اخلاء مستوطنات غزة قنبلة دخانية تكتيكية أم تغيير في العقيدة؟
بقلم ممدوح نوفل في 16/02/2004
عند توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 لم يتصور رئيس وزراء إسرائيل اسحق رابين بأنه سيجد نفسه مضطراً للبحث في تسريع الفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وفي أعقاب العملية “الانتحارية” التي نفذتها حركة “حماس” عند مفرق بيت ليد داخل إسرائيل مطلع عام 1995 وأسفرت عن مصرع أكثر من عشرين جندياً إسرائيلياً, وجه رابين عبر التلفزيون خطاباً مهماً إلى الجمهور الإسرائيلي, تحدث فيه, للمرة الأولى, عن الفصل بين الشعبين, وقال: “لن نخضع للإرهاب ونعمل بجد من أجل الانفصال عن الشعب الآخر وسنصل هذه الغاية ان عاجلاً أو آجلاً”. وأصدر قراراً شكل بموجبه لجنة لدراسة الفصل, وعيّن وزير الشرطة موشيه شاحال رئيساً للجنة, وكلف وزير المال ابراهام شوحاط اجراء دراسة شاملة لانعكاسات “خطة الفصل” مالياً واقتصادياً على إسرائيل, وطلب إلى هيئة الأركان العامة للجيش دراسة النتائج المحتملة على الأوضاع الأمنية التكتيكية والاستراتيجية.
وبعد اغتيال رابين في 5/11/1995 على يد متطرف يهودي, وتولي شمعون بيريز دفة الحكم, تراجع الحديث في إسرائيل عن الفصل بين الشعبين, ولم تجر متابعة جدية للدراسات المالية والأمنية التي وضعها الجيش ووزارة المال. وظل بيريز يفضل “الفصل بين الطرفين” باتفاق مع القيادة الفلسطينية ونظر إليه من زاوية حلمه بشرق أوسط جديد. وبعد وقوع عمليات فلسطينية عدة داخل إسرائيل, مارس بيريز سياسة “الطوق الأمني الشامل” على “المناطق”, ومنع العمال والتجار الفلسطينيين من العبور إلى إسرائيل. واعتبر بعض المراقبين والمحللين السياسيين خطوة بيريز بداية تنفيذ غير معلن لـ”خطة الفصل” التي وضعتها “لجنة شاحال”.
وبعد سقوط بيريز وفوز زعيم حزب ليكود السابق بنيامين نتانياهو بالانتخابات عام 1996, واصلت إسرائيل سياسة فرض “الاغلاق والطوق الأمني الشامل” على “المناطق”. ولم تقم حكومة نتانياهو بخطوات ملموسة لإحياء “خطة الفصل” التي تبلورت في عهد رابين, لسبب “بسيط” هو معارضة حزب ليكود فكرة الفصل من أساسها, وايمانه الراسخ بأن “يهودا والسامرة” “أرض الميعاد” لا يجوز التخلي عنها لـ”الأغيار”.
وبعد هزيمة نتانياهو وفوز زعيم العمل الجديد ايهود باراك في انتخابات 1999, تجدد الحديث عن “الفصل”, وبدأت حكومة باراك باجراءات عملية لتطبيق “الفصل من جانب واحد”, من دون إعلان رسمي. وظهر في عهد باراك اصطلاح جيواقتصادي جديد “الحدود المتنفسة” للدلالة على الفصل المتدرج والسماح بنشاط اقتصادي ومدني واسع بين الشعبين, وتم تسريع عملية البناء للمناطق الصناعية الحدودية وانجزت واحدة رئيسية في قطاع غزة. وقام الجيش الإسرائيلي بهدوء, ومن جانب واحد, باجراء تعديلات طفيفة لمصلحته على الحدود مع قطاع غزة. وتم تطوير بنيان السياج الأمني الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل. ونقل الجيش بضع حواجز لمواقع جديدة شرق “الخط الأخضر” حدود الضفة الغربية عام 1967, تمهيداً لرسم حدود جديدة وضم مساحات من الأراضي, وظهر طمع إسرائيل في ضم أراض في مناطق الخليل واللطرون وغرب رام الله وقلقيلية وجنين.
إلى ذلك, لم يعمل باراك على وضع حد لنشاط المستوطنين, وبنى الجيش الإسرائيلي تحصينات قوية حول معظم المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة, وشق طرقاً التفافية طويلة وعرضية كثيرة لفصل الطرق التي يستخدمها المستوطنون عن التي يستخدمها الفلسطينيون. ومع كل درس جديد استخلصه الجيش الإسرائيلي في المصادمات التي وقعت مع الفلسطينيين كان يصادر مزيداً من الأراضي ويجري تعديلات على الحدود في مناطق الضفة الغربية وعلى طرق المستوطنات.
وفي مفاوضات قمة كامب ديفيد وطابا, التي تمت في عهد باراك, تبلورت أسس وقواعد جديدة للفصل بين الشعبين, أهمها الفصل بين الشعبين باتفاق القيادتين. وتم اعتماد حدود 5 حزيران (يونيو) عام 1967, من حيث المبدأ أساساً لرسم الحدود بين إسرائيل والدولة الفلسطينية الموعودة. وتم الاتفاق على أنه في حال اجراء تعديلات على الحدود, لأسباب تتعلق بالاستيطان أو غيره, يتم ذلك في إطار تبادل الأراضي بالقيمة والمثل, وان تكون خالية ما أمكن من السكان. واعتبر بعض المفاوضين ان التزام إسرائيل بهذه القاعدة يعني عملياً زيادة في مساحة أرض الدولة الفلسطينية عن مساحة الضفة والقطاع في العام 1967, باعتبار قيمة 3 في المئة من أراضي الضفة الغربية التي جرى الحديث عن مبادلتها (أراض في القدس واللطرون, ومنطقتي قلقيلية وسلفيت وبيت لحم) تفوق بكثير قيمة الأرض الإسرائيلية “حالوتسا” شرق قطاع غزة المعروضة بدلاً عنها.
وفي محادثات طابا مطلع عام 2001, وافق الجانب الإسرائيلي “من حيث المبدأ” على اخلاء كل مستوطنات قطاع غزة وعددها 21, وكل المستوطنات في منطقة الأغوار, والواقعة بين رام الله ونابلس, باستثناء تجمع مستوطنات ارائيل. كما وافق أيضاً على اخلاء المستوطنات الواقعة في مثلث نابلس – جنين – طولكرم, والبؤرة الاستيطانية الموجودة في قلب مدينة الخليل وكريات أربع المجاورة لها. وتمسك الجانب الإسرائيلي في تلك المفاوضات بضم تجمع مستوطنات غوش عتصيون القائمة بين بيت لحم وحلحول والخليل, وضم أراضي “اطبع اللطرون” التي بنى فيها مدينة “مودعين” وطالب بضم كل المستوطنات الواقعة داخل حدود بلدية القدس الشرقية. وأصر على ضم مستوطنة “مدينة” معاليه ادوميم التي تفصل جنوب الضفة عن وسطها, وتشرف على البحر الميت, ومستوطنة جبعات زئيف التي تفصل القدس عن رام الله وتفصل المدينتين عن منطقة اللطرون وعدد كبير من القرى الفلسطينية الواقعة غرب المدينتين.
إلى ذلك, اسقط الجانب الإسرائيلي في مفاوضات طابا ضم مساحات من أرض الضفة وقطاع غزة لاعتبارات تتعلق بأمن إسرائيل, كما كان يطالب سابقاً ووافق “من حيث المبدأ” على معالجة هذا الجانب الحساس من وجهة النظر الإسرائيلية, من خلال: (أ) تطوير التنسيق الأمني المشترك بين الطرفين. (ب) وجود قوات دولية, بعد التوصل إلى اتفاق وليس قبله, على الحدود بين الدولتين, وعلى حدود الدولة الفلسطينية مع الأردن. (ج) طلب الجانب الإسرائيلي استئجار ثلاث قواعد عسكرية في مرتفعات الضفة الغربية لفترة زمنية طويلة, علماً بأن الواقع الجغرافي يؤكد أن واحدة تكفي وتزيد. لا شك في أن اطروحة حزب العمل في مفاوضات كامب ديفيد وطابا لحل النزاع “الجيوسياسي” المتعلق بالأرض والأمن والحدود والمستوطنات والدولة الفلسطينية, أرست أرضية صالحة أولياً لتطبيق فكرة “الفصل بين الشعبين” باتفاق, وعلى أساس دولتين للشعبين لهما حدودهما الدولية المعروفة, من دون التقليل من خلافات الطرفين التي بقيت في شأن “الفصل”, خصوصاً الخلافات المتعلقة بالقدس وبالتجمعات الاستيطانية الثلاثة (أرائيل وغوش عتصيون والقدس ومحيطها) التي أصر الجانب الإسرائيلي على توحيدها وضمها لإسرائيل.
في سياق حملته الانتخابية للفوز برئاسة الوزراء في شباط (فبراير) 2001, شن ارييل شارون, زعيم حزب ليكود, حملة قوية ضد توجهات حزب العمل نحو “الفصل بين الشعبين باتفاق” وحل النزاع مع الفلسطينيين على أساس تقسيم القدس, واخلاء كل مستوطنات غزة, والتخلي عن معظم مستوطنات الضفة الغربية وتجميع الباقي في ثلاثة تجمعات رئيسية هي أرائيل وعتصيون ومحيط القدس. واتهم شارون زعيم حزب العمل باراك بأربع تهم كبيرة ترقى كل واحدة منها إلى مستوى خيانة إسرائيل ومبادئ الصهيونية: التخاذل في مواجهة الإرهاب الفلسطيني, والفرار من المواقع في ذروة الحرب, وتعريض أمن إسرائيل لأخطار استراتيجية, والتفريط بحقوق منحها الله لبني إسرائيل.
وعلى أبواب الانتخابات سأل شارون عن التنازلات المؤلمة التي يمكن أن يقدمها من أجل السلام, وأجاب: “عندما أتحدث عن تنازلات, فإنني أقصد بذلك عدم احتلال مدن نابلس وأريحا وسواهما من جديد, وهذا في نظري تنازل مؤلم جداً, لأن كل هذه الأماكن هي مهد ميلاد الشعب اليهودي. وأنا لا أعرف شعباً في العالم تنازل عن كنوزه التاريخية القومية إلا إذا هُزم في الحرب, ونحن لم نُهزم بل انتصرنا”.
بعد سقوط باراك في الانتخابات وانتقال السلطة لليمين بزعامة ليكود, جمدت حكومة شارون ما تم انجازه على طريق “الفصل باتفاق” بين الشعبين. وفتح شارون الباب على مصراعيه للاستيطان في الضفة الغربية لخلق وقائع وحقائق جديدة تنسف مفهوم حزب العمل حول الفصل. وتعهد بالقضاء على الإرهاب من دون اللجوء إلى الفصل واخلاء مستوطنات, وشرع في بناء جدار الفصل العنصري داخل أراضي الضفة الغربية وفي محيط مدينة القدس. ورفض فكرة الانسحاب حتى من مستوطنة نتسريم المعزولة وسط قطاع غزة, وقال رداً على سؤال: “أنا لا افرق نتسريم عن مدينة كفار سابا المجاورة لمدينة تل أبيب”, أو غوض قطيف على شاطئ بحر غزة عن النقب. واسترسل شارون وقتها في شرح قيمة مستوطنة نتسريم الأمنية لجهة محاربة الإرهاب والاشراف الدائم على ميناء غزة ومنع تهريب السلاح عبره. وكرر رفض اخلاء نتسريم عندما زار تجمع مستوطنات غوش قطيف بعد عملية فدائية استهدفت باص مستوطنة كفار دروم, ومرة ثالثة عندما طرحها شريكه في الحكومة تومي لبيد قبل أسابيع قليلة. وظل شارون يعتبر الانسحاب من هذه المستوطنة أو أي مستوطنة أخرى قبل القضاء على الانتفاضة تعبيراً عن ضعف وتراجع أمام الإرهاب وخضوع للإرهابيين.
وكرر شارون مواقفه, وأكدها بقوة في المعركة الانتخابية التي خاضها عام 2003 في مواجهة متسناع. ورفض بشدة فكرة الفصل التي جعلها متسناع محور توجهاته الأمنية والسياسية في العلاقة مع الفلسطينيين. وبعد عام أدلى شارون بمواقف جديدة, فهل بدل مواقفه؟ سؤال جوابه في حلقة ثانية.