أعطوا أبو مازن وحكومته فرصة
بقلم ممدوح نوفل في 13/03/2003
أثار قرار استحداث منصب رئيس وزراء في هيكلية السلطة الفلسطينية وتكليف “أبو مازن” بالمهمة، نقاشا واجتهادات واسعة، مظاهر التباين في الرأي فيها أكبر من الاتفاق. وبصرف النظر عن تردد وتأخر أبو عمار في اتخاذ القرار، فإن اعتراض بعض القوى الفلسطينية عليه بعد صدوره يندرج تحت بند سوء تقدير الموقف، وقراءة خاطئة للخطوة، وللتطورات الدولية الدراماتيكية وانعكاساتها على القضية الفلسطينية. وموقفها السلبي غير مفهوم في الشارع الفلسطيني، خاصة أنها ترفع راية الإصلاح، وملاحظاتها وتحفظاتها المعلنة لا تغير في حقيقة أن استحداث منصب رئيس وزراء وتوزيع المهام وتقسيم الصلاحيات وإنهاء التفرد..الخ خطوة هامة على طريق الإصلاح المنشود، تحمل في طياتها مقومات تحقيق بعض أهداف دعاة الإصلاح والتجديد والتغيير.
وإذا كانت خطوة تعيين رئيس وزراء، في نظر البعض، ولدت في عملية قيصرية فرضتها تدخلات خارجية، وجزء يسير من إصلاحات كثيرة يطالب بها المجتمع الدولي، فجميع القوى الوطنية والإسلامية تعرف أنها مطلب فلسطيني قديم جدا، ظهر في المسرح السياسي الفلسطيني، أول مرة، عند إعلان الاستقلال وقيام الدولة في الجزائر في تشرين الأول “نوفمبر” 1988. وكانت الجبهة الديمقراطية والشهيد أبو إياد وفئة واسعة من المستقلين أشد المتحمسين لتشكيل حكومة وفصل رئاسة الدولة عن رئاسة الحكومة. ولعل يفيد التذكير، أيضا، بأن الموضوع ذاته طرح بقوة “ليلة انتخاب أبو عمار رئيسا لدولة فلسطين” في اجتماع المجلس المركزي في تونس مطلع نيسان 1989، بحضور الجبهتين الديمقراطية والشعبية. ودار نقاش ساخن حول استحداث منصب نائب لرئيس الدولة ورئيس للحكومة. وتجدد طرح الموضوع عند تشكيل السلطة الفلسطينية في العام 1994، واقترح البعض استحداث منصب رئيس وزراء، وفصل مهام رئيس اللجنة التنفيذية رئيس السلطة الوطنية عن مهام رئيس الحكومة وعدم الجمع بين عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة وعضوية الوزارة.
إلى ذلك، أجزم أن ظهور استحداث منصب رئيس الوزراء أمام الشارع الفلسطيني، وكأنه استجابة لضغوط إقليمية ودولية لم يكن قدرا لا مفر منه. فقبل أن يتحول الموضوع إلى شرط دولي، وذريعة إسرائيلية لتغطية العدوان، كان الأمر مدار بحث ونقاش فلسطيني. وفي أب “أغسطس” الماضي 2002، رفعت مجموعة من أعضاء المجلس المركزي ـ أفرادها غير طامحين بوزارة ولا أحدا منهم مرتبط بسفارة ـ مذكرة إلى أبو عمار اقترحوا فيها؛ “اتخاذ الاجراءات الدستورية لتعيين رئيس وزراء”، وقالوا ” هذه الخطوة تساعد في تجريد الإدارة الأمريكية من ادعاءاتها الباطلة، وتسهل على السلطة استعادة موقعها في الساحة السياسية الدولية وتفعيل دورها في درء الأخطار المحيطة بشعبنا”. وأضافت مذكرتهم:”ونرى في أبو مازن تحديدا خير من يملأ هذا المركز لاعتبارت سياسية وحزبية وتاريخية”.
في حينه، وافق أبو مازن على الفكرة من حيث المبدأ وأبدى استعداد لتحمل المسؤولية، ورفضها أبو عمار وشكك في جدواها وتساءل هل الإقدام على هكذا خطوة يلغي الانحياز الأمريكي لإسرائيل ويوقف العدوان المتواصل منذ عامين، ويفك الحصار المضروب على القيادة الفلسطينية، أم أنها تسهل لشارون تنفيذ مخططه الرامي إلى تدمير السلطة والتخلص من قيادتها، وفرض الاستسلام على الفلسطينيين؟ لاحقا تجاوب أبو عمار مع المطالب الدولية.
وإذا كانت المعارضة الفلسطينية تسمي تفاعل أبو عمار مع مطالب اللجنة الدولية الرباعية ووعودها، رضوخا للضغوط الخارجية، فهذا التراجع يجب أن يؤخذ في سياقه الوطني. والكل يعرف أن استحداث منصب رئيس وزراء حاجة فلسطينية ملحة قبل أن تكون مطلبا دوليا وشرطا أمريكيا إسرائيليا. وتقاطع المطالب الدولية مع الحاجة الفلسطينية لا يمس مصداقية الخطوة أو وطنيتها ولا يلغي ضروراتها العملية. ومقياس الحكم على هكذا خطوة سياسية كبيرة ليس الدوافع والأسباب الطارئة التي حكمت ظهورها للحياة، بل مدى الحاجة الوطنية لها، وطبيعة أثارها ونتائجها، ومدى خدمتها التوجهات الوطنية المباشرة والبعيدة. والتراجع في سياق حماية المصالح العليا للشعب في مرحلة الحرب على العراق ودرء أخطارها عنه، فضيلة، بعكس ما يمكن أن يقال حول تسهيل حماقة قد يرتكبها شارون ضد الفلسطينيين شعبا وقيادة.
وخير لمن يستخدم ترحيب شارون وبعض أركانه باستحداث المنصب وبتكليف أبو مازن بالمهمة، مبررا لمعارضة الخطوة والتشكيك في جدواها الوطني، أن لا يتسرع في إطلاق الأحكام. فموقف شارون وأعوانه، مناورة مكشوفة عمرها قصير هدفها تشويش العلاقات الداخلية. ولن يقدم شارون وأركانه لرئيس الوزارة أبو مازن شيئا لم يقدموه لعرفات, ولا حاجة للتذكير بأن شارون ليس غيورا على مصالح الشعب الفلسطيني، وموقفه المعادي للفلسطينيين ينطلق من قناعة أيدلوجية عنصرية راسخة لا تتغير. ويستخدم شارون قصة الإصلاح والتغيير لتغطية سياسة القتل والتدمير التي اعتمدها منذ توليه الحكم عام 2001. وموقفه الإيجابي من أبو مازن لن يدوم طويلا، ولن يتوانى عن بذل كل جهد مستطاع لإرباك عمل الحكومة. خاصة أن تعيين رئيس وزراء فلسطيني يجرد شارون الذريعة التي يستخدمها في تعطيل المفاوضات والتنصل من استحقاقات الاتفاقات السابقة وتدمير السلطة وكل مقومات قيام دولة مستقلة.
ويعرف شارون هو وأركانه الأمنيين أن الحكومة الجديدة لن تكون أداة طيعة بيدهم، ولن ترضخ لشروطهم السياسية المذلة ومطالبهم التوسعية. وسيكتشف شارون، إذا كان لا يعرف، أن أبو مازن وحكومته أكثر تشددا في المسائل المتعلقة بالحقوق الفلسطينية الأساسية، وبخاصة الانسحاب حتى حدود عام 1967، وقيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس. وحل قضية اللاجئين حلا عادلا، ويرفض بالمطلق مشروع إقامة كنتونات على 42% من أراضي الضفة. وأجزم أن أبو مازن سوف يولي أهمية استثنائية لتوفير الحماية السياسية للنظام الفلسطيني، وعرقلة مخطط اليمين الإسرائيلي الرامي إلى تدمير السلطة والتخلص من رئيسها عرفات.
لا شك في أن مهام وطنية كثيرة وكبيرة مطلوبة من الوزارة الجديدة ورئيسها في هذه المرحلة الحرجة، في وقت يعترض طريقها صعوبات وعقبات داخلية وخارجية متنوعة. فالسلطة منهكة وأجهزتها الأمنية مدمرة، والمعارضة قادرة على إرباك التوجه، والاحتلال وممارساته اليومية يعقد العمل، واشتعال الحرب على العراق يلقي على عاتق الوزارة أعباء سياسية وأمنية إضافية، ويحرمها، في مرحلة حرجة من عمرها، من الحد الأدنى من الدعم المادي والمعنوي الذي تحتاجه وتعهد أعضاء اللجنة الدولية الرباعية تقديمه. وأشك في أن مؤسسات الإتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة سوف تتمكن في الأسابيع القادمة من فعل شي مجدي يعزز مكانة حكومة أبو مازن. وإذا كانت حركة الأساطيل والطائرات والصواريخ الأمريكية البريطانية باتجاه العراق طغت، قبل وقوع الحرب، على ما عداها من المشهد في الشرق الأوسط، فإن نارها ودخانها وغبارها تكفي لحجب الرؤية عما يجري في فلسطين.
والرهان على ترجمة ترحيب الإدارة الأمريكية بتعيين أبو مازن رئيسا للوزراء، إلى خطوات عملية يلمسها الناس في الضفة والقطاع، يشبه حلم إبليس بالجنة، حتى إذا وجهت لأبو مازن دعوة لزيارة واشنطن والتقى سيد البيت الأبيض. فالرئيس بوش جمد “خريطة الطريق”، المبادرة السياسية الوحيدة المتداولة، إرضاء لشارون واللوبي الإسرائيلي، إلى ما بعد انتهاء الحرب على العراق، وهذه الحرب أولها معروف، وتفاعلاتها في الساحة الدولية وداخل أمريكا وفي الشرق الأوسط، غامضة ومجهولة، وكفيلة باشغال الرئيس بوش عن النزاع العربي الإسرائيلي برمته حتى موعد انتخابات الرئاسة القادمة أواخر العام القادم 2004. والتجربة التاريخية تؤكد أن الفلسطينيين يتعرضون دوما لأقسى الضغوط الأمريكية في مثل هذه الفترة.
في جميع الحالات لا خيار أمام حكومة أبو مازن سوى البدء في العمل بما توفر لديها من صلاحيات وامكانيات وحسب الأولويات الوطنية. والتدقيق في واقع الحال الفلسطيني يبين أن تأمين لقمة العيش وتوفير الأمن، أمران ملحان ينافس أحدهما الآخر في احتلال قمة الأولويات الفلسطينية، ويحتار المواطن الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة أيهما الأهم لبقائه على قيد الحياة في وطنه. وأظن ليس بالامكان توفير أيا من الأمرين في ظل حال ازدواجية السلطة القائمة على الأرض، وتواصلت العمليات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين. ولا جدال في أن حماس والجهاد الإسلامي قادرة، ببضع عمليات انتحارية وبضع قذائف تطلق مثلا على مدينة “سديروت” في النقب، إفشال جهود حكومة أبو مازن في تحقيق هذين المطلبين الشعبيين، خاصة أن شارون وأركانه في اليمين الإسرائيلي ينتظرون هذه العمليات الحربية ليفتحوا النار على أبو مازن وحكومته.
ولكن، بديهي القول أيضا، أن تعمد إفشال الحكومة الجديدة يدفع بالخلاف الفلسطيني الداخلي إلى نقطة اللاعودة، ويفتح الباب لصراعات فلسطينية داخلية ليست في صالح أحد. فهل ستعطي المعارضة حكومة أبو مازن فرصة؟ وهل تلتزم بالمبدأ الديمقراطي الذي يؤكد على “خوض الصراع الداخلي في إطار الحرص على الوحدة”، أم أنها سوف تخطئ مرة أخرى في تقدير الموقف وتزيد في عذاب الفلسطينيين ؟
في جميع الحالات، يبقى تعيين رئيس وزراء في السلطة الفلسطينية خطوة صائبة في الاتجاه الصحيح، تؤسس لمرحلة جديدة في حياة النظام السياسي الفلسطيني. وإذا كان أبو مازن مطالب بتشكيل حكومة تحظى بمصداقية شعبية ودولية، فدعاة التجديد والإصلاح الصادقين ملزمون بالعمل على إنجاح الحكومة واحتضان التوجه وحمايته وتطويره والبناء عليه. وفشل حكومة أبو مازن فشل للجميع، بما في ذلك الذين عارضوا استحداث منصب رئيس وزراء. والمصلحة الوطنية العليا للشعب الفلسطيني تكمن في إنجاح الخطوة وتقليص الخسائر في هذا الزمن العربي والدولي الرديء.