جميع القوى الفلسطينية مطالبة بوقفة حساب مع النفس
بقلم ممدوح نوفل في 23/09/2004
قبل تعليق اجتماعاته ووقف أعماله مدة شهر..! استمع المجلس التشريعي الفلسطيني في جلسة خاصة الى تقرير “لجنة متابعة الاصلاح”. وكل من يطالع هذا التقرير يسجل للجنة انها تصرفت كالطبيب الماهر الذي يجيد تشخيص المرض ويعرف اولويات العلاج ويركز جهده اولا على وقف النزيف القاتل قبل معالجة الصداع المزمن. وأجادت تحديد مكونات أزمة مؤسسات النظام السياسي الرسمي، التشريعية والتنفيذية، وقدمت وصفة “علاج” صحيحة، وحددت سبل الخروج السلطتين التنفيذية والتشريعية من المأزق وصولا الى تحقيق الاصلاح المنشود. لكن اللجنة، للأسف الشديد، لم تقاتل دفاعا عن قناعتها كما دونت في التقرير، لا داخل المجلس ولا خارجه. وبدل الاندفاع والتقدم خطوة للامام تراجعت للخلف وانساقت مع اغلبية أعضاء المجلس وانضمت “للاضراب”، طبعا بعد شتم ظلام الحكومة وظلم الرئاسة..
وفي سياق وصف وتشخيص الحال، أشار تقرير اللجنة إلى ان الحديث عن الاصلاح و”تصويب أوضاعنا في مختلف المجالات وترتيب البيت الفلسطيني شعار يتردد مع وقف التنفيذ”. ولم توضح اللجنة لجمهور الناخبين طبيعة المعوقات وسبل إزالتها من الطريق. وعن الفلتان الأمني قال التقرير بأنه “يكاد ان يضع التجربة الفلسطينية على حافة الانهيار”، واعتبر “محاولة اغتيال الأخ نبيل عمرو عضو المجلس التشريعي الآثمة مؤشر واضح في هذا الاتجاه”. وطالب التقرير أعضاء المجلس التشريعي بالاسراع في اعداد واقرار المشروع الذي ينظم عمل اجهزة الامن . وأكد “تمسك أعضاء اللجنة بالمقترحات المقدمة وطالبوا باجراءات أمنية تنفيذية ملموسة على الارض”. وأكدت لجنة الاصلاح “أهمية متابعة معالجة معاناة مواطنينا” في مختلف مجالات حياتهم، وطالبت “اصدار القوانين ومتابعة الملفات مع الجهات المعنية”. ودعت الى اعادة تشكيل الحكومة، وتحريك جميع ملفات الفساد. وختمت اللجنة تقريرها بالقول؛ “في النهاية اننا ندعو الجميع لوقفة حساب مع النفس لنعيد ترتيب البيت خصوصا في هذه الايام الصعبة”. وكأن اصلاح البيت الفلسطيني ومحاربة الفساد يتم بالمناشدات الاخلاقية.
وتوقع المراقبون ان يكون تقرير اللجنة منطلقا لمزيد من الحركة والنشاط لاعضاء المجلس التشريعي وهيئة رئاسته داخل أروقة المجلس وخارجها مع مؤسسة الرئاسة ومجلس الوزراء ومع القوى الوطنية والاسلامية. وتوقع وطنيون وديمقراطيون فلسطينيون ان ينزل اعضاء المجلس التشريعي الى الشارع كل في منطقته ويحركوا جمهور الناخبين لدعم توجهات الاصلاح التي يؤمنون بها، خاصة وان باب التسجيل لانتخابات، تشريعية ورئاسية ومحلية، جديدة فتح على مصراعية في جميع المحافظات.
لكن المفاجئة كانت كبيرة ومذهلة، على الاقل بالنسبة لي، عندما ترجم أعضاء المجلس التشريعي دعوة حساب النفس “بالإضراب” عن العمل مدة شهر، وعندما طلب بعض الاعضاء ان يكون الاضراب شهرين. وكأن اوضاع البلد الأمنية والقانونية على ما يرام، ولا قيمة للزمن الفلسطيني حتى عند أعلى هيئاتهم التشريعية. وسألت نفسي مع آخرين ضد من يضرب أعضاء المجلس التشريعي؟ ويعاقبون من بهذا الإضراب ؟ وماذا يبقى للنقابات العمالية والاتحادات الشعبية عندما يلجأ المجلس التشريعي للاضراب؟ ولماذا لم يحجب المجلس الثقة عن الحكومة اذا كانت هي العلة والسبب ؟ ولماذا لم يستقيل أعضاء المجلس كما فعل الدكتور حيدر عبد الشافي عندما حاول وفشل في المحافظة على الامانة وعجز عن ممارسة قناعاته كما قال؟ ولماذا اقتصر الاضراب على تجميد مهام المجلس في حقل التشريع والاصلاح ولم يشمل السفر في مهمات خارجية وضمنها توطيد علاقات المجلس بالبرلمان السوري مثلا ؟
وبصرف النظر عن الدوافع والاسباب المعلنة وغير المعلنة التي دفعت المجلس لاتخاذ هذا القرار الهروبي المسيء لتجربة الحياة البرلمانية الفلسطينية ولرصيد المجلس على المستويين الداخلي والخارجي، فإني أعتقد أن خطوة المجلس واحدة من مظاهر أزمة الديمقراطية في الساحة الفلسطينية، وجزء من أزمة النظام السياسي الفلسطيني الفكرية والسياسية والتنظيمية، سلطة ومعارضة. وتعبر بدقة عن عمق الأزمة التنظيمية التي يعيشها الحزب الحاكم “فتح”. ويؤشر إلى أن تعطل اجراء الانتخابات التشريعية قرابة خمس سنوات بعد انتهاء مدة ولاية المجلس عام 1999، تسبب في أصابة المجلس بامراض تنظيمية وفكرية خطيرة. ويبدو أن قناعة اعضاء المجلس بانسداد افق إجراء انتخابات تشريعية جديدة في وقت قريب يشجع البعض على عدم الاكتراث والاستهتار برأي الناخبين والتقاعس عن الواجب.
لقد شكى تقرير اللجنة مواقف البعض دون تحديد وقال إن “ادارة الظهر والسخرية من مفهوم الاصلاح اوصلنا للوضع الذي نراه اليوم حيث فقدان الاتجاه وغياب الرؤيا والانحراف عن الطريق الذي يمكننا المراكمة عبره حتى الوصول لذروة حلم الشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال”. ومن حق المواطن ان يقول إن “اضراب” البرلمان وتقاعسه عن النهوض بمسئولياته الوطنية، هو انعكاس لتغليب المصالح الحزبية والشخصية على المصلحة العامة، وإدارة ظهر للأمانة الشعبية، واستهتار وسخرية برأي المواطن وتطلعه إلى المحاسبة والإصلاح. واذا كان المطلوب حزبيا، خلف الكواليس، منح رئيس السلطة ورئيس الحكومة ورئيس المجلس التشريعي فرصة تسوية التباين الصحي والمشروع بشأن الخلافات وضمنها مٍسألة الصلاحيات، وتوحيد الرؤيا بشأن التوجهات الوطنية والبحث الجدي في تنفيذ الاصلاحات المطلوبة، فهذا امر مشروع ويمكن مصارحة الجمهور به. وكان يمكن اقراره بطريقة لا تسيء للمجلس، وتظهر حرصه على وضع المصالح الوطنية العليا فوق أي اعتبار آخر.
وفي جميع الحالات يبقى المجلس شريك في المسئولية مثل سواه ان لم يكن اكثر عن “بقاء الاصلاح شعار يتردد مع وقف التنفيذ”، وعن عدم صدور القوانين بالسرعة والمطلوبة. وإذا كان حصاد العشر سنوات من عمر السلطة مر مثل العلقم، كما جاء في التقرير، فالمجلس ليس بريء من المسئولية عن الحصاد الوطني، حلوه ومره. ولعل يفيد تذكير أعضاء المجلس أن الناس في الضفة والقطاع استبشروا خيرا عندما انتخبوهم عام 1996. وتم اختيارهم ليعبروا عن رأيهم وليس للمجاملة على حساب المصلحة العامة. ويومها راهن كثيرون على المجلس كأعلى سلطة تشريعية في توفير مقومات تحوّل السلطة الوطنية من سلطة حكم ذاتي انتقالي إلى دولة يسودها حكم القانون. وان يتحمل المجلس مسئوليته الوطنية في مأسسة العلاقة داخل المجتمع الفلسطيني، وتنظيم العلاقة بين قواه الوطنية وبين السلطة والمجتمع على أسس ديمقراطية.
صدقا حاولت أن اتفهم الظروف المحيطة بحياة المجلس وعمله، وأن اجد تفسيرا او تبريرا منطقيا لموقفه الغريب عن الاعراف والتقاليد البرلمانية. واعترف بأني عجزت ولم يسعفني بيان المجلس في هذا الخصوص، ولم أسمع من حركة “فتح” حزب الاغلبية في المجلس ومن القوى الديمقراطية ما يزيل اللبس. وإذا كان لا مجال في هذا المقال للاجابة على جميع الاسئلة فموقف المجلس التشريعي هروب من واجب العمل على تصحيح العلاقة مع مؤسستي الرئاسة ومجلس الوزراء، وتنظيمها على اسس برلمانية ديمقراطية متحررة من العلاقات العشائرية والجهوية الفصائلية القاتلة للمبادرات الخلاقة.
قد يتفهم الناس استقالة المجلس او استقالة بعض اعضاءه للتعجيل في إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة مثلا، أو احتجاجا على موقف معين بعد ان يحاولوا ويفشلوا في الزام السلطة التنفيذية بقرارات وتوجهات المجلس، لكن لا أحد يتفهم اضراب أعلى سلطة تشريعية عن العمل في ظرف شديد الخطورة ؟ وهل يعتقد أعضاء المجلس أنهم باستقالتهم عاقبوا أحدا غير الناخب الذي اختارهم ليكونوا مدافعين عنيدين عن تطلعاته ومصالحه؟ واذا كان المجلس التشريعي يلجأ الى الاضراب لمنع التعدي على صلاحياته فلا احد يلوم المواطن في غزة ورفح او نابلس وجنين والخليل اذا لجأ لعضلاته وقوة العائلة والعشيرة والقبيلة لتحصيل حقوقه وحماية وجوده.
بعد اعلان المجلس الاعتكاف وتعليق الاعمال، انتظر المهتمون بالديمقراطية أن يبادر الاعضاء دعاة الاصلاح والتجديد إلى عقد ندوات موسعة ومصغرة لتوضيح الصورة والاستئناس برأي الكوادر الحزبية والكتاب والمثقفين الحريصين على نجاح التجربة البرلمانية في الساحة الفلسطينية. لكني وأخرون لا نزال بالانتظار ويبدو ان تركيبة المجلس الحزبية سوف تجعل انتظارنا يطول، ولم ولن نسمع من الاغلبية “الفتحاوية” تفسيرا مقنعا لانسحاب المجلس من الميدان واعتكافه عن ممارسة واجباته الوطنية.
لا اريد ان احمل المجلس التشريعي ما يفوق طاقته، لكن اضرابه عن العمل دليل ضعف وليس دليل قوة، ويعبر عن حالة عجز ويأس وعدم ثقة بالذات. وأتمنى ان لا يحوّل انصار الاضراب بدعتهم الى تقليد في حياة المجلس وعلاقته بالسلطة التنفيذية. وخير لسمعة المجلس ومستقبل اعضاءه فك الاضراب فورا والتصدي للمعوقات ومتابعة العمل وفق الاولويات الوطنية
وفي جميع الحالات لا مفر أمام دعاة الاصلاح وانصار الديمقراطية في الساحة الفلسطينية من الغوص في أعماق أزمة الحركة الوطنية وضمنها أزمة المجلس التشريعي واستنباط الحلول لها. وبديهي القول ليس من حق المعارضة الوطنية والاسلامية التي قاطعت الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 1996 الابتهاج لتردي أداء المجلس التشريعي، فمقاطعتها أحد مكونات أزمة المجلس، وتوجهاتها السياسية والنضالية تزيد في تعميق الازمة العامة وضمنها أزمة المجلس. وأظن ان التعاطي مع مسألة إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وبلدية جديدة بواقعية ومسئولية خطوة أساسية على طريق خروج الجميع من المأزق بدءا من المجلس تشريعي مرورا بالسلطة التنفيذية وانتهاء بالمعارضة. وكل غيور على المصلحة الوطنية لا يسعه الا ان يتمنى للمجلس التوفيق والنجاح وأن يبقى أعضاؤه دائما موضع ثقة الناخبين. واتمنى ان تعترف المعارضة الفلسطينية بخطأ مقاطعة الانتخابات عام 1996 وان تشارك في انتخابات 2005 ـ اذا حصلت ـ بصرف النظر عن المظلة التي تظللها.