الأمن السلام في الشرق الأوسط توأمان لا ينفصلان/ حلقة أولى
بقلم ممدوح نوفل في 13/04/2004
أكدت تجربة شعوب المنطقة أن السلام الفلسطيني العربي ـ الإسرائيلي والأمن في المنطقة توأمان لا ينفصلان، وتدهور حال الأول يعني تدهور حال الثاني فورا وعكس ذلك صحيح أيضا. وإذا كان أمن الإقليم واقعا الآن تحت تأثير: أحداث 11 سبتمبر “أيلول” 2001 في واشنطن ونيويورك، والحرب على الإرهاب، وتعاظم قوة المتطرفين إسرائيليين وفلسطينيين، وتطورات الوضع في العراق وتأثيره على استقرار الدول المجاورة لهذا البلد المنكوب..الخ فهذه القضايا ليست معزولة عن النزاع العربي الإسرائيلي وتفاعلاته.
وتجربة القرن الماضي تؤكد أن هذا النزاع ظل عاملا حاسما في اضطراب أمن إقليم الشرق الأوسط وتسبب في خمس حروب عربية إسرائيلية كبيرة 1948و 1956و1967 و1973 و1982، قتل فيها عشرات الألوف، وتعطلت خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وظل ستارا لسيادة الديكتاتورية وتعطيل الحياة الديمقراطية في عديد الدول العربية. وإذا كانت قراءة حال أمن الإقليم تبين أن تدهور الأمن فيه نتيجة حتمية لانهيار عملية السلام، فتجربة العقد الأخير تؤكد أن عكس ذلك صحيح أيضا، وأن لا أمن ولا استقرار ولا ديمقراطية في المنطقة إذا لم يتم تسوية هذا النزاع، وظلت أوضاع مدينة القدس المقدسة عند أصحاب الديانات السماوية الثلاث مضطربة.
بعد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 واتفاقي “أوسلو” والاعتراف المتبادل عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل وما تلا ذلك من اتفاقات على المسارين الفلسطيني والأردني ومفاوضات على المسار السوري، انتعش أمل أنصار السلام بحل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي والسوري ـ الإسرائيلي بالطرق السلمية. واعتقد البحاثة والمحللون الاستراتيجيون أن تجربة الصراع المسلح المريرة علمت الفلسطينيين والإسرائيليين دروسا قيمة في أهمية السلام. وتأمل الجميع أن تؤدي الاتفاقات وما تلاها من تطورات إلى تحقيق انفرج أمني واسع في الإقليم بعد الانفراج الجزئي الذي أحدثته اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979.
لاحقا، بينت وقائع الصراع خطأ هذا الاستخلاص وأكدت أن خيار العودة لميدان العمل العسكري ظل كامنا في ذهن فئات واسعة في المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي. وبيّن فشل قمة كامب ديفيد الثلاثية التي جمعت باراك وكلينتون وعرفات في تموز “يوليو” 2000، وفشل محادثات الفلسطينيين والإسرائيليين في طابا أواخر كانون الثاني “يناير” 2001، وانفجار “الانتفاضة المسلحة” أواخر أيلول “سبتمبر” 2000 وسقوط أكثر من ثلاثة آلاف شهيد فلسطيني وتسعماية إسرائيلي وآلاف الجرحى من الطرفين حتى الآن..الخ أن أكثر من عشر سنوات من المفاوضات والاتفاقات الفلسطينية الإسرائيلية فشلت فشلا ذريعا في المحافظة على السلام كخيار وحيد لمعالجة هذا النزاع المزمن، ولم ترسي مبادئ ثابتة لعلاقة سلمية نامية ومتطورة. وان الجهود الأمريكية والدولية والإقليمية الهائلة التي بذلت لم تنجح في بناء سياج يحمي الاتفاقات ويصون علاقات السلام بين الطرفين. وظل في الجانبين من لم يستوعب دروس التجربة وما زال يعتقد أن بإمكانه توفير الأمن ببناء الجدران والأسياج العازلة، ويمكنه حسم النزاع بالقوة وفرض موقفه على الطرف الآخر بالإكراه.
وبعد انهيار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية وفوز شارون بالحكم في شباط 2001، تلقت عملية السلام ضربة قاسمة والتحق المسار الفلسطيني بالمسار السوري الذي سبقه إلى براد مجمدات الشرق الأوسط. وتعمقت الشكوك الفلسطينية والعربية بنزاهة الراعي الأمريكي، وتعطل التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية وتصاعدت أعمال القتل والقتل المضاد، وتعكرت أجواء أمن الإقليم.
واهتز الرأي العام العالمي لمناظر القتل والحصار ونسف البيوت وتدمير الأشجار. وانتصر العرب لأشقائهم واستعادت القضية الفلسطينية عمقها العربي وتدهور الأمن في المنطقة. وظهر المجتمع الإسرائيلي أمام الفلسطينيين والعرب انه غير ناضج لعلاقة سلام متوازنة وأغلبيته غير مهيأة لمصالحة تاريخية ولم تقتنع بان في السلام منافع استراتيجية تفوق المنافع المؤقتة والمحدودة التي تجنيها إسرائيل من استعمار شعب آخر واحتلال أرضه.
ومع تصاعد الانتفاضة وارتفاع عدد الشهداء ارتفعت أصوات فلسطينية وعربية دعت إلى تعزيز العمل العسكري والإقتداء بنهج حزب الله اللبناني الذي أثبت نجاحه في استرداد الحقوق وطرد الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان. وفي مرحلة الانتفاضة المسلحة وجدت المعارضة الفلسطينية فرصتها وجددت هجومها ضد السلام وضد اتفاق أوسلو وضد الراعي الأمريكي. وعملت حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهتين الشعبية والديمقراطية وكتائب شهداء الأقصى الفتحاوية على تصعيد العمل العسكري ضد الجيش والمستوطنين وضد المدنيين الإسرائيليين في المدن الإسرائيلية. وتطالب باعتماد “الجهاد” وسيلة وحيدة للتحرير وكنس الاحتلال، وتثمن تشدد عرفات وصموده في وجه الضغوط الأمريكية والابتزاز الإسرائيلي.. ولم يدافع أبو عمار عن عملية السلام وزود المعارضة بما يدعم حججها، وظل يردد بأن لا أفق لحل سلمي مقبول في عهد شارون.
بالإجمال، تعززت في زمن الانتفاضة وزمن شارون الأفكار المتطرفة على حساب الاتجاهات الواقعية واضطرب أمن الإقليم. وتراجعت علاقة إسرائيل بعدد من الدول الإسلامية وتدهورت خطوات التطبيع السياسي والاقتصادي بعديد الدول العربية. ورويدا رويدا تغيرت قواعد اللعبة السياسية والأمنية، وداست الدبابات الإسرائيلية اتفاق أوسلو في شوارع المدن التي احتلتها ودفنت التنسيق الأمني تحت مراكز أجهزة الأمن الفلسطينية التي دمرتها، وتصدع أمن الإقليم. وبديهي القول أن استمرار شارون في سياسته المعادية للسلام والتنكيل بالفلسطينيين وسرقة أراضيهم وتنفيذ إجراءات أحادية الجانب يدفع بالعلاقات العربية الإسرائيلية وخاصة الأردنية المصرية إلى التدهور والتعقيد.
لا شك في إن جمود عملية السلام على مساراتها الثلاث، وما تراكم من أحقاد في عهد شارون أدخل العلاقات الفلسطينية والعربية ـ الإسرائيلية في مرحلة جديدة لا تزال في طور التشكل والتكوين. وفتح باب الصراع على احتمالات عدة جميعها ليس في صالح استقرار أمن الإقليم وتحقيق السلام. وتؤكد التجربة التاريخية أن انتقال الشعوب من مرحلة إلى أخرى يمر عادة بفترة انتقالية يتخللها تجاذب بين الماضي ومكوناته وبين الجديد القادم بمقومات قوية ومكونات نشيطة. وتؤكد ملامح المرحلة الجديدة السياسية والأمنية حقائق مؤلمة منها:
1ـ إن “خريطة الطريق” التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية لترجمة “رؤية” بوش لحل النزاع وقيام دولة فلسطينية بجانب إسرائيل، طويت والتحقت بخطط تنيت وميتشيل وبالأفكار الأخرى التي استهلكها الطرفان ولا أفق لانبعاثها من جديد قبل الانتخابات الأمريكية أواخر العام الجاري. ومبالغة شارون في الحديث عن تمسكه بهذه الخريطة نعي لها ظهر في تحفظاته ال 14 التي وضعها عليها، وفي خطة الانفصال والانسحاب من قطاع غزة من جانب واحد التي ناقشها مؤخرا في البيت الأبيض ونال مباركته عليها. وتأكيد أركان إدارة الرئيس بوش على أن الخريطة لا تزال موجودة ومصممون على تنفيذها يلغيه صمتهم على بناء جدار الفصل العنصري في عمق الأراضي الفلسطينية وشروع بعضهم في الترويج لخطة شارون.
ويخطئ من يعتقد أن إصدار المحكمة الدولية في الأيام القادمة قرارا واضحا وصريحا ضد الجدار كاف لوقف استكمال بناءه وإزالة ما بني في عمق الأراضي الفلسطينية. فالحماية السياسية الأمريكية لإسرائيل أقوى من جميع قرارات الشرعية الدولية، ورفض إسرائيل سلفا تنفيذ قرارات المحكمة الدولية يؤكد أنها مصممة بالاستناد للدعم الأمريكي، على تحدي المحكمة وتحدي الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
2ـ إن تدهور عملية السلام لم يتوقف عند فشل خريطة الطريق وطال الانهيار أسس العملية برمتها. والواضح أن هذه العملية وصلت إلى نهاية الطريق ولا أفق لإحيائها طالما ظل اليمين يمسك بالحكم في إسرائيل. ولا أفق لإنعاشها أو ميلاد عملية بديلة في عهد شارون، وطالما ظلت إدارة بوش تتبنى مواقف الليكود وترفض التعامل براجماتيا مع القيادة الفلسطينية المنتخبة وتتخذ موقف أيدلوجيا من عرفات. وتعتبر بناء السياج الأمني في عمق الأراضي الفلسطينية وقتل المدنيين ونسف بيوتهم جزءا من الحرب على الإرهاب. ويبدو أن فترة بقاء القوى الإسرائيلية المتطرفة في الحكم طويلة واستطلاعات الرأي العام تؤكد أنها لا تزال تحظى بدعم الأغلبية، وتطور الفكر السياسي في المجتمع الإسرائيلي لم يصل مستوى المصالحة الحقيقية. ويتصرف قادة الأذرع الأمنية الإسرائيلية أن عهد الاعتماد على أجهزة الأمن الفلسطينية في ضبط الأمن وفقا للمفهوم الإسرائيلي قد انتهى. ونظرائهم الفلسطينيون يدركون أن عهد تعامل الجيش الإسرائيلي معهم كقادة قوات صديقة قد ولى. وبصرف النظر عن موقف أركان المؤسستين الأمنية والسياسية في إسرائيل إزاء القيادة الفلسطينية وأجهزتها، فلم يعد بالإمكان الحديث عن تعاون وتنسيق أمني بصيغته القديمة بعد سقوط قتلى في الطرفين وسقوط أسس الترتيبات الأمنية التي اعتمدت سابقا. ناهيك عن فقدان السلطة الفلسطينية الأدوات اللازمة لتفكيك قوى الإرهاب بعدما دمر شارون أجهزتها الأمنية.
3ـ يسجل للمعارضة الإسلامية ممثلة بحماس والجهاد الإسلامي أنها نجحت في مرحلة “الانتفاضة” في استدراج قوى م ت ف إلى ملعبها وفرضت مواقفها العدمية على الشارع الفلسطيني. وجرى تسابق بين الاتجاه الديني وتنظيم فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية في “عسكرة الانتفاضة وتنفيذ العمليات الانتحارية ضد المدنيين. ونسيت هذه القوى أن العمل العسكري هو ميدان شارون المفضل، وأصوات المتفجرات وصور الضحايا في الباصات والمطاعم تدفع الجمهور الإسرائيلي إلى أحضان شارون واليمين المتطرف بحثا عن الأمن والأمان.
ومع تحول العمليات الانتحارية إلى ظاهرة تبخر فكر السلام في الشارع الإسرائيلي وصدّق أغلبيته أقوال شارون التي التقطها من باراك بان الفلسطينيين يريدون إغراق إسرائيل بملايين اللاجئين. وسهلت العمليات الانتحارية على شارون الشروع في بناء جدار الفصل العنصري وتدمير المؤسسات الفلسطينية التي بنيت في عهد السلام. ويسعى لقضم نصف مساحة الضفة الغربية وضمها إلى إسرائيل ولم يتحرك أحد لردعه عن أعماله المدمرة للسلام .