قراءة في وثيقة جنيف – مداخلة في ندوة جامعة بيرزيت
بقلم ممدوح نوفل في 15/11/2003
في منتصف شهر تشرين الأول “أكتوبر” 2003 توصلت مجموعة بيلين ـ عبد بد ربه للسلام في فندق “موفنبيك” على شاطئ البحر الميت في الأردن إلى اتفاق تفصيلي حول قضايا الحل النهائي (القدس واللاجئون والحدود والاستيطان والمياه والتعاون الأمني والعلاقات المستقبلية) وإنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي الذي دام قرابة قرن. وهذا الاتفاق تم التوصل إليه بعد حوار دام أكثر من عامين. وعرف باسم “اتفاق جنيف” أو و”ثيقة سويسرا” نسبة للدولة السويسرية التي شجعت الحوار من بداياته ومولته. ورغم أن الاتفاق وقع بالأحرف الأولى في الأردن، فقد نظم أصحابه في مطلع كانون الأول “ديسمبر” 2003 احتفالا خاصا لتوقيعه من جديد في جنيف تقديرا للجهود السويسرية وليحمل اسمها. وشارك في الاحتفال حشد من الشخصيات الوطنية الفلسطينية من الداخل والخارج، وشخصيات فاعلة في المجتمع الإسرائيلي، وشخصيات دولية مرموقة تهتم بالسلام وبتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، منهم الرئيسان الأمريكيان السابق بيل كلينتون والأسبق جيمي كارتر ورئيس وزراء جنوب أفريقيا الأسبق ديكليرك.
ولا ادري إذا كان اختيارا سويسرا للإعلان عن الوثيقة جاء بمحض الصدفة أم أن أصحابها اختاروا هذا المكان لخلق نوعا من التوازن بين تاريخ الشرق الأوسط وحاضره ومستقبله، وليجعلوا من سويسرا منطلقا لقيام الدولة الفلسطينية كما كانت في وقت ما قبل أكثر من مئة عام منطلقا لدولة إسرائيل الحالية، حيث عقدت الحركة الصهيونية مؤتمرها الأول في مدينة بازل السويسرية عام 1897؟
وأيا تكن نوايا بيلين وعبد ربه ومعهم الحكومة السويسرية فالسؤال المركزي المطروح على الجميع هو: هل سيعمر هذا الاتفاق ويصبح حدثا مفصليا في سياق البحث عن صنع السلام في المنطقة، أم أنه لا يؤخر ولا يقدم في حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي؟ وهل يتحول الاتفاق إلى حقائق ملموسة على الأرض أم أن مصيره ليس أفضل من مصير المبادرات والتفاهمات الرسمية وغير الرسمية السابقة وسيدفن في مقبرة مبادرات حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي بجانب المبادرات الكثيرة التي سبقته؟ وهل مفيد فلسطينيا التعاطي معه لأنه يلبي الاتفاق الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية التاريخية أم يجب وأده قبل أن يلحق الأذى بالقضية ؟
على رغم أن اتفاق بيلين ـ عبد ربه ليس أكثر من نموذج وليس اتفاقا رسميا مطروحا للتطبيق، فقد حظي باهتمام واسع وأثار فور الإعلان عنه عاصفة قوية من ردود الفعل المتباينة في حقل العمل السياسي الإقليمي والدولي، وفي داخل الساحتين الإسرائيلية والفلسطينية تراوحت بين مواقف متطرفة عارضته بشدة واعتبروه يتضمن تنازلات تمس الثوابت، وأخرى واقعية أيدته لاعتبارات استراتيجية وتكتيكية، وتحفظ آخرون لأسباب مختلفة.
وتلقى بيلين وعبد ربه العديد من رسائل الدعم والتشجيع كان أبرزها رسالة من وزير الخارجية الأمريكية كولن باول، أكد فيها دعمه وتشجيعه للخطوة التي قاما بها. وأشار باول إلى أن الرئيس بوش لا يزال يتمسك بحل يقود إلى قيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل. واعتبر باول مشروع “وثيقة جنيف” مشروعا مهما للحفاظ على الأمل والتفاهم. وساندت الوثيقة أيضا قوى دولية عديدة مهمة منها فرنسا ودول أوروبية أخرى، وثمنها علنا رئبس الوزراء البريطاني توني بلير. وأعلن مؤتمر الاشتراكية الدولية الذي عقد في البرازيل مطلع شهر تشرين الثاني نوفمبر” 2003 دعم الوثيقة وتبناها بصورة رسمية. وأبدت قيادة م ت ف تأييدها لنتائج الجهود التي بذلتها مجموعة السلام.
إلى ذلك، تعرض الاتفاق قبل ترجمته للغتين العربية والعبرية لهجمات فلسطينية وإسرائيلية قوية تشير إلى أنه خلق تفاعلات سريعة وفرض نفسه بصيغة وأخرى كمبادرة من المبادرات الكثيرة التي عرضت في بازار سياسات الشرق الأوسط وحظيت باهتمام أهل المنطقة. وتعرض بيلين وعبد ربه نيابة عن المجموعة لهجوم بلغ حد مطالبة قوى في اليمين الإسرائيلي بمحاكمة بيلين وشركائه بتهمة الخيانة العظمى. وشن شارون ووزير خارجيته سلفان شالوم هجوما عنيفا على الوثيقة وأصحابها، وطال هجوم الخارجية ممثل الحكومة السويسرية في إسرائيل وتعرض لتوبيخ بسبب مساندة دولته الوثيقة ودعمها القائمين عليها ماديا ومعنويا.
وبدلا عن تقديم المساندة لبيلين ومن معه واعتبار الوثيقة مكملة لبنود خريطة الطريق المتعلقة بالحل النهائي، ترددت مؤسسات حزب العمل وقيادة حركة ميرتس في تقديم الدعم السياسي والمعنوي لبيلين ووثيقته. وتفجر غضب زعيم حزب العمل السابق ايهود باراك وهاجم الوثيقة وجميع من ساهموا في بلورتها. وتحفظ زعيمه المؤقت شمعون بيريز علنا على الوثيقة واصطنع تناقضا وهميا بينهما وقال في باريس: انه “يفضل التمسك ب”خريطة الطريق” على البحث عن اتفاق جديد”. وفسر بعض الإسرائيليين موقفه على انه رسالة موجهة إلى شارون تعبر عن رغبة بيريز في العودة إلى وزارة الخارجية يوما ما.
فلسطينيا، لم يكن حال عبد ربه مع قومه أفضل من حال بيلين، ولم يتبنى الوثيقة رسميا أي طرف فلسطيني. وتبين أن مشاركة قدورة فارس ومحمد الحوراني وهشام عبد الرازق أعضاء المجلس التشريعي أعضاء اللجنة الحركية لقيادية فتح في الضفة، ومشاركة د. نظمي الجعبة وجمال زقوت وسمعان خوري أعضاء في قيادة حزب فدا في لقاء البحر الميت، لا يعني أن الجهات التي ينتمون إليها تتبنى الوثيقة وتساند أصحابها.
وبدلا عن التروي وانتظار ما ستحدثه المبادرة من ردود أفعال في الساحة الإسرائيلية والدولية، تعرضت الوثيقة وأصحابها لهجمات متفاوتة في الشدة والمستوى ساهم فيها قادة وكوادر وكتاب وصحفيين فلسطينيين. وطغى صوت المعارضين للوثيقة على صوت الشخصيات الوطنية الواقعية وأحمد قريع رئيس الوزراء الفلسطيني، وصوت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير التي وفرت الغطاء للمجموعة الفلسطينية وثمنت جهودها ورحبت بالنتائج التي توصلت إليها واعتبرتها وثيقة غير رسمية. وعوض قراءة مدلولات رد فعل شارون الانفعالي وهجوم زعماء اليمين الإسرائيلي على الوثيقة تنصل قادة في فتح وحزب فدا من الوثيقة. علما أنها مشتقة من أطروحة المفاوضات السابقة التي شاركوا فيها، وتتضمن حلا لا يتعارض مع البرنامج المرحلي ولا توجهات الحل السياسي الذي أقرتها دورات المجلس الوطني الفلسطيني المتعاقبة.وأصدرت المعارضة الفلسطينية الإسلامية مع فصائل تشارك في السلطة والمنظمة بيانات حادة شبيهة ببيانات اليمين الإسرائيلي عارضت الوثيقة بقوة وهاجمت أصحابها بعنف.
وتسرعت “القوى الوطنية والإسلامية” وأصدرت يوم 19/10/2003 بيانا عنيفا ضد الوثيقة وضد كل من وقع عليها، تحفظ عليه حزب الشعب، حمل البيان عنوان “نداء التمسك بالثوابت الوطنية”. وقالت القوى في بيانها: إن الوثيقة “تعبر فقط عن وجهة نظر من وقعوها ولا تلزم شعبنا ولا تتوافق مع إرادته ولا تصلح أساسا لحل قضيته الوطنية”. واعتبرت “المفاوضات التي جرت في البحر الميت من وراء ظهر الشعب وما انتهت إليه من نتائج متمثلة بما يسمى “وثيقة سويسرا” منزلقا خطيرا نحو إضعاف الموقف الفلسطيني والتراجع عن ثوابته والمساس في مرجعيته العليا”. ولم يوضح البيان أداة القياس التي استخدمتها القوى الوطنية والاسلامية لتحديد الثوابت الوطنية وللحكم على الاتفاق، ولم توضح للناس أين وكيف تم المس بالمرجعية الوطنية..! ودعا بيان “القوى الوطنية والإسلامية” قيادة المنظمة والسلطة “إلى اتخاذ موقف حاسم وواضح إزاءها”. ويرجح أن تتواصل الهجمات على الوثيقة وان تثير بين فترة وأخرى زوبعة من الحوار والنقاش في الشارعين الفلسطيني والإسرائيلي، خاصة إذا التزم أصحابها وأنصارها بعدم التوقف عند حدود التوقيع ونجحوا في تشكيل أطرا شعبية فعّالة تساندها وتدافع عنها وتؤمن وصولها إلى جميع بيوت الإسرائيليين والفلسطينيين.
لا شك في أن الإدلاء بالرأي في الوثيقة وأية وثيقة أخرى تمس المصير الوطني حق طبيعي لجميع الفلسطينيين. ولا احد يمكنه الادعاء أنها خالية من النواقص والثغرات، وتتضمن جميع الحقوق التاريخية أو المرحلية كما حددتها قرارات المجلس الوطني الفلسطيني، وتلبي طموحات الشعب الفلسطيني وخاصة عودة اللاجئين إلى ديارهم. ولكن الكل يعرف أن أي اتفاق بين طرفين هو تسوية بين موقفين متعارضين ومتناقضين وهذه التسوية تتأثر بصيغة وأخرى بميزان القوى، وأن مهارة المفاوض وقوة الحجة لا تعوضان كل الخلل خاصة إذا كان هذا الخلل فاحشا كما هو قائم الآن. وأظن أن حوار الطرفين في ظل أجواء غير رسمية أقرب إلى العلاقات العامة، حرر عبد ربه ومن معه من التأثر بضغط الخلل الفاحش في ميزان القوى. جرد بيلين ومن معه من استغلال ميزان القوى لصالح فرض إملاءات على الفلسطينيين. وكلاهما ومعهم جميع من وقعوه كانوا يعرفون أنهم ليسوا مكرهين على قبول اتفاقا يتعارض مع قناعتهم.
وإذا كان إجماع أطراف النظام السياسي الفلسطيني حول جميع بنود الوثيقة لا يعبر عن حالة فكرية وسياسية صحية، وبأس الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية والإسلامية إذا أجمعوا على هكذا اتفاق يمس تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، فإن من حق من ساهم في بلورة الوثيقة ومن وقع عليها أن يعامل من قومه كما المجتهد في الإسلام الذي إذا أصاب نال أجرين وإذا أخطأ نال أجرا واحدا. ويحق أيضا لمن يوافق على بنود تتعلق بحل مشكلة الأمن والأرض والحدود مثلا أن لا يوافق على الحل المتعلق باللاجئين والقدس والاستيطان.
والتدقيق في المعارضة الفلسطينية ومنطلقاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية يبين أنها نوعان: أحدهما “التيار الإسلامي” لا يمكن التفاهم معه حول مضمون الوثيقة وأهدافها التكتيكية أو الاستراتيجية ولا يمكن جذبه لمساندتها، والآخر يمكن إيجاد قواسم للعمل المشترك عبر الحوار والنقاش. وفي هذا السياق يمكن موضوعيا تفهم واستيعاب موقف التيار الإسلامي ممثلا بحركتي حماس والجهاد الإسلامي إذا رفض الاتفاق جملة وتفصيلا، فهذا التيار عارض عملية السلام من البداية ولديه رؤيته الخاصة لحل النزاع تقوم على رفض وجود دولة إسرائيل. كما يمكن أيضا استيعاب موقف التيار القومي المتشدد ممثلا بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لكن غير المفهوم هو تحفظ التجمع الديمقراطي وحزب الشعب وإعلان قوى وشخصيات وطنية تتميز بالواقعية منها قادة وكوادر في حركة فتح وقيادة الجبهة الديمقراطية وقيادة حزب فدا الحرب على الوثيقة، ودعوة الشعب الفلسطيني إلى “عدم الإنشغال بها”. وأيضا غير مفهوم إطلاقا أن تفرض جهة فلسطينية غير منتخبة “قيادة القوى الوطنية والإسلامية” في رام الله وصايتها على القضية الوطنية. وليس من حق أحد كتم أصوات الآخرين ومحاولة حرمانهم من الاجتهاد ومنعهم من الإدلاء بآرائهم وإصدار أحكام على مواقفهم تصل حد التخوين والتشكيك بوطنيتهم، ومطالبة الهيئات القيادة الرسمية “محاسبتهم على المس بالمرجعية”..!
إلى ذلك، بديهي القول أن “وثيقة سويسرا” نموذج وليست اتفاقا رسميا والحكم على هذا النموذج هو مدى خدمته للقضية الفلسطينية في الزمن المحدد. وأعتقد إن المصلحة الوطنية تفرض على المفاوض الفلسطيني الرسمي التعامل معها عند العودة لطاولة المفاوضات، باعتبارها اتفاقا غير ملزم ويمثل الحد الأدنى أو ما دونه، وبامكانه اعتباره أيضا تمرين علاقات عامة إذا أراد. ولكن المصالح العليا ذاتها تفرض على المفاوض ليس فقط العمل على الارتقاء بسقف الاتفاق بل أيضا عدم النزول إلى دون ما هو وارد في كل بند من بنودها. صحيح أن المشاركين من الجانب الإسرائيلي ليسوا ممثلين رسميين لكنهم بالتأكيد شخصيات سياسية فاعلة في المجتمع الإسرائيلي وتحظى باحترام قوى حزبية أساسية، ولن يمونوا بعيدين عن صناعة القرار في إسرائيل في حال توفر الشرط المطلوب للعودة إلى مفاوضات جدية منتجة.
وموافقة الجانب الإسرائيلي مثلا على إخلاء مستوطنات أرائيل وعمانويل وقدوميم وأبوغنيم وبيت إيل وكريات أربع وجميع المستوطنات القائمة بين رام الله ونابلس..إلخ يجب استخدامه للضغط لإخلاء مستوطنات ألفي منشة التي تطبق الخناق على مدينة قلقيلية وتمنعها من التوسع الطبيعي وتصادر مساحات واسعة من أراضيها. وأيضا إخلاء مستوطنة جبعات زئيف التي تفصل القدس ورام الله عن قرى اللطرون وعن قرى غرب القدس، وكذلك مستوطنة معاليه أدوميم المطلة على أريحا والتي تفصل محافظات جنوب الضفة عن رام الله والقدس.
ومن وافق على إخلاء تجمع مستوطنات أرائيل وقدوميم ودان شمرون بين نابلس وقلقيلية القائم فوق اكبر أحواض المياه الجوفية في الضفة وإخلاء مناطق يالو وعمواس في اللطرون الأقرب إلى مطار اللد ومدينة تل أبيب..الخ يجب أن يوافق من اجل السلام العادل، على إخلاء هاتين المستوطنتين أو نقلهما إلى السيادة الفلسطينية وجعلهما نموذجا للتعايش المشترك. واعتقد أن الاعتراف بصيغة وأخرى بمسئولية إسرائيل عن الآلام التي حلت باللاجئين يساعد في تحقيق المصالحة التاريخية الحقيقية حتى لو لم يترتب على هذا الاعتراف تبعات مادية.
وبصرف النظر عن رأي المعارضة الفلسطينية أعتقد أن نواقص “وثيقة سويسرا” يجب أن لا تحجب رؤية إيجابياتها الكثيرة الاستراتيجية والتكتيكية المباشرة، ومنها:
ـ أنها مشروع جدي ينطلق من فكرة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة والقطاع الذي دام 35 سنة. وتنفيذ يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة بجانب دولة إسرائيل، وإلى رسم حدود نهائية لدولة إسرائيل وينهي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي المزمن.
ـ أعادت الوثيقة الاعتبار لقوى السلام في الجانبين ولخطة السلام الفلسطينية والعربية التي ضاعت في زمن “الانتفاضة المسلحة” وزحمة العمليات الانتحارية، وغبار البيوت المدمرة وغبار جنازير الدبابات الإسرائيلية التي أعادت احتلال المدن الفلسطينية، ووفرت الوثيقة من جديد مشروعا واقعيا لحل النزاع بالطرق السلمية يمكن تكتيل قوى محلية وإقليمية ودولية حوله.
ـ تستند الوثيقة إلى ما تم التوصل إليه في مفاوضات طابا وكامب ديفيد وما ورد في وثيقة الرئيس كلينتون. وأثبتت أنه يوجد في الجانب الفلسطيني شريك في صنع السلام الحقيقي وأن بإمكان الطرفين التوصل إلى اتفاق حول قضايا الحل النهائي وقدمت صياغات محددة في كل البنود تسهل على المفاوضات الرسميين عملهم.
ـ تساهم في كسر حدة الاستقطاب في إسرائيل القائم على الاستمرار في احتلال الشعب الفلسطيني وتصعيد العدوان ضده ونهب أرضه. وتنسف ادعاءات شارون وقبله باراك بان لا حل سياسي للنزاع، وأن الفلسطينيين رفضوا في محادثات كامب ديفيد عرضا سخيا قدم لهم، وان عرفات وأركانه يريدون تدمير إسرائيل وإغراقها بملايين اللاجئين.
إلى ذلك، أعتقد أن الوثيقة بينت الحدين الأدنى والأقصى لمواقف الطرفين في قضايا النزاع الجوهرية، وأن نتائج المفاوضات الرسمية اللاحقة سوف تكون قريبة جدا من هذين الحدين. وإذا كان بعض الفلسطينيين يخشى أن تصبح الوثيقة سقفا للموقف الفلسطيني فهي أفضل صيغة تم التوصل إليها حتى الآن: وهي أحسن للفلسطينيين من مبادرة كلينتون التي طرحها في كانون الثاني “يناير” عام 2001 قبل رحيله من البيت الأبيض خصوصا في المسائل المتعلقة بالاراضي والسيادة على الأماكن المقدسة، وهي أفضل من وثيقة أبو مازن بيلين ومن مبادرة سري نسيبة ويعلون. وتتضمن أفكارا إسرائيلية جديدة تتعلق بأسس حل النزاع لم تطرح في مفاوضات كامب ديفيد ومحادثات طابا ولم ترد في ورقة المبادئ التي توصل اليها سري نسيبة وعامي يعلون. أهمها الموافقة على أن يتم تبادل الأراضي بنسبة 1:1 وبذات القيمة والمثل وإزالة تجمع مستوطنات أرائيل وبسط السيادة الفلسطينية على مدينة القدس العربية وأماكنها المقدسة وجعلها عاصمة الدولة الفلسطينية والموافقة على دور فعال لطرف ثالث “التواجد الدولي”.
صحيح أن هذه الوثيقة لا تخلو من من النواقص والثغرات، ولا أفق لتحويلها إلى اتفاق رسمي في عهد شارون وطالما ظل اليمين الإسرائيلي يمسك بزمام السلطة وإن تنفيذها قد يتسبب في حربين داخليتين فلسطينية وإسرائيلية، لكنه بالتأكيد ضيق فجوة الخلاف حول قضايا الحل النهائي ووفر للمفاوضين الرسمين نصوصا تسهل عملهم عندما تستأنف المفاوضات. وبإمكان الطرفين والقوى الدولية والإقليمية المساندة للسلام استخدامها كرافعة لإنقاذ عملية السلام. واذا كانت الوثيقة غير قابلة للتطبيق في عهد شارون فهي تشير إلى أقصر الطرق لصنع السلام في المنطقة وتوفر للمجتمع الدولي مشروعا يصلح فرضه بقرار دولي على الطرفين وتوفير قوات طرف ثالث تشرف على تنفيذه.
ولا أحد يستطيع إنكار أن هذا الاتفاق يضعف موقف شارون في المفاوضات ويجعل برنامج قوى اليمين غير ذي قيمة في السياسة الدولية، خاصة وان التباين بين البرنامجين شاسع. ويساعد الاتفاق قوى السلام في إسرائيل على النزول إلى الشارع ومواجهة مواقف المتطرفين وتفنيد ادعاءات باراك وشارون بان لا أفق للسلام مع الفلسطينيين. ويوفر للفلسطينيين والعرب قاعدة انطلاق لهجوم سلام على المجتمع الإسرائيلي وفي الساحة الدولية.
وفي جميع الحالات من الخطأ انقسام القوى الفلسطينية حول وثيقة سويسرا، والمصالح الوطنية العليا تفرض على جميع التعامل معها بمقدار خدمتها للقضية والتجرد من الحساسيات السياسية والنزعات الفصائلية والمواقف المسبقة من الأشخاص الذين بلوروها. وتفرض على عبد ربه وصحبه العمل على استكمال صياغة الملاحق ومحاولة ردم الثغرات وتضمينها بعض النواقص الرئيسية وضمان المصالح الوطنية في القضايا الهامة التي تقرر ضمها كملاحق للاتفاق.
وأظن أن الوثيقة ليست جريا وراء أوهام كما يقول البعض، وتستحق دعم ومساندة أنصار السلام. وإن استثمارها فلسطينيا يتطلب تأجيل الخلاف حول تفاصيلها لحين النجاح في إحداث تغيير يسمح بالبحث في تنفيذها. وتستحق التفاف القوى الديموقراطية والواقعية حولها وتشكيل ائتلاف عريض من القوى والأحزاب والمنظمات غير الحكومية الفلسطينية يدافع عنها في الشارع الفلسطيني ويحملها إلى ميادين العمل السياسي الإقليمية والدولية. وإذا كان بيلين وشاحاك وديفيد كمحي وميتسناع أرادوا وثيقة سويسرا مدخلا لخوض معركة إسقاط شارون وحكومته، فهذه المعركة تهم الفلسطينيين وأنصار صنع السلام في المنطقة خاصة أن الجميع يؤكد أن لا أفق للسلام في عهد اليمين وبقاء شارون في قمة السلطة يجلب مزيدا من الكوارث والنكبات على الشعبين.