استحداث منصب رئيس وزراء في السلطة الفلسطينية بين الترحيب والتشكيك
بقلم ممدوح نوفل في 05/04/2003
قبل وصول هذا العدد من “المجلة” للقارئ، يفترض أن يكون محمود عباس “أبو مازن” قد انتهى من تشكيل حكومته ونال ثقة المجلس التشريعي. ومحمود عباس عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، هو ثاني رئيس حكومة في التاريخ الفلسطيني بعد “أحمد حلمي باشا” رئيس “حكومة عموم فلسطين”، التي تشكلت بعد “النكبة” في 23/9/1948 ولم تنجح في تكريس ذاتها كجزء رئيسي من مكونات النظام السياسي الفلسطيني وقائدة له(1). ولم تعمر طويلا لاعتبارات عربية ودولية وفلسطينية، وجمدت أعمالها بصورة رسمية عام 1952. وتحولت إلى جزء من التاريخ الفلسطيني، بالكاد يتذكرها كبار السن من الفلسطينيين والمؤرخين الفلسطينيين والإسرائيليين القدامى و”الجدد”. فهل ستعمر حكومة أبو مازن طويلا أم أن عمرها قصير؟ وهل استحداث هذا المنصب في هيكلية السلطة الفلسطينية يلبي حاجة فلسطينية وله ضروراته الوطنية، أم أن لا ضرورة له فرضته عوامل خارجية قاهرة؟ وهل سيلعب هذا الإطار القيادي الجديد دورا فاعلا في النظام السياسي الفلسطيني ويكرس نفسه قائدا له، أم انه قام على أرضية فلسطينية غير ناضجة لاستيعابه، وسوف يعمق الانقسام القائم في الحركة الوطنية الفلسطينية منذ اتفاق اوسلو عام 1993، ويحوله إلى صراعات داخلية دموية؟
أسئلة كثيرة واجتهادات متنوعة أثارها استحداث منصب رئيس حكومة فلسطينية في صفوف الفلسطينيين داخل وخارج الأراضي الفلسطينية مظاهر التباين فيها أكبر من الاتفاق. بعضها تضمن نوعا من الترحيب بالخطوة والبعض الآخر على النقيض من ذلك. وأظن أن المقارنة التي يجريها بعض المشكيين مع حكومة عموم فلسطين برئاسة “حلمي باشا”، غير موضوعية وتتجاهل أن أوضاع الحركة الوطنية الفلسطينية والظروف الدولية والإقليمية المحيطة بالقضية الفلسطينية في مطلع القرن الحادي والعشرون، تختلف عن التي أحاطت بها في منتصف القرن الماضي. والسؤال المطروح ليس كم من الزمن سوف ستبقى حكومة أبو مازن على قيد الحياة، بل ماذا يمكن أن تحقق للفلسطينيين في المدى المنظور ؟
الفكرة قديمة والتباين حولها له ما يبرره
إلى ذلك، بينت المشاورات والاتصالات التي أجراها أبو مازن أن حركة “فتح” وحزب الشعب وحزب فدا وجبهة النضال الشعبي وأغلبية واسعة في المجلس التشريعي وقطاع واسع من المستقلين يساندون التوجه، ويدعون إلى الالتفاف حوله باعتباره ضرورة وطنية قبل أي شيء آخر، ويفتح الآفاق أمام تحقيق بعض قضايا الإصلاح والتجديد المنشودة. وأظهروا رغبة قوية بالمشاركة في الحكومة، وأشك في أن حكومة أبو مازن تتسع لجميع المستوزرين من الفصائل والأحزاب والمنظمات الشعبية والمجلس التشريعي والمستقلين. أما حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية فقد اعتبرت الخطوة جزءا يسيرا من مطالب وشروط كثيرة تطالب بها إسرائيل والإدارة الأمريكية والإتحاد الأوروبي، وشككت في جداوها الوطني وتعارض التوجهات السياسية لرئيس الحكومة. ورفضت في بيانات علنية المشاركة في الحكومة وتخشى أن تتحول إلى “حصان طروادة” لإجهاض “الانتفاضة”، والرضوخ للضغوط الأمريكية الإسرائيلية وتقديم تنازلات تمس الحقوق الوطنية. وبين المرحبين والمشككين بالخطوة تقف الأغلبية الشعبية “الصامتة” بانتظار ما ستحققه الحكومة الجديدة.
لا شك في أن التباين الحاد بين أطراف النظام السياسي الفلسطيني حول هذه المسألة الوطنية وسواها من القضايا الوطنية الكبرى أمرا طبيعيا، وله ما يبرره. فالقرار باستحداث المنصب لم يأتي في سياق عملية داخلية صرفة هدفها دمقرطة أوضاع السلطة وإصلاحها، وظهر للحياة بعد تعرض القيادة الفلسطينية لضغوط خارجية وتعرض عرفات شخصيا لضغوط أمريكية وإسرائيلية مكثفه، تبعها ضغط قوي صريح مارسته “اللجنة الرباعية الدولية”، المشكلة من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وروسيا والأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان(2).
ولم يتوقف ضغط هذه اللجنة على القيادة الفلسطينية عند حدود الحديث المباشر والإلحاح الشديد في اللقاءات الثنائية والجماعية التي عقدت مع عرفات وأركان السلطة، بل أدرجت هذا المطلب الأمريكي الإسرائيلي نقطة رئيسية في نص مسودة “خريطة الطريق لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”(3). وربطت الإعلان عن “الخريطة” والشروع في تنفيذها باستحداث المنصب ونشر القرار في الصحف ووكالات الأنباء وتكليف شخصية محددة بالمهمة. وبعد تلبية مطالبها رحب أطراف هذه اللجنة بالخطوة، وجاء الترحيب الإسرائيلي أكثر من متحفظ وحمل في طياته شروطا وملاحظات تنم عن نوايا سيئة. وتلقى رئيس الوزراء المكلف التهاني من الجميع، ولم يرفع الحصار الإسرائيلي عن عرفات، ولم يلمس الناس في الضفة والقطاع غزة تغيرا في الموقف الإسرائيلي على الأرض، وواصلت حكومة شارون كافة صنوف أعمالها العدوانية ضدهم وشدد الحصار المضروب حول المدن والقرى والمخيمات وزادت في الاعتقالات وتدمير الممتلكات.
وبصرف النظر عن دوافع وأهداف الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية و”اللجنة الرباعية” من استحداث منصب رئيس وزراء، فإن أشد معارضي الخطوة لا يستطيعون إنكار أنها كانت ولا تزال حاجة فلسطينية ملحة قبل أن تكون مطلبا دوليا وشرطا أمريكيا إسرائيليا. وتقاطع المطالب الدولية مع الحاجة الفلسطينية لا يمس مصداقية الخطوة أو وطنيتها ولا يلغي ضرورتها العملية. وإذا كانت خطوة تعيين أبو مازن رئيسا الوزراء، في نظر بعض القوى الفلسطينية، ولدت في عملية قيصرية فرضتها تدخلات خارجية فالكل يعرف أن هذه المسالة بحثت مرات عدة في الهيئات القيادية الفلسطينية. وظهرت على المسرح السياسي الفلسطيني، أول مرة، في دورة المجلس الوطني التاسعة عشر عند إعلان الاستقلال وقيام الدولة في الجزائر في تشرين الأول “نوفمبر” 1988، وكانت الجبهة الديمقراطية وعدد قليل من قادة حركة فتح وفئة واسعة من المستقلين متحمسين لتشكيل حكومة فلسطينية مؤقتة وفصل رئاسة الدولة عن رئاسة الحكومة.
وقرر المجلس الوطني في حينه: “1) تشكل لدولة فلسطين حكومة مؤقتة في أقرب وقت ممكن، وطبقا للظروف وتطور الأحداث. 2) يفوض المجلس المركزي اللجنة التنفيذية بتحديد موعد تشكيل الحكومة المؤقتة، وتكلّف اللجنة التنفيذية بتشكيلها، وتعرض على المجلس المركزي لنيل ثقته. ويعد المجلس المركزي النظام المؤقت للحكم، إلى حين ممارسة الشعب الفلسطيني لسيادته الكاملة على الأرض الفلسطينية.3) يتم تشكيل الحكومة المؤقتة من القيادات والشخصيات والكفاءات الفلسطينية من داخل الوطن المحتل وخارجه، وعلى أساس التعددية السياسية وبما يجسد الوحدة الوطنية.4) تحدد الحكومة المؤقتة برنامجها على قاعدة وثيقة الاستقلال والبرنامج السياسي لمنظمة التحرير وقرارات المجالس الوطنية. 5) يكلف المجلس الوطني اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بصلاحيات ومسؤوليات الحكومة المؤقتة لحين إعلان تشكيلها”(4).
ولعل يفيد التذكير أيضا بان الموضوع ذاته طرح بقوة “ليلة انتخاب أبو عمار رئيسا لدولة فلسطين” في اجتماع المجلس المركزي في تونس مطلع نيسان “ابريل” 1989، بحضور الجبهتين الشعبية والديمقراطية. ودار نقاش ساخن حول استحداث منصب تائب لرئيس الدولة ورئيس للحكومة. وتجدد طرح الموضوع عند تشكيل السلطة في العام 1994، واقترح البعض استحداث منصب رئيس وزراء، وفصل مهمات رئيس اللجنة التنفيذية رئيس السلطة الوطنية عن مهمات رئيس الحكومة وعدم الجمع بين عضوية اللجنة التنفيذية وعضوية الوزارة. وأيا تكن النوايا، فالإعتراض في هذا الوقت بالذات على استحداث هذا المنصب يندرج، حسب تصوري، تحت بند قراءة خاطئة للخطوة وأبعادها الوطنية، وسوء تقدير للموقف المحيط بالشعب الفلسطيني في هذه مرحلة صعبة ومعقدة، واستصغار شأن التطورات الدولية الدراماتيكية وانعكاساتها على القضية الفلسطينية.
وإذا كانت المعترضون والمتحفظون على الخطوة يعتبرون التفاعل مع مطالب “اللجنة الرباعية الدولية” رضوخا للضغوط الخارجية، فهذا التراجع يجب أن يؤخذ في سياقه الوطني. ومقياس الحكم على هكذا خطوة سياسية تنظيمية كبيرة ليس الدوافع والأسباب الطارئة التي حكمت ظهورها للحياة، بل مدى الحاجة الوطنية لها، وطبيعة أثارها ونتائجها، ومدى خدمتها التوجهات الوطنية المباشرة والبعيدة. ثم إن التراجع في سياق حماية المصالح العليا للشعب ودرء الأخطار عنه وتقليص خسائره في مرحلة حكم شارون واليمين المتطرف في إسرائيل، ومرحلة الحرب المدمرة على العراق، فضيلة كبيرة ما بعدها فضيلة، بعكس ما يمكن أن يقال في تسهيل حماقة أو حماقات قد يرتكبها شارون وأركانه ضد الفلسطينيين شعبا وقيادة. وأظن أن الإقدام على الخطوة قبل بدء الحرب على العراق قلصت فرص شارون في توجيه ضربات نوعية للسلطة وقيادتها.
وتجدر الإشارة إلى أن ظهور استحداث منصب رئيس الوزراء أمام الشارع الفلسطيني وكأنه استجابة لضغوط إقليمية ودولية لم يكن قدرا لا مفر منه. فقبل أن يتحول الموضوع إلى شرط دولي، وذريعة إسرائيلية لتغطية العدوان، كان الأمر مدار بحث ونقاش فلسطيني متواصل. وفي أواخر أب “أغسطس” الماضي 2002، رفعت مجموعة من المستقلين من أعضاء المجلس المركزي ـ أفرادها غير طامحين بوزارة ولا أحدا منهم مرتبط بسفارة ـ مذكرة إلى أبو عمار اقترحوا فيها(5)؛ “اتخاذ الاجراءات الدستورية لتعيين رئيس وزراء”، وقالوا ” هذه الخطوة تساعد في تجريد الإدارة الأمريكية من ادعاءاتها الباطلة، وتسهل على السلطة استعادة موقعها في الساحة السياسية الدولية وتفعيل دورها في درء الأخطار المحيطة بشعبنا”. وأضافت مذكرتهم: “ونرى في أبو مازن تحديدا خير من يملأ هذا المركز لاعتبارت سياسية وحزبية وتاريخية”.
في حينه، وافق أبو مازن على الفكرة من حيث المبدأ وأبدى استعدادا لتحمل المسؤولية، ورفضها أبو عمار وشكك في جدواها، وتساءل هل الإقدام على هكذا خطوة يلغي انحياز إدارة بوش لإسرائيل ويوقف عدوان شارون المتواصل منذ أكثر عامين تحت بصر وسمع الجميع، ويفك الحصار المضروب على القيادة الفلسطينية؟ أم أنها تسهل لشارون وأركانه تنفيذ مخططهم الرامي إلى تدمير السلطة والتخلص من قيادتها، وتدمير مقومات الدولة وفرض الاستسلام على الفلسطينيين؟ لاحقا تجاوب أبو عمار مع المطالب الدولية، بأمل تقليص الخسائر الفلسطينية في مرحلة الحرب على العراق وتفسخ النظام الرسمي العربي، وتنفيذ الوعود التي سمعها من أعضاء “اللجنة الرباعية” المتعلقة بفك الحصار وتحريك عملية السلام وحل النزاع. وإذا كان تأخير الخطوة قلل من قيمتها وساهم التدخل الخارجي في تشويه صورتها في الشارع الفلسطيني، فان ظهورها المتأخر خير من عدمه، ولا يحول دون استثمارها في تطوير الوضع الداخلي وتفعيل الدور السياسي في الحقل الدولي.
وخير لمن يستخدم ترحيب شارون وبعض أركانه باستحداث المنصب وبتكليف أبو مازن بالمهمة، مبررا لمعارضة الخطوة والتشكيك في جدواها الوطني أن لا يتسرع في إطلاق الأحكام. فموقف شارون وأعوانه من أقطاب اليمين، مناورة مكشوفة عمرها قصير هدفها تشويش العلاقات الداخلية. وحديثهم الإيجابي حول إسناد مهمة رئاسة إلى أبو مازن لن يدوم طويلا، وبدأ بعضهم وفي المقدمة وزير الدفاع شاؤول موفاز وزير الخارجية الجديد سلفان شالوم يشككون بقدرة أبو مازن وحكومته على القضاء على “الإرهاب والإرهابيين”، ويتحدون عن منح أبو مازن فرصة شهرين كاختبار، ويرفضون تقديم ما يعزز مكانة الحكومة الجديدة في الشارع الفلسطيني قبل التأكد من نجاحها في الاختبار..
ولا حاجة للتذكير بأن شارون ليس غيورا على مصالح الفلسطينيين، وموقفه العدواني ينطلق من قناعة أيدلوجية يمينية عنصرية راسخة لا تتغير. واستخدم قصة الفساد والإصلاح وتغيير عرفات واستحداث منصب رئيس وزراء لتغطية سياسة الهروب من العودة لطاولة المفاوضات وتبرير أعمال القتل والتدمير التي اعتمدها منذ توليه الحكم عام 2001. ويدرك شارون وأركانه الأمنيين أن تعيين وزراء فلسطيني يجرده من الذريعة التي يستخدمها في تعطيل المفاوضات والتنصل من استحقاقات الاتفاقات السابقة. وأن الحكومة الجديدة لن تكون أداة طيعة بيدهم ولن ترضخ لشروطهم السياسية المذلة ومطالبهم التوسعية. ويعرفون سلفا أن أبو مازن وأعضاء حكومته ليسوا أقل تشددا في المسائل المتعلقة بالحقوق الوطنية الفلسطينية الأساسية عن الحكومات السابقة التي ترأسها عرفات، خصوصا المتعلقة بالانسحاب حتى حدود عام 1967، وإزالة المستوطنات، وقيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس، وحل قضية اللاجئين حلا عادلا. ويرفض بالمطلق مشروع شارون الداعي إلى إقامة حكم ذاتي لكنتونات فوق42% من أراضي الضفة الغربية.
مهام كبيرة وظروف تحد من القدرة على الإنجاز
لا شك في أن مهام وطنية كثيرة وكبيرة مطلوبة من الوزارة الجديدة ورئيسها في وقت يعترض طريقها صعوبات وعقبات داخلية وخارجية متنوعة. بعضها يندرج تحت بند مهام ملحة وعاجلة قابل للتحقيق خلال فترة زمنية وجيزة. وبعضها الأخر يصعب تحقيقه طالما ظل اليمين الإسرائيلي بزعامة شارون ممسكا بزمام الحكم في إسرائيل، وظلت الإدارة الأمريكية وجميع الدول العربية والأجنبية المعنية بحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي مشغولة بالحرب على العراق وتفاعلاتها وتداعياتها المباشرة واللاحقة. فالحديث مثلا عن استئناف المفاوضات حول قضايا الحل النهائي (القدس اللاجئين الحدود المياة..الخ) على قاعدة ما طرح في مفاوضات كامب ديفيد في صيف عام 2000، وفي محادثات طابا في شتاء عام 2001، وإزالة الاستيطان، وإنهاء الاحتلال للأراضي في العام 1967، وقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وإجراء انتخابات فلسطينية..ألخ لا أفق لترجمته قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية في تشرين الثاني “نوفمبر” عام 2004. والحركة نحو تحقيقها بعضه سوف تبقى مجمدة إلى ما بعد إنجاز عملية الاستلام والتسليم في البيت الأبيض في شتاء عام 2005. والتجربة التاريخية تؤكد أن الفلسطينيين يتعرضون دوما لأقسى الضغوط الأمريكية في فترة انتخابات الرئاسة والكونغرس الأمريكيين، حيث تزداد حاجة المرشحين الأمريكيين في الانتخابات للوبي الإسرائيلي في أمريكا.
وإذا كان التأكيد على التمسك بالحقوق الوطنية يفرض على أبو مازن إدراج هذه القضايا الجوهرية في برنامج حكومته، فليس من العدل محاسبته عليها خلال العامين القادمين، خصوصا أنه بدأ عمله في ظروف فلسطينية وإقليمية ودولية بالغة الصعوبة والتعقيد، وسوف يجذف في العام الأول من عمر حكومته عكس تيار دولي جارف. فالاحتلال وممارساته اليومية يعقد العمل، وشارون وأركانه لن يقدموا لرئيس الوزارة أبو مازن شيئا يتعلق بالسيادة على الأرض والجو والمياه لم يقدموه لعرفات. والسلطة الفلسطينية منهكة وأجهزتها الأمنية مدمرة ومؤسساتها مشلولة عن العمل، والمعارضة الفلسطينية قادرة على إرباك التوجه، وتداعيات الحرب على العراق تطغى على ما عداها من المشهد في الشرق الأوسط، ونارها ودخانها وغبارها تحجب الرؤيا عما يجري في فلسطين وتلقي على عاتق الوزارة أعباء سياسية وأمنية إضافية. ويحرمها في مرحلة حرجة من عمرها من الحد الأدنى من الدعم المادي والمعنوي الذي تحتاجه وما تعهد أعضاء اللجنة الدولية الرباعية تقديمه. وأشك في أن مؤسسات الإتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة سوف تتمكن في الأسابيع القادمة فعل شي مجدي يعزز مكانة حكومة أبو مازن، خصوصا أن إسرائيل لا تعيير وزنا لها وتسعى لتقليص دورها في حل النزاع. والرهان على ترجمة ترحيب الإدارة الأمريكية بتعيين أبو مازن رئيسا للوزراء، إلى خطوات عملية يلمسها الناس في الضفة والقطاع، يشبه حلم إبليس بالجنة.
ويخطئ من يعتقد أن إدارة بوش مستعدة أو قادرة، خلال فترة الحرب العراق وعلى أبواب الانتخابات الأمريكية، على ممارسة ضغط جدي على حكومة شارون وإرغامها على قبول “خريطة الطريق” التي رسمتها “اللجنة الدولية الرباعية”. خاصة وان رياح هذه الحرب لم تجري كما اشتهت سفن بوش الحربية، وسوف يخرج منها ضعيفا، حتى إذا أطاح بنظام صدام وجرد العراق من أسلحة التدمير الشامل واستولى على منابع النفط العراقي، ومجريات الحرب الأولية تشير إلى أنه سوف ينشغل بها فترة طويلة. فالحرب على هذا البلد لن تنتهي بالإطاحة بنظام صدام، ومعركة إعادة توحيد العراق وبرمجته وفق “الرؤية” الأمريكية مسألة بالغة الصعوبة والتعقيد، خاصة أن القوات الأمريكية والبريطانية تصرفت خلال الحرب كقوات احتلال وقتلت أعدادا كبيرة من المواطنين العراقيين العاديين. ولعل يفيد التذكير أيضا بأن الرئيس بوش طرح “رؤيته” لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي قبل عام، وأجل عرض “خريطة الطريق” مرات عدة إرضاء لشارون واللوبي الإسرائيلي في الكونغرس. ولن يعجز شارون عن ابتزاز الجميع وإيجاد المداخل لإعادة فتح هذه “الخريطة” للنقاش، وزج الفلسطينيين وأطراف اللجنة الرباعية في متاهات التعديل والمماطلة.
في كل الحالات لا خيار أمام أبو مازن سوى البدء في العمل بما توفر لديه من صلاحيات وإمكانيات. وإذا كان لا أفق لتحقيق إنجازات ملموسة في القضايا الوطنية الكبيرة في العامين القادمين، فبإمكانه هو وحكومته إدارة الصراع بصورة واقعية وهادئة، وتركيز الجهود على تقليص الخسائر الفلسطينية البشرية وضع حد للخسائر الاقتصادية والعمل على إنجاز عدد من القضايا الأساسية الأخرى. في مقدمتها كسب ثقة المواطن بعد كسب ثقة المجلس التشريعي، وتقليص الفجوة الواسعة التي فصلت السلطة عن الناس في مرحلة الوزارات السابقة، وتوفير الحماية السياسية للنظام الفلسطيني، وعرقلة مخطط اليمين الإسرائيلي الرامي إلى تدمير السلطة. والتدقيق في واقع الحال الفلسطيني يبين أن لا معنى ولا قيمة لاستحداث منصب رئيس وزراء، إذا لم أن لم يلمس الناس في الضفة وقطاع غزة تغيرا في حياتهم، خصوصا في أمرين حيويين: الأول، توفير لقمة العيش، والثاني توفير الأمن. وهذان الأمران ينافس أحدهما الآخر في احتلال قمة الأولويات ويحتار المواطن في هذه الأيام أيهما الأهم لبقائه على قيد الحياة وصموده في وطنه.
إلى ذلك، يدرك رئيس الحكومة الجديدة وجميع الوزراء أن الاستيطان هو أخطر الأمراض على وجود الفلسطينيين في أرضهم، ونهش حتى الآن مساحات واسعة من الجسد الفلسطيني، واستمراره يعني خلق مزيد من الحقائق على الأرض يصعب تجاوزها. وبجانب هذه المهام الثلاث الحيوية يتطلع المواطن الفلسطيني إلى “خريطة طريق” فلسطينية واضحة، تبين له بالملموس جدية الحكومة الجديدة في إصلاح الوضع الداخلي وبخاصة فرض سيادة القانون وتطبيقه على الجميع دون استثناء. وإعادة بناء القضاء وتكريس نظام ثابت للرقابة والمساءلة والمحاسبة، ووقف التجاوزات، وإقصاء من يثبت تورطهم بالفساد والتقصير واستخدام المنصب لأغراض خاصة، وأيضا كل من يتجاوز حكم القانون ويتلاعب بالمال العام.
بديهي القول أن ليس بالامكان تحقيق أي من هذه المسائل قبل عودة الأوضاع، بالحد الأدنى، إلى ما كانت عليه قبل أيلول “سبتمبر” 2000، وتعهد إسرائيل بوقف الاستيطان، وإنهاء حال ازدواجية السلطة القائمة على الأرض. فتوفير الأمن ولقمة العيش رهن بانسحاب القوات الإسرائيلية إلى مواقعها قبل هذا التاريخ وإزالة الحواجز وفك الحصار المضروب حول جميع المدن والقرى الفلسطينية التي احتلتها. ووقف المداهمات الفجائية وإعادة الاعتبار لأجهزة الأمن الفلسطينية وتمكينها من أداء مهامها. ولا جدال في أن قوى المعارضة الفلسطينية، المؤمنة “بالانتفاضة المسلحة”، قادرة ببضع عمليات انتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين وبضع قذائف هاون تطلق على المدن والمستوطنات، على إفشال جهود حكومة أبو مازن في تحقيق هذين المطلبين الشعبيين، خاصة أن شارون وأركانه في اليمين الإسرائيلي ينتظرون مثل هذه العمليات العسكرية للتهرب من العودة إلى طاولة المفاوضات واتهام أبو مازن وحكومته بالعجز في محاربة “الإرهاب”.
ولكن، بديهي القول أيضا، أن تعمد إفشال الحكومة الجديدة يدفع بالخلاف الفلسطيني الداخلي إلى نقطة اللاعودة، ويفتح الباب لصراعات فلسطينية داخلية ليست في صالح أحد. فهل ستعطي المعارضة حكومة أبو مازن فرصة؟ وهل تلتزم بالمبدأ الديمقراطي الذي يؤكد على “خوض الصراع الداخلي في إطار الحرص على الوحدة”، أم أنها سوف تخطئ مرة أخرى في تقدير الموقف وتزيد في عذاب الفلسطينيين؟
لا خلاف بين المؤيدين والمعارضين لاستحداث منصب رئيس وزراء في هيكلية السلطة الفلسطينية حول عدالة الموقف الفلسطيني وشرعية مقاومة الاحتلال، لكن الخلاف الجوهري يكمن في تقدير الممكن تحقيقه من الأهداف الوطنية في هذه المرحلة من الصراع وحول الوسائل والأساليب الأنجع لتحقيقها. وتؤكد الخبرة التاريخية للشعوب وضمنها تجربة الشعب الفلسطيني، أن هناك دائما وسائل فعّالة ومجدية في مقاومة الاحتلال، وأخرى فعالة لكنها ضارة وتتسبب في إلحاق الهزيمة بالأهداف وبالمناضلين من أجلها، وهذه الأساليب يجب تفاديها حتى لو كانت عادلة ومشروعة. وهناك نوع ثالث يحرمه القانون والمبادئ الأخلاقية وهذا أيضا يجب تفاديه كليا. والعرف الديمقراطي ومبدأ الحرص على الوحدة الوطنية يحرمان أي طرف حسم قضايا الخلاف بفرض رأيه بالأمر الواقع وتنفيذ ما يحلو له وتوريط الآخرين فيما يجب تفاديه، خصوصا إذا كان ثمن التوريط دما ودمارا وحصارا. وإذا كانت السلطة فقدت القدرة على فرض القانون وتكريس توجهاتها السياسية والأمنية الرئيسية على الأرض، فالارتقاء بالإحساس بالمسئولية هو الذي يجب أن يملأ الفراغ وليس الاندفاع نحو نشر الفوضى السياسية والاجتماعية في المجتمع الفلسطيني.
في جميع الحالات، أعتقد أن استحداث منصب رئيس وزراء في السلطة الفلسطينية خطوة صائبة في الاتجاه الصحيح، تؤسس لمرحلة جديدة في حياة النظام السياسي الفلسطيني. ودعاة التجديد والإصلاح والتغيير ملزمون بالعمل على إنجاح الحكومة واحتضان التوجه وحمايته وتطويره والبناء عليه. وفشل حكومة أبو مازن فشل للجميع بما في ذلك الذين عارضوا استحداث هذا المنصب في هيكلية السلطة.
الهوامش
1ـ راجع محمد خالد الازعر، كتاب حكومة عموم فلسطين، القاهرة دار الشروق 1998
2ـ تشكلت اللجنة الرباعية الدولية لإنجاز مهمة الإشراف على إصلاح أوضاع السلطة الفلسطينية المالية والأمنية والإدارية، كخطوة أولى على طريق استئناف المفاوضات وحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.
3ـ راجع نص مسودة خريطة الطريق ـ مجلة دراسات فلسطينية العدد.. التاريخ
4ـ راجع كراس قرارات المجلس الوطني الدورة التاسعة عشر ـ إصدار منظمة التحرير.
5) وقع المذكرة : فائق وراد، اسحق الخطيب، ممدوح نوفل، إبراهيم قيعة، إبراهيم أبو عياش، الأب قرمش.