ترهل أوضاع فتح والسلطة وعسكرة الانتفاضة عقبات في وجه ابومازن
بقلم ممدوح نوفل في 28/11/2004
نال الانتقال السريع والهادئ للسلطة بعد رحيل أبو عمار تقدير قوى اقليمية ودولية كثيرة، ونجحت قيادة فتح ومنظمة التحرير في اول اختبار تعرضتا له. وتم توزيع مسئوليات الرئيس الراحل بسلاسة عكست احساسا عاليا بالمسئولية الوطنية في مواجهة الاخطار المحدقة بالجميع. وتأكد المهتمون بالنزاع خطأ تنبؤات أجهزة الامن الاسرائيلية وبعض أجهزة الاستخبارات العربية والغربية بحدوث فوضى في مناطق السلطة بعد غياب عرفات. وتشير الترتيبات الداخلية، الفتحاوية والوطنية، للمرحلة الانتقالية الى ان “أبو مازن” هو مرشح فتح لخلافة عرفات في ثلاث مناصب، رئاسة السلطة ورئاسة المنظمة ومعهما رئاسة الدولة. وخيرا فعلت مركزية “فتح” حين اختارت فاروق القدومي رئيسا للحركة، واختارت أبو علاء لرئاسة مجلس الوزراء، وألحقت مجلس الأمن القومي وديوان الموظفين وسلطة النقد بالحكومة.
ورغم أني من أنصار تعزيز الديمقراطية والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، واعادة تنظيم الوضع وحصر مسئولية القائد في مهمة مركزية واحدة، الا انني اعتقد ان المرحلة الانتقالية التي يمر بها النظام الفلسطيني تتطلب من جهة، الجمع بين الرئاسات الثلاث وترسيم الأمر دستوريا. ومن جهة أخرى، تكريس الفصل بين عضوية اللجنة التنفيذية والوزارة، وفصل مؤسسة رئاسة الوزراء عن مؤسسة رئاسة السلطة. ومبرر جمع الرئاسات الثلاث موضوعي خلاصته إنها واقعيا منصب واحد، وفصلها عن بعضها يضعفها ويزرع بذور صراعات بينها يحولها أحدها الى منصب شكلي.
والكل يعرف ان الفلسطينيين وافقوا في “اوسلو” على تشكيل السلطة باعتبارها محطة انتقالية على طريق قيام الدولة. وأن منظمة التحرير كفكرة وبرنامج ومؤسسة وتشكيل سياسي بحاجة منذ زمن الى اعادة صياغة واعادة بناء، وبعد قيام السلطة والغاء المجلس الوطني معظم بنود الميثاق عام 1996 زادت الحاجة، ونشأت ضرورة ملحة لبلورة مفهوم جديد للمنظمة كاطار يوحد طاقات الشعب في الداخل والخارج حول الحقوق والاهداف وضمنها تطوير السلطة الى دولة مستقلة. واذا كان لا مجال للاسترسال في بحث مستقبل المنظمة بعد قيام السلطة وانتخاب مجلس تشريعي، فاني اعتقد ان نموذج الوكالة اليهودية بعد قيام اسرائيل عام 1948 يناسب الحالة الفلسطينية. ويجب تحويل المنظمة في حال التقدم في السلام من قوة مناضلة من أجل التحرير إلى قوة داعمة للدولة تحشد الطاقات لحمايتها وازدهارها.
لا شك في أن انتقال السلطة بعد وفاة عرفات بهدوء وسلاسة، افرح الفلسطينيين وأنصارهم في كل مكان. وخاب ظن شارون ولم تتفجر صراعات دموية داخل “فتح” وبين القوى الوطنية والاسلامية كما كان يتصور ويتمنى. ولكن هذا النجاح المهم يحب ان لا يعني للحظة ان طريق القيادة الجديدة معبدة بالورود، والاوضاع الفتحاوية والوطنية الداخلية بخير وعلى ما يرام. فهناك عقبات خارجية كبيرة تقف في الطريق، تم عرضها في “الحياة” يوم 22/11/2004، أخطرها موقف شارون السلبي من الحقوق الفلسطينية ومن السلطة الفلسطينية والسلام مع العرب. وثانيا، توجهات ادارة بوش الداعمة لشارون واليمين الاسرائيلي.
وبجانب هاتان العقبتان الخارجيتان سوف تواجه القيادة الفلسطينية في المرحلة الانتقالية عقبات داخلية متنوعة، بعضها خطير قادر على الحاق أضرارا فادحا بالمصالح الفلسطينية العليا وشل عمل القيادة واحباط توجهاتها اذا لم يتم معالجتها بحكمة ومسئولية وطنية عالية:
أول هذه العقبات وأخطرها هو إصرار حماس والجهاد الاسلامي وقوى “الرفض” الفلسطينية، وضمنها كتائب شهداء الاقصى التابعة لفتح، على مواصلة العمل العسكري بكل اشكاله ضد الاسرائيليين، مدنيين وعسكريين في الضفة والقطاع وداخل المدن الاسرائيلية. وتصميم البعض على الاستمرار في نهج العمليات الانتحارية، والتسابق في عسكرة الانتفاضة ومحاولة الحصول على انواع جديددة من الاسلحة، وتطوير الصواريخ. وشخصيا لم أفهم الحكمة من اعلان البعض عن امتلاك صواريخ جديد سموها “صواريخ عرفات” و”الياسين” وبينوا ان مداياتها أطول من صواريخ “القسام” وتستطيع ضرب مدينة عسقلان..؟
وتشير مواقف وتصريحات قادة هذه القوى الى انها ليست بصدد التفاعل مع فكرة القيادة عمل هدنة جديدة، وترفض تجميد عملياتها العسكرية. وتنظر للمسألة بمنظار الشك تأتي حسب رأيهم بعد تجربة الهدنة الفاشلة التي تم التوصل لها في العام الماضي في عهد حكومة محمود عباس، وقبل ان يلمس الفلسطينيون مواقف أمريكية جدية في مواجهة سياسة شارون، وفي وقت تواصل الحكومة الاسرائيلية يوميا الاعتقالات وتجريف الاراضي وبناء الجدار والاغتيالات، وليس في الافق ما ينبؤ بان شارون وأركانه الامنين مهتمون باستعادة ثقة الفلسطينيين وعازمون على تنفيذ خطوات على الارض تخفف معاناتهم.
والعقبة الداخلية الثانية التي تواجه القيادة لا تقل خطورة وتتمثل في ترهل أوضاع حركة “فتح”. وأدق تشخيص لحال حزب السلطة المتدهوره يأتي من كوادر الحركة العاملين في الأجهزة المدنية والامنية، وأعلى وتائر النقد تسمع من قواعد الحركة والمنظمات والاتحادات الشعبية. ويكاد يكون اجماع في صفوف التنظيم من كل الاتجاهات والاجيال على أن ثقل الحركة يتآكل ودورها يتراجع. وبسهولة يستطيع المراقب المحايد أن يرى تراجع وحدة الارادة والعمل الفتحاوية وضعف تماسكها التنظيمي في كل المستويات، بدءا من اللجنة المركزية مرورا بالمجلس الثوري وكتلة فتح في المجلس التشريعي والمجلس العسكري، وانتهاء بأدنى وحدة تنظيمية، هذا إذا كانت هناك وحدات تنظيمية وسطى وقاعدية تعمل بانتظام.
ويقر الجميع بفشل الحركة في تجديد وتطوير وثائقها ولوائحها الداخلية الاساسية الفكرية والتنظيمية القديمة. واخفقت في دمقرطة العلاقاة الداخلية على أسس تصون وحدة التنظيم وتوظف طاقاته في اتجاه رئيسي متفق عليه. وتنخر جسده أمراض السلطة وظهرت داخله صراعات جهوية وقطاعية وشخصية حول المناصب الوظيفية في السلطة. وتحمّل التنظيم وزر اخفاقات السلطة وسلبيات ممارسات اجهزتها، ولم تعد مواقفه السياسية وممارساته النضالية تتميز عن التيار الاسلامي. وتشوشت صورة فتح لدى الاصدقاء وفي المحافل الدولية وصفوف قوى السلام الاسرائيلية وضعفت علاقتها بالفلسطينيين في الداخل والخارج.
وأخطر ما تواجهه قيادة “فتح” بتشكيلتها الجديدة هو الازدواجية في التوجهات السياسية والنضالية المركزية للحركة، وخروج التباين من حيزه النظري المشروع الى مجال التطبيق العملي دون قرار وبما يشبه التمرد. ويتجلى ذلك في اندفاع فتحاويون في عسكرة الانتفاضة وبروز تشكيلات عسكرية داخل فتح ـ كتائب شهداء الأقصى، كتائب أبو الريش، كتائب المقاومة الشعبيةـ مستقلة عن اجهزة السلطة الامنية، وبعضها مستقل ماليا، وبرامجها اقرب الى برامج التيار الاسلامي، تتبنى العمليات الانتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين. ولا مبالغة في تشبيه اوضاع فتح بحال جبهة التحرير الجزائرية في أواخر عهد الرئيس ابو مدين. وبعد رحيله تشرذمت وخسرت الحكم بعد خسارة الشارع الجزائري ومال اغلبيته لصالح التيار الاسلامي باتجاهاته المتطرفة. ويخشى بعض الغيوريين على فتح من تكرار هذا النموذج او النموذج المأساوي الذي رسمه الحزب الاشتراكي في اليمن الجنوبي.
وبصرف النظر عن الشعارات التي يرفعها المحتجون والمتذمرون الفتحاويون وعن عدالة مطالبهم التي ينادون بها، فان تراشق البيانات الحامية والاشتباكات المسلحة التي وقعت في قطاع غزة في أواخر حياة الرئيس عرفات ليس اقل من صراع مكشوف على السلطة، اخذ شكل “تمرد فوضوي” محدود، وكان هدف القائمين به ابتزاز القيادة لاجراء تغييرات تنظيمية جوهرية تعزز مواقعهم في التنظيم والسلطة.
والعقبة الرئيسية الثالثة تكمن في حال السلطة وتشوه صورتها في ذهن المواطن الفلسطيني وفي حقل السياسة الدولية. وساهم غياب المأسسة وطغيان المصالح الفئوية والحزبية والشخصية في العلاقة داخل الاجهزة والمؤسسات وعدم تطبيق القانون وانعدام المحاسبة، في إظهار السلطة أمام موظفيها ومؤازريها وأصدقاء الشعب الفلسطيني، قبل خصومه، على أنها سلطة فاشلة ينخرها المحسوبية والفساد. ونفر قطاع واسع من الناس من حولها ضمنهم ناس هللوا لها يوم ميلادها. وتشكلت عنها صورة مطابقة لصورة الأنظمة العربية المتخلفة والدكتاتورية، وخاب أمل الواقعيين الديمقراطيين في سلطة فلسطينية ديمقراطية.
وما حصل في مراسم دفن عرفات في رام الله وفي خيمة العزاء في غزة، مؤشران على تدهور حال أجهزة امن السلطة وعدم قدرتها على بسط سيطرتها وفرض النظام وتطبيق القانون. ويسجل لشارون واركانه انهم نجحوا في اضعاف السلطة في كل المجالات، وتفككت أجهزتها الامنية بعد الضربات القوية التي تلقتها، واضطرب الوضع الأمني في معظم المحافظات ويقترب في بعضها من درجة الانفجار.
وتتجسد العقبة الرابعة في ارث المرحلة الماضية بايجابياته وسلبياته. والقيادة الجديدة ورثت حملا سياسيا وتنظيميا ونضاليا ثقيلا. بعضه تمثل في تراث أبو عمار الرمز والاب والختيار وموقعه المعنوي في الشارع وفي صفوف حركة “فتح”. وبعضه الآخر خلقته الظروف والأسس التنظيمية والإدارية والشخصية التي بنى عليها عرفات تنظيم فتح ومجمل النظام السياسي الفلسطيني. ولن يكون بمقدور ابو مازن او اي قائد اخر الامساك بخيوطها ولن يجيد استخدام المفاتيح الشخصية والانسانية التي استعملها عرفات. واظن ان عدم معرفة الفلسطينيين في الضفة والقطاع وفي الشتات بحقيقة موقف ابو عمار في كامب ديفيد وطابا وبالاشياء التي قبلها او رفضها بشأن حل قضايا اللاجئين والقدس والحدود والاستيطان، سوف يمثل عقبة حقيقية امام الخليفة في حال استئناف المفاوضات وعند الاقتراب من اي اتفاق حول اي من هذه القضايا.
وبجانب هذه العقبات، تواجه القيادة الجديدة أيضا وضعا اقتصاديا على شفا الانهيار، وقوى سلام فلسطينية ضعيفة ومستنزفة لا تقوى على تقديم اسناد جدي للقيادة. وفحص لاوضاعها يؤكد أنها بحاجة لمن يدعمها ويسندها، ومثل “فتح” تحتاج إلى عملية إصلاح وتجديد ودمقرطة جذرية.
لا شك في أن مجمل هذه العقبات الداخلية والخارجية تمثل تحدي لقدرة العقل الفلسطيني على معالجتها وتجاوزها امتحان الزامي للنظام الفلسطيني، ولا خيار سوى الصمود في وجه العواصف والرياح والنجاح في الامتحان، وغير ذلك يقود الى كوارث جديدة يصعب تقديرها. والبحث في سبل تحقيق الصمود والنجاح مهمة وطنية نتناولها في مقالة خاصة.