هل ينجح الفلسطينيون في استثمار قرار محكمة العدل الدولية؟
بقلم ممدوح نوفل في 13/07/2004
بعد دراسة عميقة استمرت خمسة شهور، أصدرت محكمة العدل الدولية يوم 9 تموز (يوليو) موقفاً انصفت فيه الفلسطينيين حول مسألة «جدار الفصل» الذي شرعت حكومة شارون في بنائه قبل عامين في عمق الضفة الغربية ومحيط مدينة القدس. وقبلت المحكمة موقفهم وزادت في توضيحه، واعتبرت عملية البناء غير شرعية ومخالفة للقانون الدولي. ورفضت تجاوز الجدار حدود اسرائيل عام 1967 المتعارف عليها دولياً لأنه أثر سلباً في حياة السكان والحق اضراراً بمصالحهم. ورفضت مبررات اسرائيل وقالت: «إن خرق القانون الدولي الذي تنفذه اسرائيل عن طريق بناء السور لا يمكن تبريره عن طريق طرح أسباب أمنية». ودعت المحكمة الهيئات الدولية الى اتخاذ الاجراءات اللازمة لوقف عملية البناء وتفكيك ما تم بناؤه وتعويض المتضررين. وأكدت أيضاً عدم شرعية المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وكانت حكومة شارون استبقت قرار المحكمة وتحركت في اتجاهين بأمل التشويش على مداولاتها والتأثير في قرارها: حاولت حرف أنظار العالم عن الجدار ونتائجه المدمرة، وأشغلت المعنيين بحل النزاع وضمنهم بعض العرب بقصة الفصل من جانب واحد، وضخمت خطة شارون اخلاء المستوطنات والانسحاب من قطاع غزة وصورتها وكأنها خطوة استراتيجية على طريق السلام ولا شيء يعترض تنفيذها. وأوعزت لمحكمة العدل العليا الاسرائيلية استباق موقف المحكمة الدولية بقرار يذّكر للعالم بأن اسرائيل دولة ديموقراطية في كل زمان وحتى في العلاقة مع الفلسطينيين الخاضعين لاحتلالها. وقدم وزراء شارون قرار المحكمة الاسرائيلية بتعديل مسار 30 كليومتراً من الجدار شاهداً على استقلالية القضاء ونزاهته وقدرته على معالجة مشكلات الفلسطينيين التي يتسبب بها الجدار من دون تمييز كما تعالج مشكلة المستوطنين التي تسبب بها قرار الانسحاب واخلاء المستوطنات.
وفي الاتجاه الآخر، ارسلت حكومة شارون وزير الخارجية سيلفان شالوم الى واشنطن للتداول مع اركان الادارة الاميركية في سبل تفعيل «التعهدات» التي قدمها بوش لشارون في 14 نيسان (ابريل) الماضي، في حماية مصالح اسرائيل والتأثير في قرار محكمة العدل الدولية وشل تفاعلاته اللاحقة والحد من سلبياته وتعطيل استثماره فلسطينياً وعربياً في مجلس الامن والمحافل الدولية الاخرى.
فهل تحترم ادارة بوش وجهة نظر المحكمة الدولية، أم تواصل سياسة الاستهتار بالمبادئ وحقوق الانسان وبالمؤسسات الدولية وبالعرب، شعوباً وحكومات، وتستخدم الفيتو في مجلس الامن في حال تبنى موقف المحكمة؟ هل توقف الحكومة الاسرائيلية البناء في الجدار وتغيّر مسار ما بنته، ام ان الدعم الاميركي وضعف العرب، وانشغال زعماء حزب العمل في توفير شبكة أمان لحكومة شارون وتشكيل حكومة وحدة وطنية… الخ يشجع شارون واركانه على الاستخفاف بقرار محكمة العدل الدولية؟ وهل ينفذ شارون خطة سحب الجيش واخلاء قطاع غزة من المستوطنين أم ان عقبات كبيرة تعترض طريقه؟
اعتقد بأن تجربة الفلسطينيين الطويلة مع مواقف قادة اسرائيل من القرارات الدولية، ورد الفعل الاولي لرئيس الدولة ورئيس الوزراء واركانه على القرار، يؤكدان أن القيادة الاسرائيلية ماضية في تنفيذ سياستها العنصرية المتطرفة ضد الفلسطينيين والتوسع في مصادرة اراضيهم وتهجيرهم وتسريع بناء الجدار.
وفي شأن سحب الجيش الاسرائيلي واخلاء مستوطنات غزة قبل نهاية عام 2005، فالفلسطينون، سلطة ومعارضة وشعباً، مقتنعون بانها قصة طويلة «مشبوهة» قد لا ترى النور وقد لا يستطيع صاحبها الاستمرار فيها حتى النهاية، هذا إذا كان في الاصل صادقاً في طرحها.
وشارون يعرف ان تنفيذ خطته في آذار (مارس) المقبل، بحسب وعده، رهن بثلاث مسائل لا يتحكم هو في اي منها: فوز بوش في الانتخابات وبقاء اركانه انصار اسرائيل في البيت الابيض. والثانية ان يبدل نتانياهو و«جماعته» موقفهم من خطته وتوفير غالبية ليكودية تتبناها. والثالثة ضمان سيطرة أجهزة الأمن الفلسطينية التي دمرها شارون، على الوضع ومنع انصار «الانتفاضة المسلحة» من قصف اسرائيل بقذائف الهاون وصواريخ «القسام». والجميع يعرف ان هذا الشرط أشبه بمعجزة مستحيلة التحقيق طالما ظل شارون متمسكاً بعمل احادي الجانب ويرفض التنسيق مع السلطة الفلسطينية أو الاستعانة بطرف ثالث، ويواصل اذلال القيادة الفلسطينية ويفرض الاقامة الجبرية على عرفات في مبنى المقاطعة في رام الله.
إلى ذلك، لم ينس الفلسطينيون مواقف شارون عندما كان وزيراً للخارجية في عهد نتانياهو وكيف قاد معركة اطاحت بحكومته عندما وقع مع عرفات اتفاق «واي ريفر» في البيت الابيض في 24 تشرين (اكتوبر) 1998 ووافق على الانسحاب من معظم احياء مدينة الخليل. في حينه تزعم شارون المعارضة داخل الائتلاف اليميني الحاكم وحرض المتطرفين متدينين وعلمانيين ضد الاتفاق وصاحبه. وكان رأيه أن «المعركة النهائية مع الفلسطينيين فتحت على مصراعيها وحان وقت حسمها بالافعال ومصادرة الاراضي والاستيطان والاكثار من الطرق الالتفافية». وقال جملته الشهيرة: «الارض التي يتم السيطرة عليها حتى موعد الاتفاق النهائي مع الفلسطينيين ستكون لإسرائيل. وما لا يؤخذ في هذه الفترة يذهب لهم». ودعا المستوطنين والاسرائيليين المؤمنين بـ«الميعاد» إلى صعود الجبال في الضفة والسيطرة عليها واقامة الممكن من المستوطنات. ولم يخب المستوطنون أمله واقاموا اكثر من 100 موقع استيطاني اعتبرت كلها، دولياً وأميركياً، بؤراً غير شرعية، وكثيراً ما طالبت ادارة بوش والامم المتحدة واللجنة الرباعية الدولية شارون باخلائها ولكن لا حياة لمن تنادي.
ويلاحظ الفلسطينيون والمراقبون أن نتانياهو لم ينس، ولم يغفر لشارون دوره في اسقاط حكومته واطاحته من رئاسة حزب ليكود. ويجد نتانياهو في مأزق غريمه فرصة لرد الصاع صاعين ويطمح الى العودة لتزعم حزب ليكود والترشح لرئاسة الوزراء. ويحرض نتانياهو متطرفي «ليكود» و«المفدال» و«الاتحاد القومي» على رفض الخطة، ويتهم بعضهم شارون بالردة والتخاذل امام الارهاب والانقلاب على العقيدة، وهي التهم ذاتها التي وجهها انصار شارون لنتانياهو عندما كان رئيسا للوزراء.
وبصرف النظر عن البر الذي سترسو عليه الصراعات داخل الحلبة الحزبية في اسرائيل، فالواضح ان شارون وأركانه لن يلتزموا، استناداً للدعم الاميركي، أي قرار يتعارض مع مصالح اسرائيل من منظور يميني متطرف حتى إذا صدر عن مجلس الامن. وسيتحدون المحكمة وما تمثله دولياً ويواصلون تنفيذ قناعتهم وسياساتهم العنصرية ضد الفلسطينيين والتوسع في مصادرة اراضيهم وتهجيرهم منها وتسريع أعمال البناء في الجدار. تماماً كما لم يلتزم زعماء اسرائيل قبلهم تنفيذ عشرات بل مئات القرارات الدولية المتعلقة بالنزاع العربي – الاسرائيلي. ويحرص شارون على انهاء المرحلة الثانية من الجدار مع اقفال صناديق الاقتراع في انتخابات الرئاسة الاميركية مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. ولم لا يفعل شارون ما هو اكثر ويطمح لتحقيق ما هو أكبر طالما ان وزير خارجيته عاد من واشنطن وطمأنه إلى ان الفيتو الاميركي يقف بالمرصاد لمن يحاول المس باسرائيل ولاي قرار سلبي يصدر عن مجلس الامن يتعلق بالجدار.
ويسجل لشارون نجاحه بامتياز في استثمار العمليات الانتحارية وقصف «سديروت» بالصواريخ والهاونات في تعبئة الشارع الاسرائيلي ضد أي دور لشريك فلسطيني، وتضليل الرأي العام العالمي واخفاء الاهداف التوسعية التي تقف خلف بناء الجدار. واذا كانت القوى الفلسطينية الداعية إلى مواصلة «الانتفاضة المسلحة» ما تزال قادرة على اختراق الجدار والمعوقات الأخرى وتنفيذ عمليات «انتحارية»، فإن تراجع هذا النمط من العمليات في الشهور الاخيرة عزز حجة شارون داخلياً وخارجياً. وحتى لا يخطئ البعض في تفسير الموقف فإنني أرى الرد على تبجح اركان الجيش وشارون وشمعون بيريز وكساف في شأن دور الجدار في الحد من العمليات يتم من خلال خطوة جريئة توقف العمليات وتسحب الذريعة وليس العكس.
إلى ذلك، يستخدم شارون الانتخابات الاميركية المعارضة الاسرائيلية في ابتزاز بوش والتهرب من تنفيذ «خريطة الطريق». ويسعى بكل السبل لتجميد الحركة المصرية التي يقودها الوزير عمر سليمان، وشل عمل اللجنة الرباعية الدولية. وحديث شارون في الكنيست عن بقاء عرفات اربعين سنة محبوساً، وتهديده بقصف المدن الفلسطينية ردا على صواريخ «القسام»… الخ هدفها افشال «المبادرة» المصرية واستفزاز عرفات واستدراج الفلسطينيين إلى ملعبه العسكري المفضل. وتوسيع الجيش الاسرائيلي اعماله ضد الفلسطينيين وإعلانه احتلال بيت حانون وشمال مدينة غزة إلى إشعار آخر رداً على قصف صواريخ «القسام»، كل ذلك يذكر الفلسطينيين باحتلال اسرائيل جنوب لبنان رداً على قصف مدن وقرى شمال اسرائيل بالصواريخ.
وإذا كان لا أفق في الشهور المقبلة للتوصل الى اتفاق لتنفيذ خطة شارون، وصاحبها يرفض البحث فيها مع الفلسطينيين، فالمصالح العليا للشعب الفلسطيني تفرض التحرك في اتجاهين رئيسيين: وقف الاعمال التي من شأنها تعطيل استثمار قرار المحكمة دولياً وداخل اسرائيل. وأظن أن اعلان المقاومة من جانب واحد وقف العمليات «الانتحارية» ضد الاسرائيليين داخل اسرائيل ووقف قصف اسرائيل بالهاونات يقلص الخسائر الفلسطينية ويربك الموقف الأميركي – الاسرائيلي في مجلس الأمن. والاتجاه الآخر يتمثل في التمسك بالحقوق المشروعة وبخيار السلام طريقاً لتحقيقها، وتحصين الوضع الفلسطيني وتنفيذ الاصلاحات الداخلية الضرورية، ومتابعة النضال من اجل اجراء الانتخابات التشريعية والمحلية والنقابية، والاندفاع في احداث تغير جوهري في هياكل أجهزة الامن باعتبارها حاجة فلسطينية قبل أي شيء آخر.
فهل ينجح الفلسطينيون في استثمار قرار المحكمة أم أن أنصار العمليات «الانتحارية» سيفرضون موقفهم على الجميع ويدمرون الفرصة ويربكون الحركة العربية الدولية المؤازرة للنضال الفلسطيني العادل والمشروع؟ سؤال برسم الجواب والتاريخ لا يرحم.