صورة المنطقة بعد شطب فكرة الدولة الفلسطينية
بقلم ممدوح نوفل في 15/10/2004
لم يكن الفلسطينيون والعرب ودعاة حل النزاع بالوسائل السلمية وبناء الأمن والاستقرار في المنطقة، بحاجة إلى مقابلة صحيفة يجريها المحامي البارز دوف فايسغلاس، مدير مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون ومستشاره الخاص لفترة طويلة، حتى يـتأكدوا أن هدف “خطة فك الارتباط” من جانب واحد التي طرحها شارون هو تجميد “خريطة الطريق”، وشل عمل اللجنة الرباعية الدولية، وتدمير العملية السياسية، وفرض “رؤيته” العنصرية للسلام مع الفلسطينيين والعرب. فمواقف شارون وممارساته العملية منذ فوزه في انتخابات شباط/فبراير 2001 واضحة وكافية ليدرك أنصار السلام أن الجنرال العجوز كان يعني ما قاله إبان حملته الانتخابية بِشأن العلاقة مع الفلسطينيين وتطوير الاستيطان في “أرض الآباء والأجداد” ومنع قيام “دولة للإرهاب والإرهابيين” بجانب إسرائيل”. وانه لن يزيل بؤر استيطانية واحدة في “يهودا والسامرة” يرى لها موقعا في خريطة إسرائيل الموسعة المرسومة في ذهنه.
فبعد فوز شارون برئاسة الوزراء كان واضحا أنه لن يتردد في تصفية الحساب مع اتفاق أوسلو ويشطب ما ترجم منه على الأرض، وأنه سوف يبذل جهدا كبيرا لتدمير الأسس التي بنيت عليها عملية السلام، ويقطع طريق المفاوضات حول قضايا الوضع النهائي ويمنع التداول في قضايا اللاجئين والقدس والحدود.
وإذا كان حديث المحامي فايسغلاس، مندوب شارون للعلاقة مع الإدارة الأمريكية، لم يحمل مفاجأة بشأن مخططات رئيسه، فجديده هو ما كشفه بشكل فج عن تأييد إدارة بوش لتوجهات شارون ومصادقة الكونغرس الأمريكي عليها، وبيّن للعرب الحقيقة التي حاولوا تجاهلها وهي أن إدارة بوش وضعت القضية الفلسطينية تحت تصرف إسرائيل. وفضح بجرأة ما حرص أركان هذه الإدارة على بقائه غامضا حول أهداف “خريطة الطريق”، وتضليل العرب بشأن “رؤية” الرئيس بوش لقيام دولة فلسطينية بجانب إسرائيل. وقال فايسغلاس في المقابلة إن إدارة بوش وافقت على “أن نشطب من جدول أعمالنا الحل القائم على خلق دولة فلسطينية”. وتطرق إلى تفاصيل أخرى هامة في الموقف الأمريكي من الاستيطان، وقال أنه تلقى “موافقة أمريكية على بقاء عدد كبير من المستوطنات الأساسية في أماكنها وضمها لإسرائيل، وان لا يتم التعامل مع الباقي حتى يتحول الفلسطينيون إلى فنلنديين”. ولا أدري هل يقصد أن فنلندا كانت دولة خاضعة للهيمنة السوفيتية، أو تطوير المجتمع الفلسطيني لمستوى المجتمع الفنلندي؟
ويجد الفلسطينيون في هذا الكشف الإسرائيلي عن خفايا سياسة إدارة بوش ما يفسر استخدامها الفيتو في مجلس الأمن سبع مرات ومنع إدانة مواقف إسرائيل المخالفة للشرعية الدولية والمعادية لحقوق الإنسان. وبين مستشار شارون موقف أركان إدارة بوش السلبي من السلطة الفلسطينية على حقيقته، وأسباب “اقتناعهم” بصورة راسخة، أن هذه السلطة لا يمكن أن تكون شريكا في صنع السلام، وفسر بدقة إصرارهم على مقاطعة رئيس الحكومة أحمد قريع وإفشال حكومة أبو مازن قبله، وذلك رغم الإقرار أنهما أشد المتحمسين للسلام وأبرز أعضاء المطبخ الفلسطيني الذي شق طريق المفاوضات وأنضج اتفاق أوسلو. وبيّن أيضا الأسباب الحقيقية للموقف الأيدلوجي الأمريكي العدواني من عرفات الرئيس الفلسطيني المنتخب بطريقة ديمقراطية واتهامه بالإرهاب، وتشجيع شارون وأركانه على إذلاله وفرض الإقامة الجبرية عليه.
وفي حديث فايسغلاس أيضا ما يكشف دوافع وأبعاد صمت الإدارة الأمريكية على سياسة الاغتيالات داخل وخارج الأرض الفلسطينية، واعتبارها أعمالا إسرائيلية مشروعة تندرج في إطار الدفاع عن النفس، وصنفتها لاحقا جزءا من الحرب ضد الإرهاب. وكذلك إجازة خطة شارون-موفاز -يعالون “أيام الندم” التي استغرق تنفيذها أكثر من أسبوعين في قطاع غزة، وقتل فيها ما يزيد على 140 مواطنا ثلثهم من الأطفال، وجرح فيها أكثر من 500 نصفهم صاروا معاقين، ودمر الجيش الإسرائيلي عشرات المنازل ومئات الدونمات من البساتين والأراضي الزراعية.
أما موافقة إدارة بوش على شطب فكرة قيام دولة فلسطينية، كما قال فايسغلاس، فإنها، دون مبالغة أو تهويل، تمثل محطة نوعية فاصلة بين مرحلتين: مرحلة السلام التي بدأت من مؤتمر مدريد في مثل هذه الأيام من عام 1991 ودامت ثلاثة عشر عاما، وكانت معالمها واضحة وأهداف المشاركين والمساهمين فيها معروفة. والثانية جديدة تختلف جوهريا عن سابقتها. وإذا كانت المرحلة الجديدة ما تزال في طور التشكل والتكوين وصورتها النهائية لم تتبلور بعد، فملامحها الأولية تشير إلى أنها مرحلة مظلمة يراق فيها دماء كثيرة دون نتيجة حاسمة يحققها أي من الطرفين. وتجربة نصف قرن من الصراع أكدت أمرين مترابطين: الأول، لا أفق لانتزاع الفلسطينيين دولة من الإسرائيليين بقوة السلاح، والأمر الثاني أن القيادة الإسرائيلية، يمينية أو يسارية، لن تنجح في فرض الاستسلام على الفلسطينيين ولا يمكنها تحقيق الأمن والسلام لشعبها بالقوة.
وبسرعة مذهلة بعث حديث فايسغلاس عن شطب الدولة الفلسطينية بموافقة أمريكية أفكاراً فلسطينية قديمة متنوعة بعضها أكثر شمولية مثل الدعوة لإقامة “دولة ديمقراطية علمانية موحدة”، و”دولة ثنائية القومية” يتعايش فيها العرب واليهود دون تميز. وهاتان الفكرتان طرحتا أواخر الستينات كبديل لمقولة “تحرير فلسطين من النهر إلى البحر”. ومنها أيضا أفكار شارونية معروفة مثل حل النزاع بترانسفير قسري و”بإرادة طوعية”، والعودة للخيار الأردني كبديل للخيار الفلسطيني، وإقامة دويلة “مسخ” في غزة وتقاسم وظيفي إسرائيلي فلسطيني في ما يتبقى من الضفة خارج جدار الفصل العنصري، وضم الضفة الغربية لإسرائيل،..الخ من أفكار ومشاريع سحبت من سوق التداول منذ زمن ونسيها الناس على ضفتي النزاع، واعتبرت جزءا من التاريخ، خاصة بعد اتفاقي أوسلو والاعتراف المتبادل بين م. ت. ف. وإسرائيل عام 1993، وبعد الانتخابات التشريعية والرئاسية عام 1996، وظهور قوى جدية في إسرائيل تدعو لمساعدة الفلسطينيين في إقامة دولتهم باعتبارها، كما قال بعضهم “ضرورة لا غنى عنها لقيام سلام حقيقي والمحافظة على ديمقراطية دولة إسرائيل وبقاء هويتها اليهودية”.
وإذا كان هدف اليمين الإسرائيلي من شطب الدول الفلسطينية وتوتير أجواء المنطقة معروفاً للفلسطينيين والعرب وأنصار السلام، فإن نوايا وأهداف إدارة بوش التكتيكية والاستراتيجية من تبني شطب الدولة لا تزال غامضة، وتطرح أسئلة كثيرة حول مسائل اعتبرت مسلمات في زمن السلام وزمن ازدهار الاتفاقات التي انبثقت عنها، وزمن كامب ديفيد ومبادرة كلينتون عام 2000 ومحادثات طابا 2001. من هذه الأسئلة: هل لدى إدارة بوش خريطة جديدة للمنطقة ليس فيها مكانا لدولة فلسطينية؟ وما هو بديل الدولة الفلسطينية؟ هل لديها “رؤية” محددة لمصير قطاع غزة والضفة حيث يعيش اكثر من ثلاثة ونصف مليون إنسان؟ وهل تعتقد أن مصر والأردن يقبلان إعادة عقارب الزمن للوراء وإلحاق الضفة بالأردن وقطاع غزة بمصر كما كان الحال قبل عام 1967 ؟ وهل تعتقد أن منح الفلسطينيين حكما ذاتيا يحل النزاع؟ ثم ما هو مصير أربعة ملايين لاجئ يعيشون في الأردن وسوريا ولبنان وأنحاء المعمورة؟ وهل فكرت جيدا في نتائج أي تساهل مع سياسة الترانسفير التي يفكر بها شارون على دول المنطقة وأمنها واستقرارها؟
أسئلة كبيرة قذفها حديث فايسغلاس حول شطب فكرة الدولة الفلسطينية بموافقة أمريكية، وإذا كان بعض الأسئلة يتعذر الإجابة عليها قبل ظهور نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية، فإنها بمجملها تشير إلى أن القادم على شعوب المنطقة أعظم، خاصة إذا فاز الثنائي بوش ـ تشيني في انتخابات الرئاسة بعد قرابة ثلاث أسابيع. والنتيجة الوحيدة للصمت الأمريكي والدولي على سياسات شارون المدمرة لمكونات حل النزاع بالوسائل السلمية، هي إراقة مزيد من دماء الأبرياء في الجانبين، وتأجيج الصراع وتعزيز مواقف ومواقع القوى الإرهابية والمتطرفة في المنطقة.
صحيح انه لم يتبق من القضية الفلسطينية في المحافل الدولية والإقليمية سوى نصوص باهتة في ملفات الأمم المتحدة، وقرارات تكررها الجامعة العربية، ومسائل رمزية يتعلق بها الفلسطينيون، ومقاومة يزداد الحصار حولها يوما بعد يوم، وبقايا سلطة يتجاهلها العرب بعد أن أهملها العالم بناء على أوامر أمريكية…الخ، لكن يخطىء من يعتقد أن ذلك كله يقود إلى تخلي أكثر من ثمانية ملايين فلسطيني يقيمون في الضفة والقطاع وبلدان الشتات عن فكرة الدولة.
وفي هذا السياق لعله من المفيد تذكير أركان الإدارة الأمريكية الجديدة وكل المهتمين بصنع السلام واستقرار المنطقة أن مشاريع الحلول التي ظهرت في نصف قرن فشلت لأنها لم تتضمن دولة فلسطينية، وإن التلكؤ والتهرب من تبني قيام هذه الدولة يؤدي إلى تأجيج النزاع وتأخير حله. وليس عاقلاً من يتصور أن القيادة الفلسطينية وهيئات م.ت.ف مستعدة أو قادرة على التخلي عن فكرة الدولة. ويبدو أن لا مناص من مرور الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي في مخاض مؤلم وعسير قبل الوصول إلى دولة فلسطينية بجانب إسرائيل.
ويسجل للحكومة الإسرائيلية نجاحها بامتياز، وبمساعدة أمريكية، في تحويل السلطة الفلسطينية عنوانا لمرحلة سابقة ولاتفاقات قديمة لا يفكر أحد في إعادة تفعيلها. وأشد المتحمسين للانتفاضة المسلحة والعمليات الانتحارية لا يمكنهم التحلل من تمكين شارون من انتزاع صورة الضحية من الفلسطينيين، وجعل رئيس السلطة الفلسطينية رمزا للإرهاب. وبعض أنصار عسكرة الانتفاضة يذكرني بالمرحوم المعلق المصري الشهير أحمد سعيد الذي عمل في إذاعة صوت العرب إبان حرب 1967، وهم يتفاخرون بتطوير صواريخ “القسام” و”الياسين” ويدعون الإسرائيليين في عسقلان وأسدود للرحيل..!