ثمن التغيير في العراق باهظ وتداعياته خطيرة على الجميع
بقلم ممدوح نوفل في 02/04/2003
رغم أن التحضير للحرب على العراق استغرق شهورا طويلة، وجمعت أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية كما هائلا من المعلومات حول قدرات الجيش العراقي والمزاج الشعبي، إلا أن هذه الأجهزة والجهات التي خططت للحرب فوجئت، مثلها مثل المحللين والمراقبين المحايدين، بصمود القوات العراقية وباستعدادها العالي للقتال في ظروف عسكرية بالغة الصعوبة والتعقيد. ويبدو أن المفاجأة شملت القيادة العراقية أيضا، وقول وزير الداخلية العراقية في مؤتمر صحفي في بداية الحرب: “سقوط مدينة البصرة والفاو وأم قصر لا يحسم المعركة، وسنهزمهم في بغداد..إلخ” يؤكد ذلك. وإذا كان ضعف قدرات العراق العسكرية بالقياس لآلة الحرب الأمريكية البريطانية أوقعت المحللين أسرى مقولة “الحرب قصيرة”، فإن مخططي الحرب واجهوا ما لم يكن في الحسبان بسبب الغرور بالقوة العسكرية، والمبالغة في القدرة على التأثير في موقف الدول المجاورة للعراق وبخاصة تركيا، واعتماد معلومات المعارضة العراقية المبالغ فيها، وتقبل التحليلات التي بسطت الحرب واستصغرت شأن الجيش العراقي.
قبل الحرب اعتقد أركان العمليات في البنتاغون ووزارة الدفاع البريطانية أن هول الهجوم الجوي والصاروخي والتقدم السريع للقوات البرية المشتركة يكفي لأن يصاب رأس النظام في العراق “بالصدمة والذهول”، ويفقد سيطرته على الوضع. وتصورا أن وحدات عراقية كثيرة سوف تستسلم بسرعة، وقد ينضم بعضها للحملة على بغداد للإطاحة بنظام صدام. وظنوا أن الشعب العراقي المقهور، وبخاصة الشيعة في الجنوب الذين عانوا الأمرين سنوات طويلة، سوف يهبون للثورة ضد النظام الديكتاتوي كما فعلوا في العام 1991. وتحمس نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ووزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد وعبرا علنا عن اعتقادهما بأن القوات الأمريكية ستحظى بترحيب العراقيين كقوة محررة.
بعد أسبوع من بدء المعارك، تأكد الجميع، وبخاصة مهندسو الحرب، من خطأ تقديراتهم، ولمسوا أن العراقيين استوعبوا الصدمة ولم يصابوا بالذهول. ولم تفقد القيادات العسكرية السيطرة في الميدان. ولم يخرج أحد لاستقبال “المحررين” بالزهور، ولم يستسلم الضباط بعد انقطاع اتصالهم بالقيادة، ولم تتمرد قطعات الجيش في الجنوب أو الشمال أو الغرب على قيادتها وحافظت على تماسكها. وكسر المقاتلون هاجس الرهبة، وأسروا وقتلوا عددا من الجنود الأمريكيين والبريطانيين وأسقطوا أكثر من طائرة ودمروا عددا من الدبابات والعربات المصفحة. واعترف أركان الحرب أن قواتهم واجهت مقاومة عنيدة، وبدأ بوش وبلير يتحدثان عن حرب طويلة وصعبة، واعترفا في مؤتمراتهم الصحفية أنهما لا يعرفان إلى متى ستستمر.
وبعد قصف بغداد والمدن العراقية بكل أنواع الأسلحة عدا أسلحة الدمار الشامل، وسقوط آلاف القتلى والجرحى من المدنيين تأكد المحللون والمراقبون المحايدون أن الحرب ليست نظيفة بل دموية قذرة، سيسقط فيها عشرات آلاف الضحايا الأبرياء. وتلحق بالقوات الأمريكية والبريطانية خسائر بشرية وعسكرية لن تكون قليلة، إضافة للخسائر السياسية والمعنوية الكبيرة التي لحقت بالبلدين حتى الآن.
وبصرف النظر عن أقوال بوش بلير وأركانهما بأن العمليات الحربية في العراق تجري وفق الخطة المرسومة وتحقق تقدما على الأرض، فنتائج العمليات تؤكد أن الهجوم يواجه صعوبات كبيرة ناجمة عن نواقص وثغرات أساسية في الخطة، واضطر أركان الحرب لإدخال تعديلات جوهرية عليها.
بدأت الحرب البرية دون تمهيد ناري ينهك القوات العراقية ويستنزفها، وحصلت المواجهات في الجنوب والقوات العراقية متماسكة تحتفظ بكامل طاقاتها القتالية، واستوعبت زخم الهجوم في أم قصر وشبه جزيرة الفاو والبصرة والناصرية والنجف، وعطلت تقدم القوات باتجاه بغداد وألحقت بها خسائر مهمة. صحيح أن القوات الأمريكية والبريطانية قامت بإبرار جوي ناجح غرب العراق وعطلت قدرة القوات العراقية على توجيه ضربات صاروخية لإسرائيل، إلا أن هذا النجاح لا يمكن البناء عليه، خاصة وأن الخطة الأمريكية البريطانية لا تتضمن شن هجوم يستند إلى الأراضي الأردنية، والخطة العراقية تتعمد تشتيت القوات المهاجمة، ولا تتضمن توجيه ضربات صاروخية لإسرائيل كما حصل في حرب 1991.
بنى مخططو الحرب خطتهم الأصلية على أساس تطويق بغداد خلال أيام معدودة، وبعد 72 ساعة من القتال اكتشفوا أن الجيش العراقي انسحب من الصحاري، إلى المدن والبلدات الممتدة على طول الطريق الطويلة بين البصرة وبغداد، وحولها مع “المليشيا الشعبية” إلى عقد دفاعية قوية، تزداد قوتها كلما صعدوا نحو الشمال باتجاه بغداد. واضطرت القوات الأمريكية والبريطانية إلى إخلاء السكان من منازلهم في عدد من الأماكن التي احتلوها، وفتشوها بيتا بيتا بعد أن أطلقت منها النيران. وعالج أركان الحرب الموقف الجديد بتعديل خطتهم القديمة. واعتمدوا تكتيك التحرك ببطء وحذر شديدين في الطريق إلى بغداد، واضطروا إلى تجميد أقسام من قواتهم في محيط المدن، بعد أن تبين أن اقتحام هذه العقد (المدن) مكلف ويستغرق وقتا طويلا، وتجاوزها قبل تطهيرها يعرض القوات لأخطار استراتيجية منها العزل والتطويق وقطع خطوط الإمداد. وقرروا الضغط على السكان واستنزاف القوات العراقية واستدراجها للخروج من معاقلها في المدن.
لا شك في أن التوجهات العسكرية الأمريكية الأخيرة ترهق المدنيين والعسكريين العراقيين داخل المدن وتستنزف طاقاتهم، وترفع نسبة الخسائر البشرية والمادية، لكنها أيضا تجمد أجزاء مهمة من القوات المهاجمة وتعرضها للإرهاق والاستنزاف، خاصة إذا طالت الحرب وطال وقوف القوات في الصحراء في محيط المدن. ومجريات الحرب بينت أن القوات العراقية لم تبق ساكنة في مواقعها الدفاعية بل خرجت من المدن وشنت غارات عصابية فعالة ضد القوات المهاجمة. وأظن أن الحشد الأمريكي البريطاني (قرابة 300 ألف جندي) لا يكفي لتطويق جميع المدن العراقية وتأمين خطوط التموين والإمداد وشن هجوم حاسم على بغداد في وقت واحد. وقد يضطر مخططو الحرب إلى حشد مزيد من القوات قبل الهجوم على بغداد.
لقد اعتمد شارون عندما كان وزيرا للدفاع هذا التكتيك في حرب 1982، وحاصر مدينة بيروت وتوقع انهيار المقاومة الفلسطينية واللبنانية في أيام، وقصفها بأسلحة قدرتها التدميرية لا تقل عن قدرة الأسلحة المستخدمة في قصف البصرة وبغداد. وإذا كان الفلسطينيون استنزفوا القوات الإسرائيلية وصمدوا في الحصار قرابة 12 أسبوع، يمكن للمرء أن يتوقع صمود القوات العراقية نصف هذه الفترة على الأقل، علما أنها أكبر وأكثر خبرة من المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين، وفعالية أسلحتها أكبر بكثير، وأظهرت في أول أسبوعين من القتال قدرة على التحمل والصمود فاق كل تقدير.
إلى ذلك، اعتمد مخططو الحرب التقدم باتجاه بغداد من محورين: الأول من الجنوب قاعدته الأراضي الكويتية، والثاني من الشمال منطلقه الأراضي التركية. واعتقدوا أن الموقف التركي مضمون مثل موقف الكويت، والطريق بغداد سالكة على الخطين. وحشدوا على الجبهتين القوى والوسائط الحربية اللازمة، وخصصوا اكثر من 60 ألف جندي للهجوم من الشمال. ولما رفض البرلمان التركي السماح للقوات الأمريكية والبريطانية باستخدام الأراضي التركية منطلقا لهجوم بري، عدّل مخططو الحرب خطتهم، وحصروا الهجوم على بغداد من محور الجنوب فقط. وحصروا مهمة قوات المحور الشمالي في تدمير القوات العراقية شمال العراق، والسيطرة على منابع النفط في الموصل وكركوك، وإغلاق الحدود التركية الإيرانية العراقية وتدمير الجماعات الإسلامية المتمركزة هناك. وانزلوا جوا قوات محدودة وبدأوا القتال بتوجيه ضربة جوية لهذه الجماعات، بأمل تأمين ظهر القوات قبل التحرك لاحتلال منابع النفط و”تحرير” الموصل وكركوك والسليمانية.
لا جدال في أن بوش لن يتراجع ولن يوقف القتال قبل تغيير النظام في العراق مهما بلغ حجم الخسائر الأمريكية والبريطانية، وقد يأمر باستخدام أسلحة أكثر فتكا وتدميرا لتحقيق “النصر”. والنواقص والثغرات العسكرية المذكورة أعلاه لن توقف تقدم القوات الأمريكية البريطانية نحو أهدافها الرئيسية المتمثلة في “إسقاط النظام وتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل”، ولكن من المؤكد أيضا أن هذه القوات لن تربح الشعب العراقي، ولن تحقق أهدافها في الوقت الذي كان محددا لها عشية بدء الحرب، وسوف تدفع ثمنا بشريا وماديا باهظا يفوق أسوأ تقدير وضعه مخططو الحرب، خاصة إذا فكروا في اقتحام بغداد والمدن العراقية الكبرى.
إلى ذلك، ليس منصفا، بل ظالما، كل من يحمل الجيش العراقي ما يفوق طاقته ويضع على كاهله عبء إلحاق هزيمة عسكرية تاريخية بالجيشين الأمريكي والبريطاني. والسؤال الواقعي المطروح ليس هل ستربح أمريكا الحرب، بل هل ستتمكن من لملمة وضع العراق بعد تفتيته، وتحويل النصر العسكري إلى نصر سياسي؟ وهل سينجح بوش وبلير في الاستمرار في خداع شعبيهما والعالم وتسويق نصر يقوم على الجماجم والدمار؟
تؤكد التجربة التاريخية أن من السهل إشعال نار الحروب ولكن من الصعب إطفاء لهيب بعضها ومحاصرة الحرائق الناجمة عنها. والحرب على العراق واحدة من هذه الحروب. ويصعب الآن تقدير تفاعلاتها وتداعياتها النهائية على الشعب العراقي وباقي شعوب المنطقة، فما ظهر من سلبياتها حتى اليوم لم يستثن أحدا في منطقة الشرق الأوسط وضعضع بنيان الجامعة العربية، وزعزع استقرار هيئة الأمم المتحدة، وهز الاتحاد الأوروبي والعلاقات الأوروبية الأمريكية، والأمريكية الروسية. والقادم في باقي أيام الحرب وبعدها أخطر أعظم، وأعان الله شعب العراق على محنته المزدوجة.