بغداد سقطت يوم سقوط بيروت ورام الله بيد الاسرائيليين
بقلم ممدوح نوفل في 14/04/2003
عند بدء الحرب على العراق لم يعتقد أحد أن بمقدور القوات العراقية تحقيق الانتصار على القوات الأمريكية والبريطانية، وكان السؤال المتداول في جميع المستويات العربية الرسمية والشعبية كم يوما سيصمد العراقيون أمام آلة الحرب الأمريكية البريطانية المدمرة؟ وما هو حجم الخسائر التي ستلحق بالغزاة في حرب الشوارع في بغداد وبقية المدن العراقية الكبيرة؟ وتسائل آخرون، هل سيقاتل العراقيون أم أنهم سوف يستسلمون ليس حبا بالأمريكان بل كرها لصدام؟ واستذكر البعض حرب شارون على لبنان عام 1982، واجتياح مناطق السلطة الفلسطينية عام 2003، وكيف صمد الفلسطينيون والوطنيون اللبنانيون في بيروت قرابة ثلاثة أشهر، وكيف صمد مخيم جنين في مواجهة الجيش الإسرائيلي ولحقت به خسائر كبيرة على يد مجموعة صغيرة من المقاتلين.
وتفاجأ الجميع وضمنهم، كما اعتقد، أركان البنتاغون ووزارة الدفاع البريطانية يصمود المقاتلين العراقيين فترة أسبوعين في أم قصر والبصرة والناصرية والناصرية وكربلاء وسواها من المدن في جنوب العراق. وظهر خلاف حقيقي في صفوف أركان إدارة بوش، وسربت أوساط البنتاغون أن خطة الحرب فرضها سياسيون على العسكريين وأشير إلى وزير الدفاع دونالد رامسفلد بالاسم. وتوقع الخبراء أن تكون الحرب أطول مما قدر لها مخططوها، خاصة ان الخطة العراقية بنيت على أساس القتال في المدن. وتعزز أمل الشعوب العربية بأن تلحق بالقوات الأمريكية والبريطانية في بغداد وتكريت وكركوك والموصل خسائر بشرية كبيرة. ونجح وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف في زرع الأوهام في ذهن فئات من الشعوب العربية حول قدرة العراق على تحقيق النصر وذبح “العلوج” الأمريكان والبريطانيين…
إلى ذلك، صدم الجميع من انهيار قوات الحرس الجمهوري في بغداد وأصيبوا بالذهول، واستبدل الفلسطينيون أسم محمد سعيد إلى “أحمد سعيد الصحاف” نسبة إلى المعلق المصري الشهير الذي خاض حرب حزيران 1967 في إذاعة صوت العرب وأشبع سمك البحر المتوسط لحم القتلى الإسرائيليين..ونسى الجميع من المحيط إلى الخليج أنهم يعرفون سلفا أن العراقيين يقاتلون في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد، وأن بغداد ستسقط طال زمن صمود العراقيين أم قصر، وأن ليس بمقدور القوات العراقية منع الولايات المتحدة أقوى قوة في العالم ومعها بريطانيا من اجتياح العراق، خاصة أنها تحدّت العالم وذهبت للحرب وصممت المضي فيها حتى نهايتها وكسبها بأي الثمن، واستخدام أحدث ما ابتكره الإنسان من وسائل القتل وضمنها أسلحة التدمير الشامل لتجنب الخسارة.
لا شك في أن انهيار بغداد بسرعة لغزا يحير الجميع ويثير أسئلة كثيرة متنوعة منها. هل باع صدام بغداد للغزاة مقابل سلامته وسلامة أفراد عائلته وحاشيته؟ أم أنه قتل هو وأركانه في إحدى غارات الطيران وطمروا تحت أنقاض المكان الذي تواجدوا فيه، وبعد مقتله عقد قادة فرق وأفواج الحرس الجمهوري صفقة مع الغزاة الأمريكان وفتحوا لهم أبواب بغداد وسرحوا جنودهم وضباطهم لتسهيل العبور؟ وإذا كان صدام أو أركانه عقدوا صفقة أو قتلوا، فلماذا توزع القيادة العسكرية الأمريكية من مقرها في دولة قطر صور خمسين من أعضاء القيادة العراقية على قواتها المتواجدة في العراق لإلقاء القبض عليهم وتعرضها على الصحفيين؟
في كل حال مصير صدام وأركانه لن يبقى مجهولا فترة طويلة. وأظن أن اعتقاله وتقديمه لمحكمة جرائم الحرب الدولية كما الرئيس اليوغوسلافي ميلوسوفيتش يحرج معظم الزعماء العرب ويقلقهم. وإذا كانت الأيام والأسابيع القادمة سوف تحمل لنا الخبر اليقين وتحل اللغز المحير للجميع، فإن حل اللغز لن يغير في الوضع الجديد الذي دخله العراق ومنطقة الشرق الأوسط، ولا يغير في الحقائق الكبيرة والمؤلمة التي كشفت عنها الحرب، منها:
أولا/ مفاتيح بغداد سلمت للغزاة مباشرة أو عبر جهة ثالثة والشواهد على ذلك كثيرة: اختفت فرق كاملة من الحرس الجمهوري بعد سقوط المطار ولم يشاهد في شوارع بغداد دبابات عراقية أو مجموعات تحمل أسلحة مقاومة للدروع. وبقيت عدة دبابات أمريكية على أحد جسور بغداد مكشوفة ساعات طويلة ولم يطلق نحوها قذيفة أر بي جي واحدة ولم يسقط حولها صاروخ أو قنبلة مدفع. ودخلت قوات المارينز بغداد وهي في حال استرخاء ولم يظهر على أفرادها علامات التوتر والاستنفار وجلسوا على الأرض أمام فندق فلسطين وتفرجوا على مسرحية إزاحة تمثال صدام، وظلوا غير قلقين رغم أن المخرج تعمد إطالة فترة العرض…وغاب الحديث في الإعلام الأمريكي عن الديكتاتور صدام كهدف مركزي ويتحاشى الامريكيون ذكر اسمه في وسائل الإعلام وبهتت قصة معرفة مصيره وإلقاء القبض عليه. روى أحد الانتحاريين العرب الذين عادوا بعد سقوط بغداد قصته وقال: “قبل دخول القوات الأمريكية بغداد طلب منا الضابط العراقي المسئول تسليم سلاحنا وقال لنا الحرب انتهت.
ثم إن استسلام فرقا عسكرية بكاملها في الموصل وكركوك وتكريت بعد سقوط بغداد أمرا يمكن استيعابه في الحالة العراقية، حيث يسود حكم الفرد وتماسك النظام رهن بوجود الدكتاتور. وإذا كانت القوات العراقية قاتلت في الجنوب دفاعا عن الوطن ولم تقاتل دفاعا عن صدام وقصوره ونظامه الاستبدادي، فقادة الفرق في الشمال لم يتوقفوا طويلا عند رأي نائب الرئيس “عزت الدوري” الذي عينه قائدا للجبهة الشمالية، بعد تيقنهم من غياب صدام عن المسرح. خاصة أنهم يعرفون أنه ومعه النائب الثاني وجميع أعضاء مجلس قيادة الثورة والوزراء لا وزن ولا قيمة لهم في غياب صدام، وحمل الدوري وآخرون رتبة جنرال وهم لا يفقهون شيئا في العلوم العسكرية.
ثانيا/ لم يساند أبناء الشعب العراقي عرب وكرد وأتراك، سنة وشيعة ومسيحيين، من قهرهم وسجنهم وعذبهم وقتل آلاف كثيرة منهم وأرغم الملايين على الهروب من الوطن بحثا عن الحرية والسلامة الشخصية. وظلوا على الحياد في هذه الحرب بعد أن فقدوا حافز القتال بعد حربين كبيرين زجهم فيهما صدام، الحرب ضد إيران واجتياح الكويت. وبعد تيقنهم سقوط نظام صدام خرجوا عن حيادهم وحطموا ما يرمز للديكتاتورية وعهد الظلام. وإذا كان بعض الوطنيين العراقيين تجاوزوا العادات والتقاليد العراقية، فإن نهب ممتلكات الشعب العراقي ومؤسساته العلمية وتحطيم كنوزه التاريخية جريمة تتحملها دول الاحتلال، حتى إذا نهبت ودمرت على أيدي لصوص محترفين وجهلة عراقيين. فجريمة خلع أبواب المحلات وخزائن البنوك ونهب الآثار تمت أمام سمع وبصر جنود وضباط هذه الدول. ولا يتجنى العراقيون على أحد عندما يتهمون قوات الاحتلال بتنظيم عملية النهب والحرق والتدمير، فتجربة الفلسطينيين تؤكد أن جنود وضباط جيش الاحتلال الإسرائيلي مارسوا السرقة وأوعزوا لعملائهم بنهب المؤسسات وبعض المحال التجارية لتغطية جريمتهم، وإشغال الناس عن الاحتلال وتحويل قواته الغازية إلى قوة إنقاذ يطلب الناس تدخلها لحمايتهم.
ثالثا/ لم يعثر الأمريكيون والبريطانيون حتى الآن على أي نوع من أسلحة التدمير الشامل. وتنازلوا عن تفتيش الأحياء في المدن العراقية منزلا بعد منزل وعن فرض الاستسلام على جميع المسلحين والمتطوعين الانتحاريين وأعضاء حزب البعث وكوادره وجيش القدس الذي يعد بالملايين..وبقوا في بيوتهم وأحيائهم ومدنهم وقراهم واحتفظوا بأسلحتهم الفردية طالما لم يطلب أحد منهم تسليمها. ويتجولون بها في الشوارع ولم نسمع عن مطاردات ومداهمات لتجريدهم من السلاح وتجميعهم في معسكرات الاعتقال. وشاهد الجميع المستشار العسكري للرئيس العراقي عامر السعدي وهو يسلم نفسه للقوات الأمريكية، وقال “كنت طيلة الوقت في منزلي”، ولم يطرق باب داره أحد علما انه ضمن قائمة المطلوبين الذين وزعت صورهم على الصحفيين؟!
إلى ذلك كله، ليس سهلا تقدير نتائج الحرب على العراق وبقية دول المنطقة، خاصة وان التصدعات التي أحدثها هذا الزلزال لم تستقر حتى الآن. والتدقيق في أهداف الحرب يؤكد أن ليل بغداد تحت الاحتلال الأمريكي طويل، ولن يكتفي أركان الإدارة الأمريكية بأقل من قيام نظام موال لهم في بغداد، وإقامة أكثر من قاعدة عسكرية دائمة في أرض العراق. وأخطر نتائج الحرب أن تكون خطة “الصدمة والرعب” الأمريكية نجحت ليس فقط في احتلال العراق والسيطرة على نفطه وموارده الأخرى، بل وأيضا بثت الذعر في صفوف قادة النظام الرسمي العربي، وشلت قدرتهم على التفكير في سبل مآزرة الشعب العراقي في محنته ومساعدته في الخلاص من براثن الاحتلال، ومنع انزلاق العراق في صراعات وخلافات سياسية وعرقية ومذهبية تهدد وحدة العراق ودول عربية أخرى. ومن حق سوريا أن تقلق بعد أن أصبحت بين فكي كماشة ضلعها الأول أمريكي والثاني لإسرائيلي، والشيء ذاته ينطبق على إيران حيث باتت بين فكي كماشة أمريكية ضلعها الأول في أفغانستان والثاني في العراق.
ولعل يفيد تذكير الجميع أن بغداد سقطت قبل يوم 9 نيسان “ابريل” 2003 بزمن طويل. سقطت يوم وقف الجميع قبل أكثر من عشرين عاما في عام 1982 يتفرجون على حصار واقتحام القوات الإسرائيلية أول عاصمة عربية “بيروت”. وأيضا عندما ظهر عجزهم عن منع القوات الإسرائيلية من إعادة احتلال مدن الضفة الغربية في عام 2002، ولم يحرروا رئيس دولة فلسطين من الإقامة الجبرية المفروضة عليه حتى الآن. وأخشى أن تنضم دمشق وطرابلس الغرب يوما ما لقائمة العواصم العربية التي اجتاحها الغزاة.