إفشال مهمة قريع عبث بالمصير الفلسطيني

بقلم ممدوح نوفل في 11/10/2003

كعادته في القضايا الحساسة والأوقات الحرجة، فاجأ أبو عمار جميع القوى، من دون استثناء، ووافق بعد خلوة قصيرة مع قريع على إعلان حال الطوارئ في البلاد وتشكيل “حكومة طوارئ”. وأصدر عرفات مرسوماً رئاسياً يوم 5/10/2003 تضمن أسماء ثمانية وزراء، علماً أنه رفض الفكرة عندما طرحها قريع بعد استقالة أبو مازن، ووافق في اجتماعات اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ومركزية “فتح” وفي مشاوراته مع القوى والشخصيات الوطنية، على تشكيل حكومة عادية موسعة تضم 24 وزيراً. وقبل صدور مرسوم الطوارئ بساعات قليلة تم تحديد القوى وأسماء معظم الوزراء، ووضعت الخطوط العريضة لبرنامجها، وحدد أولويات عملها في الميادين الداخلية والخارجية.

ومنذ تشكيلها، تواجه حكومة أحمد قريع موجة قوية من المعارضة داخل المجلس التشريعي الفلسطيني وخارجه. واستغرب الشارع الفلسطيني إعلان حال الطوارئ وتكريسها سابقة سلبية في الحياة السياسية الفلسطينية. ولا أحد اقتنع بالمبررات التي قدمها قريع، وليس في النظام السياسي الفلسطيني طرف أيد حكومته ويدافع عنها بقناعة.

وأصدرت القوى الوطنية والإسلامية بيانات عنيفة تهاجمها، وعلى رغم أنها “فتحاوية” مئة في المئة ولا تضم ممثلين عن قوى سياسية أخرى، إلا أن بياناً “فتحاوياً” وصفها بـ”حكومة التقاسم الوظيفي مع الاحتلال”” وتحفظ شارون وأركانه عن تشكيلها باعتبارها حكومة عرفات، ووصفها ناطق باسمه بأنها “حركة بهلوانية عمرها قصير”. وأبدى الجانب الأميركي تحفظاً إزاءها، وقال ناطق باسم البيت الأبيض: “نريد أن نرى أفعالها ضد الإرهاب”.

فهل تنجح حكومة قريع في تحقيق ما عجزت حكومة أبو مازن عن تحقيقه؟ وهل تعمر حكومة حالة “الطوارئ”؟

أسئلة كثيرة يتداولها الناس في الضفة والقطاع، ويمكن القول قبل اجراء أي استطلاع للرأي أن أغلبية كبيرة في صفوف الفلسطينيين تشك في قدرة حكومة أبو علاء على تحقيق برنامجها، أو أن بإمكانها وقف برنامج حكومة شارون الجاري تنفيذه على الأرض بسرعة مذهلة. وبديهي القول إن حكومة مقلصة وقاعدتها الشعبية ضامرة وعمرها محدد سلفاً، شهر أو شهران، لن تحقق للفلسطينيين في عهد شارون وفي سنة انتخابات الرئاسة الأميركية ما لم تحققه حكومة أبو مازن في أربعة شهور، سواء حملت خطأ” اسم حكومة طوارئ، أو جردت من هذه الصفة.

والتراجع عن تسميتها حكومة طوارئ بعد اجتماع مركزية “فتح” وقبل لحظات من أداء الوزراء القسم أمام عرفات، يشير إلى تخبط وارتباك القيادة الفلسطينية في توجيه السفينة الوطنية وسط البحر الهائج الذي تقف فيه منذ ثلاث سنوات. ويؤكد أيضاً أن مبررات عدم تشكيل حكومة طوارئ في الفترة السابقة لا تزال قائمة، وإذا كان مثل هذه الحكومة لم يتشكل عندما مزقت إسرائيل اتفاقاتها مع الفلسطينيين واقتحمت دباباتها المدن والمخيمات وحاصرت مقر عرفات وقطعته عنه الماء والكهرباء وشلت عمل السلطة” الخ، فليس مبرراً تشكيلها الآن.

لا أحد يختلف مع رئيس الحكومة على أن الساحة الفلسطينية تمر بظروف استثنائية وحالة طوارئ وان “هناك حال فوضى يتعين مجابهتها” كما قال. وهذا يتطلب حسم ازدواجية السلطة وفرض النظام ووقف العبث بالقضية وبحياة الناس، لكن كل القوى الوطنية لا ترى في ذلك مبرراً مقنعاً لتشكيل حكومة طوارئ. والكل يعرف أن الظروف الاستثنائية وانتشار فوضى السلاح والعبث بالمصير الوطني ليست حالات طارئة ولم تنشأ بعد استقالة حكومة أبو مازن أو بسبب العملية الانتحارية الضارة جداً التي نفذتها “حركة الجهاد الإسلامي” يوم 4/10/2003 في معطم “مكسيم” في حيفا وقتل فيها 19 مدنياً بينهم 4 عرب وعدد من الأطفال والنساء الأبرياء. بل هي ظواهر سائدة منذ انفجار الانتفاضة “المعسكرة” أواخر شهر ايلول (سبتمبر) 2000، وبعد توقف المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية في طابا أواخر كانون الثاني (يناير) 2001، وسقوط باراك وفوز اليمين الاسرائيلي بزعامة شارون بالسلطة في انتخابات شباط (فبراير) 2001.

وعلى رغم التباين حول الحكومة الجديدة وما يمكن ان تحققه، اعتقد ان لا جدوى من اغراق الشارع الفلسطيني في جدل حولها وحول اعلان حالة الطوارئ ولماذا تشكيلها الآن وليس قبل شهرين أو عامين، خصوصاً ان عمرها قصير ولا تقوى على القيام بمهام استثنائية. ولن تدفع بأرتال الدبابات لشوارع المدن والمخيمات الفلسطينية لتطبيق الأحكام العرفية ولن تفرض منع التجول ولن ترهق نفسها بحملة اعتقالات واسعة… الخ من الاجراءات التي تتخذ عادة في الدول الطبيعية عند اعلان حالة الطوارئ، فهذه مهام يقوم بها يومياً جيش الاحتلال، وبالكاد تستطيع حكومة أبو علاء توفير الأمن للوزراء وحرية الحركة لرئيسها من قريته المقدسية أبو ديس الى رام الله…

من حق أبو علاء ان يطمح الى ان يحقق في شهر واحد الشيء ما لم يحققه أبو مازن في شهور، لكنه يلحق اجحافاً كبيراً بنفسه وبوزراء حكومته اذا تعهد بانتزاع المكاسب الفلسطينية الواردة في خريطة الطريق. فالخريطة المشروع السياسي الوحيد المطروح في “السوق” التحقت عملياً، حسب قناعة معظم أصحابها وجميع أطراف النظام الفلسطيني، بخطط وأفكار باول وتينيت وزيني وبيرنز منذ وافقت ادارة بوش على 12 تحفظاً عليها من أصل 14 طرحها شارون. واذا كان الجنرال زيني ذهب قبل عامين في اجازة ولم يعد وانسحب من المهمة بهدوء، فالمبعوث جون وولف المكلف بمتابعة تنفيذ الخريطة الموجود في اجازة. يفكر في الاعتذار حسب رواية ديبلوماسيين غربيين، ويقال انه مقتنع بأن عودته لن تحيي “خريطة الطريق” ولا تنقذ عملية السلام من مأزقها القاتل الذي تقف فيه.

ويعرف ابو علاء اكثر من سواه ان سبب تعثر الحركة على طريق السلام الذي ساهم في شقه هو استهتار سيد البيت الأبيض ونائبه ديك تشيني ووزير دفاعه رامسفيلد بمواقف الدول العربية من المحيط الى الخليج وعدم اكتراثهم بحقوق الانسان الفلسطيني. وهم يصمتون على سياسة “أقتل ودمر وفاوض” التي اعتمدها شارون منذ تولى زمام السلطة، ويتعاملون مع عملية السلام العربية – الاسرائيلية وفق كاتالوغ شارون ويساندون دون حدود سياسته العنصرية التوسعية. وأظن ان سياسة ادارة بوش ازاء النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي لن تتغير في عام انتخابات الرئاسة، واذا تغيرت وجّهتها نحو الأسوأ للفلسطينيين. وساذج من لا يزال يعتقد ان الرئيس بوش مصمم على تنفيذ رؤيته ويتمسك بقيام دولة فلسطين الى جانب دولة اسرائيل قبل نهاية عام 2005.

وإذا كان أبو علاء “مستعداً بدءاً من اليوم للتفاوض مع الاسرائيليين بهدف التوصل الى اتفاق وقف اطلاق نار متبادل ودائم” كما قال، فالأرجح ان شارون ليس مستعداً لمفاوضات جدية مع رئيس حكومة “بهلوانات” شكلها عرفات بمرسوم رئاسي حسب تصريح غيسين، الناطق الرسمي باسمه. واذا استجاب شارون والتقى يوماً برئيس الحكومة الفلسطينية الجديد، فنتائج اللقاء لن تكون أفضل من لقاءاته المتعددة بأبو مازن، خصوصاً لقاء العقبة الذي تم بحضور الرئيس بوش، واللقاءات الفلسطينية – الاسرائيلية الثنائية التي شارك في بعضها أبو علاء.

اعتقد ان مهمة حكومة “الطوارئ” والعادية التي ستخلفها تتلخص في تقليص الخسائر الفلسطينية، وتوفير الأمن والخبز للناس، وتعطيل اجتياح الجيش الاسرائيلي مدن ومخيمات قطاع غزة، ووقف مصادرة الأراضي والبناء في المستوطنات، وتعطيل استكمال بناء الجدار الذي يفصل بين الفلسطينيين ويفصلهم عن أراضيهم، واحباط قررا “إزاحة” عرفات. واذا كان وقف العمليات الانتحارية وسواها ضد اسرائيل والاسرائيليين وجمع السلاح غير المرخص واغلاق الانفاق في مدينة رفح ومنع تهريب السلاح، ووقف انتاج “صواريخ القسام” ومنع استخدامها، يساعد في تحقيق المهام الوطنية المذكورة اعلاه، فان جميع القوى الوطنية والاسلامية خصوصاً “حماس” و”الجهاد الاسلامي” مطالبين بوضع المصالح الوطنية فوق الاعتبارات الاخرى والتعاون مع حكومة ابو علاء للوصول الى هدنة تضمن تحقيق اهداف ومطالب الناس مباشرة.

وفي هذا السياق لا بأس من مطالبة انصار العمليات الانتحارية في الساحة الفلسطينية التواضع والتمعن في رد فعل القيادة السورية على الغارة التي نفذها الطيران الاسرائيلي في العمق السوري، وكيف استوعبت الرسالة الاميركية ـ الاسرائيلية وتجنبت دخول صدام مباشر مع ادارة بوش، على رغم معرفتها ان الغارة تمت بموافقة اميركية مسبقة. اذا كانت القيادة السورية رفضت الانجرار للميدان الذي يريده شارون فليس من حق “حماس” او سواها المزايدة على القيادة السورية والجيش السوري. واعلان قيادة “حماس” ان “كتائب القسام” سترد على الغارة الاسرائيلية بعمليات تزلزل الارض تحت اقدام الاسرائيليين! يضر بالسوريين والفلسطينيين، ولم افهم الحكمة في نداء “الحمساويين” استعداداً للحرث في حقل لا يمت بصلة الى الهموم الفلسطينية.

الى ذلك كله، ليس مفيدا للشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والاسلامية اتخاذ موقف معاد لحكومة قريع والانشغال في اسقاطها، وخير للجميع التعامل معها باعتبارها اجراء موقتاً وتمرير هذا الشهر بهدوء وسلام. ليس لأنها لن تدخل في مواجـهة مع احد كما قال رئيسها، بل لأن اسقاطها يلحق ضرراً معنوياً بالشعب الفلسطيني وقضيته. ولا خشية من تفجر حرب اهلية فلسطينية خلال الشهرين القادمين، فالعوامل التي حالت دون وقوعها في السنوات الثلاث الماضية لا تزال قائـمة. والــشارع الفلسطيني يرفض الفكرة، وشارون لا يطرح مشروعاً سياسياً مغرياً لاحد، ويطالب القيادة الفلسطينية خوض حرب اهلية من دون مقابل، ولا يقدم حلاً غير الحل العنصري الذي يعمل على فرضه عبر بناء الجدار. وادارة بوش رفعت يدها من مشروع صنع السلام في المنطقة، ويوماً بعد يوم يزداد انشغالها في الانتخابات وتقليص خسائرها البشرية والاقتصادية في العراق.