الهدنة مصلحة فلسطينية
بقلم ممدوح نوفل في 23/06/2003
بعد عقد قمتي العقبة وشرم الشيخ، تجدد زخم الحركة السياسية لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وفق رؤية الرئيس بوش التي طرحها قبل عام وبلورتها اللجنة الرباعية الدولية في خطة “خريطة الطريق”. واستؤنفت الاجتماعات الأمنية الفلسطينية الإسرائيلية التي أوقفتها حكومة شارون منذ أكثر من عامين، وعقد الطرفان سلسلة طويلة عريضة من الاجتماعات الأمنية لم تسفر حتى الآن عن نتائج مهمة. والنجاح الوحيد الذي تحقق من الحركة لم يتجاوز دفع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى استئناف الاجتماعات الرسمية، ولفت نظر الفلسطينيين أن الجانب الإسرائيلي ليس متعجلا على الاتفاق.
إلى ذلك، شهدت الساحة الفلسطينية قبل وبعد القمتين تفاعلات ونشاطات متنوعة، وتباينت الآراء حول ما جرى فيهما وحول “الخريطة وأفاقها. وسمع رئيس الوزراء أبو مازن نقدا لاذعا لخطابه في العقبة لم يقتصر على ما قالته حماس وقوى المعارضة، وشارك كوادر فتح في مهاجمة الخطاب خاصة إغفاله المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين ووقف الاستيطان، وتعهده بمحاربة الإرهاب الفلسطيني وتجاهله الإرهاب الإسرائيلي، وحديثه عن معاناة اليهود في العقود الماضية وغياب الإشارة إلى نصف قرن وأكثر من معاناة الفلسطينيين. واستهجنوا عدم مطالبة أبو مازن علنا برفع الإقامة الجبرية المفروضة على عرفات. وأظهر عرفات عدم عرضاه عن نتائج قمة العقبة، وتسائل بسخرية “ماذا يعني إزالة كرفان من هنا وآخر من هناك”. وفي معرض نقده للقمة ودفاعه عن أبو مازن قال:”لم يسمحوا لأخي أبو مازن قراءة بقية الخطاب”. وكانت كلماته كافية لتأجيج معارضة الفتحاويون لقمة العقبة قبل معرفة ما دار فيها، واستغلتها حركة حماس وقوى المعارضة الأخرى ورفعت وتيرة هجومها ضد محمود عباس وخطابه.
وبجانب المتشائمين، والمتشائلين حسب تعبير إميل حبيبي، تفاءل بعض الفلسطينيين بنتائج القمتين، ولم يتوقفوا مطولا أمام نواقص وثغرات خطاب أبو مازن واعتبروا ذلك تكتيكا يفيد في إحداث فجوة بين الموقفين الأمريكي والإسرائيلي. واعتقدوا أن تدخل بوش شخصيا في الحركة يحرج شارون ويجبره على إنجاح الجهود الأمريكية وبالحد الأدنى عدم تحمل مسئولية إفشالها. وتوقعوا أن تعمل إدارة بوش على تعزيز مكانة أبو مازن وحكومته في الشارع الفلسطيني وتفرض على حكومة شارون التراجع عن سياستها العنصرية ضد الفلسطينيين وأن يتم إطلاق سراح عدد معقول من المعتقلين. وتنهي إسرائيل سياسة الحصار والإغلاق والقتل والتدمير وقلع الأشجار التي تمارسها منذ أكثر من 30 شهرا. وتوقع الفتحاويون أن ينجح أبو مازن في التخلص من الإحراج وينجح في رفع الإقامة الجبرية المفروضة على الرئيس عرفات، لكن شيئا من ذلك لم يحصل ولمس الفلسطينيون عكس ما توقعه المتفائلون، وزادت إسرائيل في أعمالها العدوانية الإرهابية.
وفي سياق تخريب توجهات القمة، لم يكتفي شارون بإصدار أوامره، بعد اقل من 48 ساعة من عودته من العقبة، باغتيال الرنتيسي ومارس الابتزاز وفتح النار على حكومة أبو مازن واتهمها بالتقصير في محاربة “الإرهاب” والتخاذل في مواجهته. ووصف رئيسها بصوص دجاج ضعيف لا يملك ريشا لحماية نفسه ويحتاج لمن يغطيه من الحر ويطعمه ويسقيه. وأكد عزم إسرائيل على مواصلة الحرب على الإرهاب حتى يصبح لأبو مازن ريش..ورد الفلسطينيون وشبهوا شارون بطير البوم الذي يهوي العيش في الخراب. وصعد الجيش الإسرائيلي أعماله العدوانية ضد الفلسطينيين يشرا وشجرا وممتلكات، وقتل منهم خلال اقل من أسبوعين قرابة خمسين. وردت كتائب القسام التابعة لحركة حماس وقوات الفصائل الأخرى وقتلت من الإسرائيليين قرابة نصف هذا العدد.
وأكدت هذه المواقف والأعمال للمراقبين أن قمة العقبة لم تغير شيئا في علاقة الطرفين وأججت صراعهما الدموي المتواصل منذ ثلاث سنوات بدلا من تهدئته. وزادت الشكوك في قدرتهما على حل خلافاتهما ووقف تدهور الأوضاع دون تدخل قوات طرف ثالث على الأرض تفصل بينهما كما قال أمين عام المم المتحدة كوفي عنان. وأسرعت إدارة بوش إلى تدارك الموقف وأرسلت جون وولف وفريقه للمنطقة للبدء في العمل وتنفيذ المرحلة الأولى من خريطة الطريق. وشارك في اللقاءات التي عقدها وزير الأمن الفلسطيني دحلان مع منسق شئون “المناطق” عاموس جلعاد، وساهم وولف في تقريب وجهات نظر الطرفين بشان وقف إطلاق النار.
ولم يتأخر وزير الخارجية الأمريكي كولن باول عن زيارة المنطقة. والتقى يوم 20 حزيران “يونيو” رئيسي الحكومتين الفلسطينية والإسرائيلية في أريحا والقدس، بأمل بلورة اتفاق (غزة بيت لحم أولا) حول وقف إطلاق النار، يؤسس نقطة انطلاق مشتركة لاستئناف المفاوضات السياسية حول تنفيذ المرحلة الأولى من خريطة الطريق. توقف بموجبه إسرائيل عملياتها بكافة أشكالها من اغتيالات واقتحامات واعتقالات، أي توقف الحرب على الفلسطينيين. وتتعهد السلطة بوقف الإعمال العسكرية الفلسطينية بكافة أشكالها ضد إسرائيل والإسرائيليين في كل مكان. وفي حال نجاح هذه الخطوات تنسحب القوات الإسرائيلية تدريجيا من مناطق السلطة في غزة وبيت لحم إلى مواقعها قبل أيلول 2000.
صحيح أن باول عاد من زيارته دون الإعلان عن الاتفاق المنشود، لكنه وفقا للمصادر الفلسطينية ساهم في تقريب وجهات نظر الطرفين وقربهما من الاتفاق. وفي اجتماع عقدته اللجنة الرباعية الدولية على مستوى وزراء الخارجية عند البحر الميت في الأردن على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي، عرض باول التقدم الذي أحرز على طريق الاتفاق ودعا أطراف اللجنة إلى تفعيل دورهم والمساهمة في تنفيذ خريطة الطريق. علما أن باول يعرف أن دور الرباعية في تنفيذ خريطة الطريق أصبح شبه مشلول بعد نجاح شارون في انتزاع موافقة إدارة بوش على استبعاد الأطراف الأخرى وثبت تحفظه القائل “الولايات المتحدة وليس الرباعية هي التي تشرف على التنفيذ”.
أعتقد أنه بات بالامكان الحكم على خارطة الطريق دون الاتهام بالتسرع ونشر التشاؤم. وإذا كان الرئيس بوش أكد بعظمة لسانه ان خريطة الطريق تجمدت فمن حق المراقب صاحب الرؤية التي من اجل تنفيذها الأمريكية لتنفيذ خريطة الطريق. فالحركة الأمريكية لا تزال قوية والمعارضون لوقف إطلاق النار في الجانبين كثروا وليسو ضعفاء. وإصرار شارون على متابعة سياسة الاغتيالات يؤكد تمسكه بفرض وجهة نظره على جميع الأطراف حتى لو أدى ذلك إلى تعطيل التوصل إلى اتفاق وتخريب جميع التفاهمات التي تم التوصل إليها في واشنطن مع كونداليزا رايس وفي القدس بحضور باول والمبعوث جون وولف. وإقدامه يوم 21/6/2003 على اغتيال أحد كوادر حركة حماس الأساسيين الشيخ عبد الله القواسمة يدينه بالجرم المشهود. وإدانة إدارة بوش الخجولة لعمليات الاغتيال الإسرائيلية ثم تراجعها وتحميل حماس المسؤولية يشجع شارون على الاستهتار بالموقف الأمريكي والمضي قدما في هذه السياسة.
وإذا كان لا أحد يستطيع في هذه الفترة الحساسة من المفاوضات تأكيد فشل الجهود الأمريكية، فالنجاح في دفع الطرفين للاتفاق على وقف إطلاق النار يبقى نجاحا جزئيا ورجراجا لا أحد يضمن ثباته. خاصة وأن شارون يصر على أن يكون الاتفاق مقدمة لضرب البنية التحتية لحماس وقوى المعارضة الفلسطينية “الإرهابية” وتجريدها من السلاح. ولا يتطرق إطلاقا إلى المستوطنين المدججين بالأسلحة. ويصر أيضا على الاحتفاظ بحق توجيه ضربات استباقية لما يسميه بالقنابل البشرية الموقوتة أي منفذي ومدبري العمليات الانتحارية.
واستمرار إدارة بوش في مجارة مواقف شارون ومطالبه وشروطه التعجيزية المتعلقة بالاتفاق يشجعه على إطالة أمد المفاوضات واللقاءات الأمنية مع الفلسطينيين وابتزازهم وتجزئة الالتزامات الإسرائيلية المجزأة أصلا. والموافقة الأمريكية على 12 تحفظ من أصل ال 14 التي سجلها شارون على الخريطة عقد تنفيذ المرحلة الأولى من الخريطة، ويقفل طريق تنفيذ المرحلتين الثانية والثالثة نهائيا هذا إذا نفذت الأولى كاملة. فموافقة إدارة بوش مثلا على أن (التزام الطرفين بالتنفيذ هو الأساس في الانتقال من مرحلة إلى أخرى وليس الالتزام بجداول زمنية) يعني بقاء الطرفان يراوحان في المكان على أعتاب المرحلة الأولى من الخريطة لإشعار آخر. والموافقة على (ربط الانسحاب الجيش الإسرائيلي وإعادة انتشار وحداته خارج مناطق السلطة الفلسطينية التي احتلها بعد أيلول “سبتمبر” 2000 بالظروف الأمنية)، يعني بقاؤه فيها وتحويل وجود قوات الشرطة باقي أجهزة الأمن الفلسطينية إلى مهزلة أمام الناس في المدن الفلسطينية. والقول إن (الخريطة لا تفرض قيودا على نشاط الجيش ضد الإرهاب) يعني في قاموس اليمين الاستمرار في الاغتيالات ونسف البيوت واقتحام المدن والمخيمات وجرف الأراضي وقطع أشجار البيارات التي يختبأ فيها “المخربون”.
اعتقد أن لا داعي للإسترسال في توضيح استحالة تنفيذ خريطة الطريق بمراحلها الثلاث في عهد شارون. والتمعن في بقية التحفظات الإسرائيلية يثير الشكوك ليس فقط في صدقية شارون وأركانه من التوصل إلى حل سياسي، بل وأيضا في جدية الحركة الأمريكية لتنفيذ الخريطة. وإذا كان أركان الإدارة الأمريكية لن يقبلوا أن يكون مصير مبادرة الرئيس بوش شبيه بمصير خطط ميتشيل وتنيت وزيني وبيرنز فأقصى ما تستطيع كوندليزا رايس فعله في زيارتها للمنطقة هو دفع الطرفين للاتفاق على وقف إطلاق النار ودخول مفاوضات طويلة حول تنفيذ المرحلة الأولى من الخريطة. وبصرف النظر عن نوايا شارون أظن أن الفلسطينيين سلطة ومعارضة وشعب بحاجة ماسة إلى هدنة يدققون خلالها حساباتهم، ويراجعون موقفهم وأساليب عملهم، ويتعرفون على حجم مكاسبهم وخسائرهم في فترة الانتفاضة. وعليهم أن لا ينسوا أن ميدان شارون المفضل هو العمل العسكري، وان حكومة أبو مازن باتت هدفا مباشرا له. وقديما قالوا الاعتراف بالخطأ فضيلة.