بعد مؤتمر القمة: هل يبعد شارون عرفات ؟
بقلم ممدوح نوفل في 23/02/2003
وسط انشغال العالم بالملف العراقي صعّدت إسرائيل هجماتها ضد الشعب الفلسطيني وزادت في تدخلها في شئون السلطة. ورفع الجيش الإسرائيلي وتيرة عملياته العسكرية في قطاع غزة، بعد أن أكمل سيطرته الأمنية على الضفة الغربية. وارتفع معدل الشهداء من المدنيين الفلسطينيين، وزادت نسبة الخراب والدمار في الممتلكات وفي عدد البيوت المنسوفة. كل هذا جرى ويجري في ظل صمت عربي ودولي. ولم يسمع الفلسطينيون صوتا، يبعث الأمل بوقف ما يجري ضدهم ويشعرهم أن هناك من يتحسس آلامهم ويسعى لتخفيف معاناتهم. وسمعوا صوتا أمريكيا قويا يبرر العدوان، واعتبر قتل المدنيين الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم “حقا مشروعا تمارسه إسرائيل في إطار الدفاع عن النفس ومكافحة الإرهاب”.
إلى ذلك، تراجعت قيادة حماس عن موقف صحيح اتخذته، حصر استخدام “صواريخ القسام” ومدافع الهاون في إطار الدفاع عن النفس. ونحج شارون في استدراجها من جديد إلى ميدان العمل العسكري الذي يتفوق فيه. وردت حماس على التصعيد الإسرائيلي وقصفت مدينة “سديروت” بالصواريخ، سقط أحدها فوق معمل وأصاب ثلاثة إسرائيليين بجروح خفيفة.. وعلق وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز على القصف، وقال “العملية العسكرية في قطاع غزة سوف تتواصل، وسوف نستخدم جميع الامكانات المتوفرة للقضاء على أوكار الإرهاب وسنوجه ضربات قوية موجعة لحركة حماس”.
لست من أنصار التطير في تقيم المواقف، أو المبالغة في تقدير ما يمكن أن تفعله إسرائيل في الأسابيع القادمة ضد الفلسطينيين، سلطة شعبا ومعارضة. وإذا كان لا خلاف على أن موفاز يعني ما يقول ويبحث عن ذريعة للعدوان، فإن استئناف قصف المدن الإسرائيلية بالهاونات والصواريخ أو تنفيذ عمليات انتحارية جديدة ضد المدنيين في إسرائيل، يسهل عليه تنفيذ مآربه ولا يعطلها. وتراجع قيادة حماس عن موقفها الواقعي يشير إلى خلل كبير في تقدير الموقف، ويعكس حالة من البلبلة والارتباك في صنع القرار. وهذا الخلل وذاك الارتباك يضعفان الموقف الفلسطيني في الساحة الدولية ويشوشان عليه في القمة العربية.
إلى ذلك، أعتقد أن تفحص أقطاب القمة العربية، مطلع آذار القادم، الوضع في الأراضي الفلسطينية بصورة موضوعية هادئة، يضعهم أمام الحقيقة المرة التالية؛ ما قام وسوف يقوم به شارون ضد الفلسطينيين يندرج في إطار خطة إسرائيلية منسقة مع أركان الإدارة الأمريكية، لها أهداف مشتركة سياسية وعسكرية وأمنية استراتيجية كبيرة، تتجاوز حدود الضفة الغربية وقطاع غزة، وأخطر بكثير من ابتزاز السلطة الفلسطينية سياسيا، ومن توجيه ضربات قوية لحركة حماس وتدمير بنية “الإرهاب” كما يدعي شارون وأركانه.
فالابتزاز السياسي، كما يعرف الجميع، يعني وجود نية لحل النزاع بالوسائل السلمية والعودة لطاولة المفاوضات وفق شروط معينة تحاول إسرائيل فرضها على الفلسطينيين. ويعرف أركان القمة العربية أكثر من سواهم أن هذا الأمر غير وارد في تفكير شارون وتفكير شركائه في الحكم من أقطاب اليمين، خصوصا بعد فوز برنامجهم بصورة ساحقة في الانتخابات الأخيرة. وتسريب مكتب شارون، خلال اجتماع اللجنة الدولية الرباعية قبل أيام في لندن، أن إسرائيل تنوي إدخال 100 تعديل على خريطة الطريق، يبين حقيقة موقف شارون من مسألة تهدئة الوضع واستئناف المفاوضات. ويكشف زيف حديثه عن استهداف حماس ومحاربة الإرهاب، ويؤكد انه ماض في إغلاق طريق الحل السياسي وتكريس الخيار العسكري. ويعتقد شارون أنه بتفوق إسرائيل عسكريا على العرب يمكن خوض الحرب على اكثر من جبهة، وقدراتها الهائلة المقرونة بدعم سياسي أمريكي تكفي لفرض الاستسلام على الفلسطينيين.
بديهي القول أن الملوك والرؤساء العرب على علم بأن الأيام والأسابيع القليلة القادمة تحمل معها تطورات أمنية وسياسية خطيرة على الفلسطينيين. وأن صمت الإدارة الأمريكية على أعمال شارون ضد الفلسطينيين قبيل انعقاد قمتهم، وضغطها على روسيا والاتحاد الأوروبي وأمين عام الأمم المتحدة لتأجيل إعلان “خريطة الطريق..الخ يندرج في إطار كسب ود اللوبي الإسرائيلي الصهيوني في أمريكا، ومعاقبة العرب شعوبا وحكام على موقفهم السلبي من الحرب التي تنوي شنها على العراق، وابتزازهم ودفعهم إلى غض النظر عن الذي يجري في فلسطينين، وتأييد تدمير العراق، حتى لو أدى ذلك إلى صدامات دموية مع شعوبهم وتدمير أنفسهم وأنظمتهم وتخريب دولهم. ويخطئ أي زعيم عربي أو فلسطيني يصدق أقوال بوش أنه سوف يركز جهده لحل النزاع العربي الإسرائيلي بعد الانتهاء من المسألة العراقية. وإذا كانت مقدمات الحرب على العراق “أشغلته” عن الاهتمام بخريطة الطريق التي شارك وزير خارجيته في رسمها، فالسيطرة على تفاعلات الحرب الواسعة داخل العراق وخارجه كفيلة باستهلاك ذهنه ووقته حتى انتخابات الرئاسة الأمريكية الجديدة أواخر العام القادم.
ولم تتوانى إدارة بوش عن ابتزاز قمة القاهرة قبل انعقادها وهددت الزعماء العرب بقطع المعونات المالية والاقتصادية ووقف المساعدات الأمنية والعسكرية. وتلوح بتشجيع إسرائيل على المضي قدما في تنفيذ أعمالها العدوانية ومخططاتها التوسعية، وتعميق نزيف الجرح في الجسد الفلسطيني، وفتح جروح جديدة في الجسد العربي يصعب اندمالها. ولعل يفيد تذكير أقطاب قمة القاهرة، إذا نفعت الذكرى، أن الهجوم االكبير الذي شنه الجيش الإسرائيلي على مقر عرفات في رام الله وسائر مدن ومخيمات وقرى الضفة الغربية أواخر آذار “مارس” 2003، تم فور انتهاء قمة بيروت. وأظن أن شارون سوف يتعمد تكرار المشهد بصورة أكثر دراماتيكية بعد قمة القاهرة. خاصة أنه يهوى الاستهتار بالقمم العربية والاستخفاف بمقرراتها، ويحتقر الزعماء العرب دون استثناء، ويستمتع في إحراجهم وتوجيه الإهانات لهم، ويتمنى أن يتمكن من إذلالهم واحدا بعد الآخر كما يفعل الآن مع عرفات.
ويجد شارون في الدعم الأمريكي، واستمرار حالة الضعف والتشرذم التي يعيشها النظام السياسي العربي، بشقيه الرسمي والشعبي، ومظهره البائس، فرصة لا تعوض لاستكمال مشروع حزب ليكود القديم الجديد القائم على قتل و”تطفيش” أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، ونهب أرضهم واستيطانها. وتدمير بقايا السلطة الفلسطينية وتحطيم مقومات قيام دولة فلسطينية في المستقبل. وأول خطواته المتوقعة بعد قمة القاهرة: المضي قدما في إعادة احتلال قطاع غزة الجارية بالتقسيط وبسط سيطرته الأمنية في جميع مدنه ومخيماته وقراه، كما يفعل في الضفة، وفرض الاستسلام على الفلسطينيين. وسوف يبذل المستحيل
لانتزاع موقف أمريكي يسهل له تحقيق حلم التخلص من عرفات وطاقمه الذي يراوده منذ سنين طويلة، وفرض قيادة فلسطينية بديلة عميلة تأتمر بأوامره.
ويعرف الزعماء العرب أن شارون يتمنى أن تتيح له إدارة بوش فرصة المشاركة المباشرة في الحرب القادمة على العراق. ويسعى لاستغلاها في تكريس مخططاته التوسعية في الأراضي العربية وبناء مزيد من المستوطنات في الأراضي الفلسطينية، وخلق حقائق على الأرض يصعب تجاوزها. ويتعامل مع هذه الحرب باعتبارها مدخلا رحبا لمعالجة أزمة إسرائيل الاقتصادية الأمنية. ومنطلقا لبعث نزاعات عربية عربية، وخلق قضية أو عدة قضايا جديدة تشغل الشعوب العربية في الدفاع عن وجودها، وتشغل الحكام العرب، سنوات طويلة، في البحث عن سبل حماية الذات وبقاء نظمهم ودولهم. ومن يعرف تاريخ شارون السياسي العسكري لا يستبعد إقدامه، خلال الحرب على العراق، على إشعال جبهة جنوب لبنان، بأمل تدمير حزب الله كقوة عسكرية يمكنها يوما ما إزعاج إسرائيل، واستدراج أو إحراج القيادة السورية وإجبارها على سحب قواتها من لبنان.
لا شك في أن القمة العربية تواجه امتحانا صعبا وعسيرا، وإذا كان ليس عاقلا من يطالب الزعماء العرب بإعلان الحرب على أمريكا وإسرائيل، فان الرضوخ للمطالب الأمريكية وتسهيل الحرب على العراق، والخضوع لأطماع شارون في فلسطين، يجلب الكوارث على العرب شعوبا وأنظمة. ومن حق الشعوب العربية مطالبة حكامهم درء هذه الكوارث وتوحيد موقفهم وإعلان رفض العرب الحرب على العراق. وعدم الرضوخ للابتزاز الأمريكي كما فعلت ألمانيا وفرنسا وروسيا، وأن لا تكون معارضتهم للحرب داخل الأمم المتحدة وخارجها أضعف واقل من معارضة هذه الدول الرافض بقوة لهذه الحرب. وان يصروا على حل المسألة العراقية بالوسائل السلمية وعبر الأمم المتحدة، وأن يعتبروا تجاوز الأمم المتحدة اعتداء سافرا على شعب العراق جميع الشعوب والدول العربية.
وإذا كان ليس بمقدور القمة العربية منع وقوع الحرب على العراق، فبامكانها اتخاذ قرار يؤكد عدم السماح للقوات الأمريكية والبريطانية وحلفائها باستخدام أراضيهم منطلقا للهجوم على العراق. وظهور عجز الزعماء العرب في منع الحرب الأمريكية على العراق أفضل من إدانتهم بارتكاب جريمة تبريرها وتسهيلها، فالحرب تستهدف شعب العراق ومقدراته وليس نظام صدام، وهم جميعا لن يكونوا بمنأى عن نتائجها المدمرة.
إلى ذلك، يدرك الفلسطينيون أن نصيبهم الملموس في هذه القمة قليل وقد لا يتجاوز تجديد الدعم المالي. ويعرفون أن من لم يستطع تمكين عرفات من حضور القمة، لن يستطيع وقف المجزرة الجارية ضدهم. وخير لهم التفكير في سبل تقليص خسائرهم خلال وبعد الحرب على العراق، وتفعيل دور الشعوب العربية والرأي العام العالمي في إسنادهم في محنتهم المستمرة