نحو بناء تحالف لقوى السلام الفلسطينية
بقلم ممدوح نوفل في 27/03/2004
بصرف النظر عن النوايا والرغبات الذاتية، فإن فشل المفاوضون الفلسطينيون والإسرائيليون الرسميون في التوصل في عشر سنوات إلى اتفاق حول قضايا الحل النهائي يؤكد أن الطرفين ليسا ناضجين لصنع سلام شامل لنزاعهما المزمن، وثمار اتفاقات السلام التي توصل لها الطرفان ظلت شحيحة ولم تقنع الأغلبية بان في السلام منافع تفوق الخسائر المادية والمعنوية القليلة التي قد تلحق بهما. ويؤكد أيضا فشل “الطبيب” الأمريكي ومن ساهم في رعاية المفاوضات في توفير الوصفة القادرة على حل خلافات الفلسطينيين والإسرائيليين المعقدة حول قضايا القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات والأمن والمياه والعلاقات المستقبلية.
وبعد ثلاث سنوات من سفك الدماء وسيل الدموع أعقبت فشل مفاوضات كامب ديفيد وطابا، استبدلت “وثيقة جنيف” التي توصل لها “ائتلاف السلام الفلسطيني الإسرائيلي” منتصف تشرين الأول “أكتوبر” 2003 ووقعت في مدينة جنيف مطلع كانون الأول “ديسمبر” الماضي، حال اليأس بالأمل في معادلة حل النزاع، وأحيت فكر السلام في المجتمعين الفلسطيني الإسرائيلي. وحقق أصحاب الوثيقة ما عجز المفاوضون الرسميون والراعي الأمريكي عن تحقيقه. وأثبتت الوثيقة أنه يوجد في الجانب الفلسطيني شريك في صنع السلام الحقيقي وأن بإمكان الطرفين التوصل إلى اتفاق حول قضايا الحل النهائي الشائكة. وقدم أصحابها لمن يبحث عن السلام وسبل تحقيقه، صياغات محددة تعالج قضايا القدس واللاجئين والحدود والاستيطان والأمن والعلاقات المستقبلية.
وعلى الرغم من أن الوثيقة نموذجا وليست اتفاقا رسميا، فقد ثار حولها عاصفة لم تهدأ حتى الآن ويبدوا أنها ستتواصل وتشتد في الشهور القادمة. وتباينت الآراء فيها، وحظيت بترحيب محلي وإقليمي ودولي واسع غير مسبوق. وتلقت مجموعة السلام بزعامة بيلين ـ عبد ربه دعما ماديا ومعنويا كبيرين. وظهر في الشارع الفلسطيني من أيدها من منطلقات تكتيكية، وتعامل معها أنصار السلام الحقيقي بمنظور استراتيجي واعتبروا التوصل إلى حل واقعي وسط خير من استمرار النزاع وانتظار حلم لا يمكن تحقيقه. ورأى كثير من أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني وكوادر التنظيمات العلمانية و”الديمقراطية” الفلسطينية في وثيقة جنيف أفضل صيغة تسوية تم التوصل إليها في المباحثات والمفاوضات الرسمية وغير الرسمية، ويعتقدون أن تنفيذها يحقق الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني وتطلعاته الوطنية في نيل الحرية الاستقلال.
وأبدت قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية تأييدها لجهود المجموعة. وساندها أمين عام الأمم المتحدة وشخصيات عالمية مرموقة وقوى دولية عديدة مهمة شملت أركان الإدارة الأمريكية الأساسيين ودول الاتحاد الأوروبي ودول عربية وإسلامية وآسيوية وأفريقية كثيرة وقوى الاشتراكية الدولية. واعتبرها أنصار السلام مشروعا مهما للحفاظ على الأمل والتفاهم، وفضل بعضهم النظر إليها باعتبارها مفتاحا لتنفيذ المرحلة الثانية من “خريطة الطريق” التي تبنتها اللجنة الرباعية الدولية ولا تتعارض مع رؤية الرئيس بوش لحل النزاع وقيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل.
إلى ذلك، عززت مبادرة السلام المختزلة التي صاغها سري نسيبة ـ وعامي أيلون هذا الأمل. وبينت الندوات الموسعة والمصغرة التي عقدها أنصار هذه المبادرة على ضفتي النزاع انه بالرغم من الألم والمعاناة فان نسبة كبيرة من الفلسطينيين لا تزال قادرة على تغليب العقل على العواطف والانفعالات. وأكد نجاحهم في جمع مئآت آلاف التواقيع على مبادراتهم انه برغم قتل اكثر من ثلاثة آلاف فلسطيني وقرابة ألف إسرائيلي وجرح عشرات الألوف لا يزال في الطرفين ناس لم ينسوا الدروس الثمينة المستخلصة من تجربة نصف قرن من الصراع، أهمها أنه لا يمكن حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي بالعنف والإكراه.
وبددت المبادرتان حال اليأس والإحباط التي انتشرت بعد فشل المفاوضون الرسميون في التوصل إلى صيغة تسوية مقبولة. وأيقظت الوثيقتان أنصار السلام من سباتهم وتأكدوا أن صنع بديل واقعي سلمي لا يزال ممكنا رغم صعود التطرف في الجانبين. وأحيتا الأمل بإمكانية تجاوز الفشل وصنع سلام دائم بين الشعبين، وعاد معسكر السلام إلى الظهور من جديد بعد غياب عن مسرح الأحداث دام اكثر من ثلاث سنوات. وبدأت قوى السلام بالتحرك في الشارعين الفلسطيني والإسرائيلي وفي ميدان السياسية الدولية دون خجل أو شعور بالذنب. وقالت ليس من حق القيادات والقوى السياسية تدمير شعوبها، وأشهرت الوثيقتين شاهدا على أن جهودها لم تذهب هدرا، وأكدت تصميمها على تحقيق السلام باعتباره هدفا إنسانيا نبيلا.
وبجانب الدعم والتأييد، واجهت وثيقة جنيف ومعها وثيقة نسيبة ـ أيلون معارضة قوية في المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي. وقدّرت قوى الرفض الفلسطينية أنهما تتضمتا تنازلات جوهرية تمس الثوابت الوطنية الأساسية. ولا يزال صراع أنصار الوثيقتين وخصومهما على اشده، ويحاول كل طرف كسب الشارع الفلسطيني لجانب توجهاته. وبينت استطلاعات الرأي والنشاطات والفعاليات التي نظمها أنصار السلام أن المبادرتين تحظيان بتأييد نسبة مهمة في المجتمع الفلسطيني. صحيح أن أصحابهما وأنصارهما لا يزالون أقلية، لكنهم بالتأكيد أقلية فعّالة وليست هامشية وتحظى باحترام وطني. وتضم في صفوفها مناضلين من مختلف فئآت المجتمع وطبقاته وكوادر في فصائل النظام السياسي الفلسطيني أمامهم فرصة حقيقية للتحول إلى أغلبية.
ويعرف أصحاب الوثيقتين وأنصار السلام أن دعاة الحرب وحل النزاع بالقوة كثرو في الساحة الفلسطينية كما في إسرائيل. واعتبروا وثيقة جنيف “منزلقا خطيرا نحو إضعاف الموقف الفلسطيني والتراجع عن ثوابته الوطنية والمساس في مرجعيته العليا وتعبر عن وجهة نظر من وقعوها ولا تلزم الشعب ولا تتوافق مع إرادته ولا تصلح لحل قضيته الوطنية”. واعتبروا إسقاط الوثيقتين مهمة مركزية وضعوها في راس أولوياتهم، وقرروا التحرك ضدهما في جبهة موحدة متراصة. وهم لا شك أقوياء ولديهم من القوة ومن أدوات الهدم ما يكفي لتدمير جسور السلام بين الشعبين. بعضهم يستخدم الدبابات والمجنزرات والطائرات لحسم المعركة لصالحه، والآخرون يعتقدون أن “العمليات الانتحارية” وتفجير العبوات في المطاعم والباصات ودور السينما تقربهم من النصر ومن إلحاق الهزيمة بالعدو الصهيوني وبأنصار الحل السلمي في الشارع الفلسطيني.
أعتقد أن التباين في وجهات النظر حول أفضل السبل لحل النزاع المعقد وتحقيق الحقوق الفلسطينية ظاهرة صحية تماما وأمر طبيعي يجب أن يحترم من الجميع، سواء ظهر بين أنصار وجهتي النظر الرئيسيتين المتناقضتين ـ أنصار الحل السياسي وأنصار الحل العسكري ـ أو في صفوف أنصار الحل السياسي. وبديهي القول انه ليس هناك كاتلوجا واحدا ثابتا لمعالجة هذا النزاع المزمن، ولا أحد في الساحة الفلسطينية فردا أو جماعة، يستطيع الادعاء أن نموذج الحل الذي يتبناه كامل الأوصاف، ووحده القادر على تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة. وأصحاب “مبادرة جنيف” للسلام لا يدعون بأن مبادراتهم تمثل البلسم الشافي للشعبين من أمراض النزاع وذكرياته المؤلمة، لكنهم بالتأكيد محقون عندما يعتبرون مبادرتهم مشروعا واقعيا قابل للتطبيق، ويقولون هذا ما استطعنا تحقيقه ونأمل من المفاوض الفلسطيني أن يعمل على تحسينه وان يتمسك به كحد أدنى إذا عجز عن التحسين والتطوير.
وإذا كانت المصالح الفلسطينية العليا تفرض التعامل مع أصحاب مبادرات السلام باعتبارهم مجتهدون هدفهم خدمة القضية الوطنية، فالنضال من أجل تحقيق السلام العادل والشامل واجب ثابت دائم على كل من يؤمن به. وكسب المعركة العادلة التي يخوضها أنصار المبادرتين وتحويل موقفهم إلى مكون أساسي في معادلة الحل يتطلب توحد جهود قوى السلام وأنصاره في الساحة الفلسطينية وحشد الطاقات في إطار ائتلاف من اجل السلام يتسع لجميع القوى والأحزاب الوطنية والديمقراطية والمنظمات غير الحكومية.
ويعرف أنصار السلام أن مواجهة المصاعب الكثيرة والكبيرة التي تواجههم يتطلب استجماع كل عناصر قوتهم المحلية والإقليمية والدولية، والانطلاق في عمل دؤوب وفق خطة طموحة منظمة هدفها ترسيخ المبادرة وتحويلها إلى حقائق ملموسة على الأرض، ومنع أعداء السلام من دفنها في مقبرة مبادرات حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي بجانب مبادرة كلينتون وميتشيل وتنيت وزيني.
والتدقيق في المبادرات والمواقف الفلسطينية المؤيدة للسلام بدء من إعلان الاستقلال ومبادرة المجلس الوطني في تشرين الثاني “نوفمبر” 1988، مرورا بأطروحات المفاوضون الفلسطينيون في كامب ديفيد وطابا، وانتهاء بمبادرة جنيف ومبادرة ايلون ـ نسيبة، يؤكد أن لا مبرر سياسي أو أيدلوجي أو تنظيمي لاستمرار تبعثر وتشتت قوى السلام. خاصة وأن مبادراتهم ورؤاهم غير متناقضة وليست متعارضة وتكمل بعضها البعض، وتبايناتها المعروفة تعكس ظاهرة صحية لا يحق لأحد قمعها. والكل يعرف أن جميع المبادرات المتداولة خاضعة للزيادة والنقصان عندما تطرح على طاولة المفاوضات الرسمية لاسيما أنها تعبر عن مواقف وآراء قوى وشخصيات لا تزال خارج مواقع صناعة القرار.
وبديهي القول أن باب الانخراط في “ائتلاف السلام الفلسطيني” المنشود يجب أن يظل مفتوحا أمام جميع الشخصيات والقوى الوطنية والاتحادات الشعبية والنقابات المهنية المؤمنة بالسلام والمؤيدة للمفاوضات كوسيلة لتحقيقه. والانتساب له يجب أن لا يلزم أحدا بالتخلي عن مبادرته وقناعته الخاصة، وان لا يشترط الموافقة على نص وثيقة محددة من الألف إلى الياء. بل يلزم جميع المنتمين للائتلاف بالتساند والتعاضد وفق القواسم المشتركة التي يتفق عليها الجميع والانخراط في فعاليات ونشاطات جماهيرية مشتركة. وتأجيل البت بالخلافات حول تفاصيل المبادرات لحين النجاح في إحداث تغيير يسمح بالبحث في تنفيذها وتجنب الدخول في مناكفات وصراعات تلحق الضرر بالجميع. وإذا كان دعاة السلام في الجانب الفلسطيني نجحوا في التوصل إلى صيغة توافق مع دعاة سلام إسرائيليين فان من حق الناس في الضفة وقطاع غزة دعوة أنصار السلام الفلسطينيين للوحدة ولا يستوعبون التلكؤ الحاصل في الانطلاق نحو تشكيل “ائتلاف قوى السلام الفلسطيني الموحد”. وقديما قالوا في الاتحاد قوة وفي التفرق ضعف. والآن يمكن، بل يجب، القول يا دعاة السلام في الساحة الفلسطينية اتحدوا وتحرروا من المواقف السابقة ومن الحساسيات والنزعات الفصائلية والشخصية.