الهدنة غير كافية لانقاذ “خريطة الطريق”
بقلم ممدوح نوفل في 30/11/2003
بعد جمود طويل, دبت أخيراًَ حركة سياسية محلية واقليمية ودولية على طريق السلام, بأمل التوصل الى هدنة جديدة بين الفلسطينيين الاسرائيليين وتبريد الصراع الدموي الجاري بينهما منذ اكثر من 3 سنوات. ويحاول الوسطاء اعادة فتح مسار التفاوض حول خريطة الطريق التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية لتسوية النزاع وتنفيذ “رؤية” الرئيس بوش الداعية الى قيام دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل. وشجعت الادارة الاميركية القيادة المصرية على الحركة, ووصل مدير الاستخبارات اللواء عمر سليمان الى رام الله, وقبلها التقى في اسرائيل رئيس جهاز الشاباك, للبحث في امكان تحقيق الهدنة واستئناف المفاوضات. والتقى الوزير سليمان الرئيس الفلسطيني ولم يأبه بموقف اسرائيل القائم على مقاطعة كل من يلتقى عرفات… وفي رام الله وجه دعوة لاطراف النظام السياسي الفلسطيني بشقيه سلطة ومعارضة, لاجراء جولة حوار وطني في القاهرة مطلع الشهر المقبل حول الوضع في المنطقة والعلاقات الفلسطينية الداخلية اضافة للهدنة.
وترافقت الخطوة المصرية مع اعلان شارون استعداده للقاء رئيس الوزراء الفلسطيني احمد قريع. وفي الفترة ذاتها تبنى مجلس الامن الدولي بالاجماع يوم 11 تشين الثاني (نوفمبر) مشروع قرار قدمته روسيا يدعم خريطة الطريق ويحض الطرفين على تنفيذها. ومن لندن وجه الرئيس بوش يوم 20 نوفمبر انتقادات حادة لحكومة شارون بسبب اذلال الفلسطينيين واينمانها ببناء “الاسيجة” والجدران ومواصلة التوسع في الاستيطان. وكرر موقفه “الايديولوجي” المعروف ضد ياسر عرفات وطالب الدول الاوروبية بعزلة ومقاطعته. فهل الهدنة وقرار مجلس الامن واللقاءات الفلسطينية الاسرائيلية المتوقعة قادرة على انقاذ عملية السلام من مأزقها وتنفيذ خريطة الطريق وتخفيف الاحتقان الامني؟ وهل اقتنعت ادارة بوش بوجهة النظر التي طرحها ابو مازن في العقبة بأن وقف النار باتفاق خير من محاولة وقفها بحرب فلسطينية داخلية غير مضمونة النتائج؟ وهل بوش وأركانه مستعدون لارغام اسرائيل على احترام الهدنة ووقف الاقتحامات والاغتيالات والاستيطان, ووقف استكمال بناء الجدار داخل الاراضي الفلسطينية؟
وفقاً للمعلومات المتوافرة تطالب الادارة الاميركية رئيس الحكومة الفلسطينية ابو علاء تنفيذ 4 خطوات قبل الزام حكومة شارون باجراء عملي. والخطوات المطلوبة لا تختلف عن التي طلبت من محمود عباس في اطار المرحلة الاولى من خريطة الطريق, وهي: وقف اطلاق النار وقفاً تاماً في كل المناطق, اغلاق الانفاق التي تستخدم لتهريب السلاح, منع قصف المدن والمستوطنات بمدافع الهاون و”صواريخ القسام” بعيدة وقصيرة المدى… واعتقال من لا يلتزم ويستخدم هذه الاسلحة. ورابعا اتخاذ الاجراءات اللازمة كوضع الحواجز لمصادرة الاسلحة غير المرخصة ومنع ظهورها في الشوارع ومنع استخدامها من المدنيين. وفي حال تنفيذ الجانب الفلسطيني هذه الالتزامات تطلب الادارة الاميركية من حكومة اسرائيل وقف الاستيطان وازالة البؤر الاستيطانية “غير القانونية”, ووقف الاغتيالات, وسحب الجيش الاسرائيلي من المدن وفتح الطرق وانهاء الاغلاق والحصار, أي اعادة الوضع الى ما كان عليه في ايلول “سبتمبر” 2000. وفهم الجانب الفلسطيني ان الموقف الاميركي يتضمن الضغط لوقف بناء جدار الفصل العنصري في الاراضي الفلسطينية.
وبينت الاتصالات وما صدر من تصريحات ان مواقف جميع الاطراف المعنية بالهدنة متفائلة, واستنادا لهذا التفاؤل واصل الوفد المصري تحركاته واتصالاته بمختلف الاطراف وحصل عى موافقات فلسطينية اولية للمشاركة في الحوار. وتحرك رئيس الحكومة الفلسطينية أحمد قريع والتقى في غزة قادة المعارضة, وخص الشيخ احمد ياسين والتقاه في منزله, وبحث المواضيع التي ستتناولها المحادثات الفلسطينية, والفلسطينية – المصرية المتوقعة بعد عطلة العيد. ولم يلتق بعض القوى المشاركة في السلطة ومنظمة التحرير واستهجن ابو عمار سلوك ابو علاء, واصدرت القوى بيانا علنيا ضده.
وفي اللقاءات مع رئيس الوزراء الفلسطيني والوفد المصري, أبدت حركتا “حماس” و”الجهاد الاسلامي” استعداداً لتحييد المدنيين من الجانبين فوراً. ورفضت القوى الوطنية والاسلامية الاعلان عن هدنة مجانية من جانب واحد كالتي اعلنت في عهد حكومة عباس وانتهكتها اسرائيل مرات كثيرة. واكد رئيس الوزراء الفلسطيني للقوى رفضه فكرة الهدنة المجانية وانه يتمسك بمبدأ التبادلية في الهدنة وفي تنفيذ خريطة الطريق. وهذا يعني في نظر حكومته وقف مصادرة الاراضي وبناء الجدار والاستيطان, ومنع الاغتيالات والاجتياحات والاعتقالات والاغلاقات, والانسحاب من المدن واطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين من دون تمييز.
اعتقد ان تفاؤل اللواء سليمان بنجاح مهمته تفاؤل في محله, ويرجح ان لا يواجه صعوبات كبيرة في التوصل الى هدنة. فكل الاطراف من دون استثناء بحاجة في الظرف الراهن لهدنة ولو موقتة: الفلسطينيون سلطة ومعارضة بحاجته الى وقف خسائرهم ولملمة اوضاعهم ومعالجة الجسد الفلسطيني المثخن بالجروح وانجاح مهمة القيادة المصرية, وتجنب غضب الادارة الاميركية, وتوسيع جبهة الاصدقاء, وتعزيز مواقف المعارضة (اليسار) في الشارع الاسرائيلي, وكشف زيف موقف شارون وحكومته من خريطة الطريق ومحاولة محاصرتها وعزلها داخلياً ودولياً.
والادارة الاميركية بحاجة لتقطيع الوقت والتفرغ لانتخابات الرئاسة التي يبدو انها ستكون حامية الوطيس. والتفرغ لمواجهة الارهاب الدولي ومعالجة الاوضاع الحرجة التي يعيشها جيشها في العراق. وتخفيف نقد العالمين العربي والاسلامي المتزايد بسبب انحيازها المطلق لجانب اسرائيل “الليكودية” وكثر اخطائها في العراق.
ويبدو ان شارون واركان حكومته بحاجة للهدنة في الظرف الراهن اكثر من الاطراف الاخرى. وخفف من اشتراطاته السياسية والامنية, ولم يعد يشترط مثلا ان يكون رئيس الحكومة الفلسطينية مستقلاً عن ياسر عرفات وان يسيطر على كل الاجهزة الامنية, وان تكون هذه الاجهزة بعيدة عن سيطرة “منبع الارهاب” عرفات. واسباب حاجة شارون واركان حكومته للهدنة كثيرة منها: أ- اللعب في الوقت الضائع قبل الانتخابات الاميركية واظهار مرونة شكلية وتجنب تأجيج الخلاف مع واشنطن وامتصاص غضب ودول الاتحاد الاوروبي بسبب الجدار والاستيطان. ب – امتصاص تفاعلات الاصوات التي ارتفعت من المؤسسة العسكرية الاسرائيلية وطالبت بإنهاء الدور غير اللائق المكلف به الجيش ضد المدنيين الفلسطينيين, منها نشر دبابات الميركفا الثقيلة في شوارع المدن وازقة المخيمات ونشر حواجز الاذلال على الطرقات. ج- محاولة شارون استعادة شعبيته المتناقضة في الشارع الاسرائيلي وامتصاص غضب العمال ورجال الاعمال الذين لحقت بهم خسائر فادحة, بسبب سياسته “العسكرتارية”, وباتوا مقتنعين بأن تحسن الاوضاع الاقتصادية في اسرائيل رهن بتوقف الانتفاضة والانفتاح على السوق الفلسطبنية وهذا الامر يتحقق بالمفاوضات ولا تحققه الدبابات. د- امتصاص الآثار المعنوية السلبية التي احدثها قرار مجلس الامن الدولي الاجتماعي رقم 1515 حول دعم تنفيذ خريطة الطريق. حيث اظهر القرار للجمهور الاسرائيلي فشل زيارة شارون الاخيرة لموسكو وفشله في اقناع “صديقه” بوش باستخدام الفيتو في وجه المشروع الروسي. هـ – امتصاص وتشتيت التفاعلات الداخلية والخارجية التي احدثتها “وثيقة جنيف” التي صاغتها “مجموعة بيلين – عبدربه”. حيث اثبتت زيف ادعاءات شارون واركانه وقبلهم زعيم حزب العمل السابق باراك, حول عدم وجود شريك فلسطيني للسلام. واكدت الوثيقة امكان التوصل الى اتفاق حول كل قضايا الحل النهائي بدءاً من الامن والمستوطنات وانتهاء بالقدس واللاجئين.
لكن, اذا كانت هذه العوامل المحلية والاقليمية والدولية شكلت حاضنة لامكان التوصل الى اتفاق هدنة فذلك لا يعني ان الشروط اكتملت لهدنة طويلة او دائمة. ولا يعني ايضاً ان الهدنة قادرة على انقاذ عملية السلام من مأزقها واخراج امن الاقليم من حال التدهور الشديد التي بلغها في مرحلة الحرب على العراق. فالهدنة قابلة للاختراق ليس فقط بسبب النوايا الاسرائيلية السلبية المبيتة وغياب أداة التحقق والمراقبة, بل ايضاً بسبب ضعف اجهزة الامن الفلسطينية وعدم قدرتها على منع أي مجموعة متطرفة من خرق الهدنة. اضف الى ذلك انعدام افق الحل السياسي والتحاق خريطة الطريق بخطتطي “تنيت” و”ميتشل” وبقية المبادرات اليت استهلكها الطرفان. وتأكيد ادارة بوش على ان الخريطة لا تزال موجودة ومصممة على تنفيذها يلغيه موافقتها على 12 شرطاً من شروط شارون الـ14, وقرارها تأجيل عودة المبعوث جون وولف المعني بمتابعة الخريطة يؤكد عدم جديتها.
اما مبالغة شارون في الحديث عن اهمية الخريطة فهو نعي لها يظهر في عدم الاكتراث بقرار مجلس الامن الدولي 1515 المتعلق بتنفيذها وبتصويت المندوب الاميركي لمصلحة القرار. ولم يأخذ شارون الانتقادات التي طرحها بوش في بريطانيا على محمل الجد, لسببين: الاول دخول بوش وادارته مرحلة الانتخابات ومعرفة شارون انهم لن يغامروا بتخريب العلاقة مع اسرائيل. والثاني تلمس شارون عدم جدية الموقف الاميركي اذ لم يلمس أي اجراء عقابي اميركي عندما استأنف المقاولون العمل في المرحلة الاخيرة من الجدار.
قد يعرض شارون على الفلسطينيين بعد مفاوضات مضنية ازالة عدد محدود من البؤر الاستيطانية المتفرقة وقد يسمح رئيس الوزراء الفلسطينيين حديثاً عن تنازلات مؤلمة ينوي شارون تقديمها ويلوح له بإخلاء مستوطنة نتساريم, لكن شارون لن يزيل مستوطنة واحدة تتعارض مع قناعته الايديولوجية ومفاهيمه الامنية وتعقد علاقاته في الحكومة. واذا كان يصعب احياء عملية السلام مع حكومة تمثل المستوطنين ولا افق لتنفيذ المرحلة الثانية من خريطة الطريق, فالمصالح الفلسطينية العليا تفرض على القوى الوطنية والاسلامية تقليص الخسائر ووقف تدهور الاوضاع وقبول هدنة يشرف على تنفيذها طرف ثالث.