هل تنجح ادارة بوش في انقاذ خريطة الطريق
بقلم ممدوح نوفل في 15/06/2003
أثارت قمتي العقبة وشرم الشيخ عاصفة قوية من ردود الفعل في المنطقة واضح أنها لن تهدأ في وقت قصير. واندلع صراع أيدلوجي وسياسي في الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية حول خطة خارطة الطريق لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وفق “رؤية” الرئيس بوش التي طرحها في 24 حزيران “يونيو” 2002. وأكدت التطورات الدراماتيكية التي شهدتها الأراضي الفلسطينية فور انتهاء القمتين أن ما حدث فيهما كان دون المستوى المطلوب لمنع تدهور الوضع الأمني على الأرض بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وكرس انفجار الوضع بعد العقبة انطباعا بأنها تسببت في تأجيج الصراع بدلا من تهدئته. وباتت التوجهات الأمريكية الجديدة التي بلورها بوش شخصيا في مهب الريح، ولا أحد يضمن أن يكون مصيرها أفضل من مصير الخطط والتوجهات القديمة التي بلورها في العامين الماضيين رسله ومبعوثيه باول وميتشيل وزيني وبيرنز.
ورغم وضوح الصورة في قمة العقبة وقبلها، اظهر أركان الإدارة الأمريكية شعورا بالمفاجأة جراء تدهور الوضع في قطاع غزة، وبخاصة نقض شارون التزامه وقيام أجهزته الأمنية يوم10/6/2003 بمحاولة اغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي الشخصية البارزة في قيادة حركة حماس. وكانت التقديرات الأمريكية والأردنية وتقديرات رئيس الوراء الفلسطيني محمود عباس والوفد المرافق له والمراقبين تتجه نحو اعتبار تفاهمات الغرف المغلقة في العقبة كافية لتأسيس أرضية تصلح للبناء عليها في عملية تنفيذ، بالحد الأدنى، المرحلة الأولى من خطة خارطة الطريق. لكن محاولة الاغتيال ورد حماس بتفجير باص في مدينة القدس بعد 36 ساعة وما تلاهما من أعمال حربية بينت خطا هذا التقدير. وأكدت أن الموافقة النظرية على التوجهات الأمريكية لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي كما وردت في خطة الطريق لا يعني بالضرورة الالتزام بتنفيذها. وتحفظات شارون ال 14 على الخارطة قابلة للتحول بسرعة إلى غارات جوية واغتيالات ومداهمات. وتلقت الجهود الأمريكية صفعة على يد المتطرفين في الجانبين قبل أن يرتاح بوش من عناء رحلته الطويلة. وتبين للجميع أن المعارضين والمعترضين سرا وعلنا على الخارطة ليسوا ضعفاء ولديهم القدرة على “خربطة” الحركة حسب خطة يرسمها الرئيس سيد البيت الأبيض بنفسه.
والتدقيق في رد الفعل الأمريكي و”انزعاج” الرئيس بوش علنا على محاولة اغتيال الرنتيسي يبين أنه غير مسبوق في عهد هذه الإدارة. ويحمل في ثناياه اتهام مبطن لشارون بالإقدام على محاولة الاغتيال عن سابق قصد وإصرار لتخريب نتائج قمة العقبة التي لم تعجبه ولم تعجب وزير دفاعه موفاز. صحيح أن حماس وقوى المعارضة الفلسطينية عارضت خطة خارطة الطريق بصورة أوضح من شارون ورفض قادتها الالتزام، دون مقابل، بفترة التهدئة التي اقترحها رئيس الحكومة الفلسطينية محمود عباس. لكن أركان إدارة بوش وجميع المعنيين بتسوية النزاع الفلسطيني يعرفون أن قيادة حماس لم تغلق باب الحوار مع أبو مازن وحكومته. وتواصل الحوار بين الطرفين دون انقطاع ويقتربان بمساعدة الأشقاء المصريين من الاتفاق على هدنة طويلة في إطار اتفاق يمكن تسميته غزة بيت لحم أولا, توقف بموجبه حركة حماس العمليات العسكرية ضد إسرائيل وتوقف الاغتيالات وتسحب جيشها من مدن وقرى ومخيمات القطاع إلى مواقعه السابقة قبل انفجار الانتفاضة في أيلول “سبتمبر” عام 2000. وتأخذ حكومة أبو مازن فرصة انتزاع، بمساعدة أمريكية، ما يمكن انتزاعه من حكومة شارون من الحقوق الفلسطينية الكبيرة والصغيرة الكثيرة المغتصبة.
وبغض النظر عن الدوافع والأسباب التي قدمها شارون للإدارة الأمريكية والرأي العام الإسرائيلي والعالمي بشان محاولة اغتيال الرنتيسي فنوع العملية وتوقيتها يبينان لمن يبحث عن الحقيقة أنها تمت في إطار سياسة هجومية قررها شارون بعد العقبة بأمل تحقيق عدة أهداف داخلية وخارجية في غارة طيران واحدة. أولها، تفجير الوضع وتخريب نتائج قمة العقبة وقطع الطريق على خارطة الطريق التي تحفظ عليها، والتخلص من أحد رموز حركة حماس المتشددين واستفزاز قيادة الحركة وجهازها العسكري واستدراجهم للميدان الذي يريد ودفعهم لتصعيد عملياتهم ضد المدنيين الإسرائيليين في الوقت الذي يريده، واستثمار التصعيد في تخريب أو تأجيل تنفيذ خارطة الطريق. ويبدو أن شارون استنتج من مباحثات العقبة أن الجانب الأمريكي نصب شركا لإسرائيل اسمه خطة خارطة الطريق. خاصة أن الرئيس بوش طالب الطرفين بتنفيذ التزاماتهما بصيغة أقرب إلى التنفيذ بالتوازي منه إلى التوالي، ولم يلتفت للتحفظات ال 14 التي سجلها شارون وضمنها التأكد أولا من نجاح أبو مازن ودحلان في محاربة الإرهاب قبل شروع إسرائيل في تنفيذ التزاماتها الواردة في الخطة.
وثاني أهداف شارون من محاولة اغتيال الرنتيسي وتفجير الوضع هو إحباط التفاهم الأمريكي الفلسطيني الأولي الذي نشأ في العقبة ومنعه من التواصل والتطور. خاصة أن شارون ومساعديه شاهدوا ولمسوا آثار نجاح أبو مازن في عرض وجهة نظره “بالعربية” وكسب ثقة الرئيس بوش والوفد المرافق له. ومسح في لقاء دام ساعتين معظم التشويهات التي لحقت بالموقف الفلسطيني على مدى عامين، على حد تعبير أعضاء في الوفد الأمريكي. وأقنع أبو مازن الرئيس بوش بوجهة النظر الفلسطينية المتعلقة بتهدئة الوضع وعمل هدنة مع حركة حماس وقوى المعارضة بدلا من الدخول في صدام دموي معهم وتفجير حرب أهلية يصعب التكهن بنتائجها كما يتمنى شارون. وخلق الوفد الفلسطيني في العقبة تباينا في الموقفين الإسرائيلي والأمريكي حول مسائل عدة منها مسألة الحرب على الإرهاب والإجراءات الإسرائيلية غير الإنسانية وسياسة الاستيطان وبناء الجدار الفاصل وتحرير أموال السلطة، وتعزيز دور أبو مازن وحكومته..ألخ
وتمثل هدف شارون الثالث من محاولة الاغتيال في إشباع قناعته الشخصية المعادية للحقوق الفلسطينية، وإرضاء قواعد وكوادر وجمهور حزب ليكود الذي ينتمي له والذين اتهموه بخيانة مبادئ الحزب وعارضوا خطة خريطة الطريق التي “وافق” عليها، وطمأنة المستوطنين الذين قرروا الشروع في نضال ضده وضد حكومته، وأيضا صيانة وحدة حكومته وإرضاء شركائه من اليمين المتطرف الذين رفضوا فكرة تقسيم “أرض الميعاد التي منحها الله لبني إسرائيل” واتهموه بالضعف والاستسلام في مواجهة الضغوط الأمريكية، وبالتخاذل والتفريط أمام الإرهاب الفلسطيني وهددوا بالخروج من الائتلاف الحكومي.
لا جدال في أن قراءة مقدمات ومجريات ونتائج قمة العقبة تستحق أن يختلف الفلسطينيون حولها، خاصة أنهم لم يلمسوا قبلها وخلالها شيئا ايجابيا، ولمسوا بعدها تشديدا في الحصار الإسرائيلي وزيادة في القصف البري والجوي وتطورا في الاغتيالات والاجتياحات والتدمير. ومن حق المعارضة أيضا أن تشتم صباح مساء خارطة الطريق، وترى النصف الفارغ من الكأس فقط، وتقول أن قمة العقبة لم تحل المشاكل العالقة بين الطرفين بل زادتها تعقيدا، وتعتبر إزالة كرفان هنا وأخر هناك لا يعني شيئا كما قال عرفات..الخ كلمات الرفض والتحفظ.
ولكن ليس من حق أحد أن ينكر أن ثمة مكاسب حققها الفلسطينيون من الموافقة على خريطة الطريق “السيئة” ومن المشاركة في قمتي العقبة وشرم الشيخ. من هذه المكاسب: تجديد الدعم العربي للحقوق الوطنية الفلسطينية وبخاصة حقه في دولة مستقلة، وتجدد زخم التحرك الدولي لحل القضية الفلسطينية واعتبار حلها مفتاح إعادة الاستقرار للمنطقة، وتبني الولايات المتحدة الأمريكية موقفا جديدا شبه متوازنة وتحول شعار قيام الدولة الفلسطينية قبل عام 2005 إلى نقطة محورية في سياستها في الشرق الأوسط، وتفهم الرئيس بوش تمسك الفلسطينيين بحل خلافاتهم الداخلية بالحوار بدلا من تفجير حرب أهلية داخلية.
إلى ذلك، لا يجوز أيضا التقليل من قيمة اضطرار شارون على الموافقة على خارطة الطريق حتى لو كانت موافقته ملتوية ومشروطة ولم يتم تنفيذ الخارطة قبل عام 2005، فالموافقة سببت له مشاكل داخلية وخارجية. وتتضمن اعتراف أسوأ وأكثر حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل بالفشل في كسر الإرادة الفلسطينية وحل النزاع بالقوة وفق رؤيتها. وأظن أن الاستخفاف بما سمعه الوفد الفلسطيني من بوش مباشرة يقلص إمكانية التقاط الفرص واستثمارها، وبخاصة تصميمه، كما قال، على تنفيذ رؤيته وتخليص الفلسطينيين من الظلم والعيش في دولة كما خلّص الشعبين الأفغاني والعراقي.. وقوله أيضا “ذهبت إلى العراق رغم معارضة الجميع وسوف ألزم شارون بتنفيذ التزاماته رغم شك كثيرون بقدرتي على إلزامه وضمنهم والدي”. وإذا كانت هذه المكاسب تبدو للبعض قليلة وصغيرة فهي تنطوي على أهمية في مسيرة الصراع الطويلة وبخاصة في مرحلة تداعيات الحرب على العراق. ويمكن استثمار كلام بوش في الحد من اعتداءات شارون وتقليص الخسائر الفلسطينية إذا كان البعض يعتبره كلاما “فارغا”غير ملزم ولا يوفر أرضية لتطور العلاقة الفلسطينية الأمريكية.
لا شك في أن قيادة الرئيس بوش شخصيا للحركة الأمريكية الجديدة لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وعقدة مؤتمرين متتاليين في شرم الشيخ والعقبة يعطي الحركة بعدا خاصا. ولكن يخطأ من يعتقد أن هذا البعد كاف لتنفيذ خارطة الطريق بمراحلها الثلاث، ويصعب رؤية الطرفين في عهد شارون يتقدمان بسرعة ويجتازان المرحلة الأولى من الخارطة قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية أواخر العام القادم 2004. وأشك في قدرة المبعوث الأمريكي جون وولف وفريقه على إنجاز هذه المهمة وإرغام شارون على سحب جيشه إلى مواقعه القديمة قبل انفجار الانتفاضة في أيلول “سبتمبر” 2000. ولعل يفيد القول أيضا أن الاستمرار في مجاراة شارون والسكوت على جرائمه كفيل بتحويل الرئيس بوش الناجح في العراق..إلى رئيس فاشل في القضية الأهم قضية السلام في الفلسطيني العربي ـ الإسرائيلي. وفي جميع الحالات الاتفاق على هدنة توقف الخسائر الفلسطينية خير من استمرار النزيف. وخير للمعارضة الفلسطينية أن لا تتسرع وتترك لشارون شرف إفشال خارطة الطريق..