبخر الحديث عن”خطة تنيت” “وتقرير”ميتشيل”. وعاد الجنرال ” الزين” إلى واشنطن ” بخفي حنين”، ولم تتردد إدارة بوش في تحميل السلطة الفلسطينية مسئولية فشل مهمته. وبعد مغادرة زيني المنطقة تنفس شارون الصعداء، وتابعت الدبلوماسية الإسرائيلية في دهاليز البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية حملتها ضد السلطة الفلسطينية وضد حزب الله وإيران. وقرر شارون، رغم أنف شمعون بيريز، وقف الاتصالات السياسية والأمنية مع الجانب الفلسطيني، التي أحياها المبعوث الأمريكي.
ورغم ان احتجاز السفن في المياه الدولية يعتبر في القانون الدولي عملية قرصنة بحرية إلا أن شارون سرق المثل العربي “ضربني وبكى وسبقني واشتكى”. واتهم عرفات بالوقوف خلف تهريب السلاح بهدف إحداث تغيير استراتيجي في موازين القوى العسكرية..! ينسجم مع التحول الاستراتيجي عن السلام الذي اعتمده، حسب إشاعة شارون، منذ أيلول/سبتمبر الماضي بعد فشل مفاوضات قمة كلينتون وباراك وعرفات في كامب ديفيد. واتهم شارون إيران وحزب الله ومن يقف وراءه في سوريا ولبنان بالضلوع في العملية ومساندة استراتيجية عرفات “الحربجية” وتزويده بالمقومات اللازمة لتنفيذها. وكأن 50 طنا من الأسلحة التقليدية الخفيفة والمتوسطة كافية لإحداث هذا التغيير وتهديد وجود دولة إسرائيل المدججة بالأسلحة النووية.
ورغم نفي السلطة الفلسطينية أية علاقة بالسفينة وتشكيل لجنة تحقيق رسمية خاصة لكشف ملابسات اشتراك بعض الكوادر الفلسطينية في العملية، وأصدرت أمرا بتوقيف جميع الفلسطينيين المتورطين فيها، إلا أن إدارة بوش لم تأخذ ما قامت به السلطة في الاعتبار وتبنت جوهر الرواية الإسرائيلية، واستثنت رئيسها عرفات بشكل موارب وخجول. وصدّقت مقولة شارون أن الأموال التي تصل السلطة ورئيسها تنفق على أجهزة ومؤسسات بعضها يمارس الإرهاب وبعضها الآخر ينفق على شراء البواخر والسلاح. ولم تحرك ساكنا إزاء استمرار إسرائيل في مصادرة أموال السلطة الفلسطينية التي تجبيها من الضرائب والجمارك على بضائع يستوردها فلسطينيون. ورغم نفي إيران وحزب الله علاقتهما بالقصة، وتلميحهما إلى مواقفهما السلبية من سياسة الرئيس الفلسطيني وتوجهاته “الاستسلامية”، إلا أن بوش وأركانه رفضوا التوضيحات الإيرانية واللبنانية، وتبنوا الادعاء الإسرائيلي دون دليل ملموس يلغي الأدلة الكثيرة على تشنج هذه العلاقة منذ توقيع اتفاق اوسلو في العام 1993. ورفعوا وتيرة اتهام حزب الله بممارسة الإرهاب، وطالبوا السلطة اللبنانية بالضغط على قيادة حزب الله لتسليم كوادر متهمة بارتكاب أعمال إرهابية ضد المصالح الأمريكية سابقا. واستنادا لهذا الموقف الأمريكي الصارخ في انحيازه قرر شارون وقادة أذرع الأمن تشديد الحصار على الفلسطينيين وتجويعهم وإذلالهم بأمل تركيعهم. وفي سياق جس نبض وزراء حزب العمل ودول الاتحاد الأوروبي والإدارة الأمريكية أوعز شارون لعدد من وزراء الليكود رفع أصواتهم والمطالبة بتدمير السلطة ومؤسساتها وإبعاد رئيسها عرفات إلى خارج الأراضي الفلسطينية.
ومع اقتراب عودة “زيني” للمنطقة، أعلن شارون أن حكومته تنوي عقد جلسة خاصة لتقييم استراتيجيتها إزاء السلطة ورئيسها. وطلب من الإدارة الأمريكية إرجاء الزيارة، وأرفق طلبه بتصعيد نوعي لأعمالها العدوانية ضد الفلسطينيين، شعبا وقيادة وممتلكات. ونسف الجيش الإسرائيلي عشرات المنازل في مخيم رفح للاجئين أمام سمع وبصر أهالي مدينة رفح المصرية. واستأنفت أجهزة الأمن الإسرائيلية حرب الاغتيالات واغتالت المخابرات الإسرائيلية “رائد الكرمي” قائد كتائب الأقصى في منطقة طولكرم بهدف استدراج حركة فتح التي يترأسها عرفات إلى رد فعل يمكنه من اختتام معركة تدمير السلطة والإطاحة برئيسها. وبصرف النظر عن النوايا والانفعالات التي تولدها مواقف شارون وممارسات جيش الاحتلال، أعتقد أن حركة حماس وكتائب الأقصى التابعة لفتح وقعتا في الفخ الذي نصبه شارون، عندما قتلت الأولى أربعة جنود من البدو، ونفذت الثانية عملية انتحارية شوهت صورة النضال الفلسطيني، وأضعفت موقف القوى السلام خاصة وأنها استهدفت قاعة أفراح تغص بالمدنيين. ورغم وضوح نوايا شارون قبلت إدارة بوش المبررات الإسرائيلية وصمتت على إجراءاتها العدوانية العسكرية والأمنية والاقتصادية ضد الشعب الفلسطيني، وصمتت محاولات إذلال القيادة الفلسطينية وصنفتها أعمال تندرج في نطاق الدفاع عن النفس.
أعتقد أن قصة السفينة وما سبقها وتلاها من مواقف إسرائيلية سياسية معلنة وأعمال عسكرية ملموسة ضد الفلسطينيين، كافية للتأكيد على ان شارون ماض في تنفيذ مخططه المدمر لعملية السلام وإخضاع الفلسطينيين والعرب لإرادته. ولا شك في ان مجاراة الإدارة الأمريكية لهذه المواقف وتبريرها لتلك الأعمال “وتفهمها”، وظهور النظام الرسمي العربي عاجزا ومرتبكا.. يشجعه على تطوير مواقفه وأعماله. ويعتقد شارون وأركانه أن تبدل أولويات الإدارة الأمريكية بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر العام الماضي في واشنطن ونيويورك وتركيز توجهها نحو محاربة الإرهاب، يوفر فرصة ثمينة لتوريط إدارة بوش في حروب متفرقة في أنحاء المنطقة بدلا من الانشغال في أحياء عملية السلام وصنع استقرار الشرق الأوسط. وكي لا يفاجئ العرب كما فوجوا عام 1967 يجب النظر لحملة اليمين الإسرائيلي المتصاعدة ضد عرفات وايران وحزب الله باعتبارها، من جهة، عملية تعبئة للشارع الإسرائيلي لتقبل قيام الأذرع الأمنية الإسرائيلية بأعمال حربية نوعية واسعة تستهدف تقويض السلطة الفلسطينية وليس مفاوضتها، وقد تطال لبنان وسوريا، وقدرات إيران العسكرية وخاصة برنامج تطوير الصواريخ البالستية بعيدة المدى. ومن جهة أخرى، تهيئة لرأي العام الدولي وتحضيره لتقبل الأعمال الحربية الإسرائيلية اللاحقة. ومراجعة التحضيرات السياسية والنفسية التي قامت بها إسرائيل على أبواب حرب حزيران 1967 والحرب على لبنان في العام 1982، تعزز هذه الرؤيا، وتدحض تفس