عرفات لم يرث الزعامة وانتزع شرعية القيادة بالانتخابات ـ الحلقة الثانية
بقلم ممدوح نوفل في 09/11/2004
الحلقة الثانية
عرفات لم يرث الزعامة وانتزع شرعية القيادة بالانتخابات
كان ابو عمار رجلا صبورا مؤمنا. آمن بالقضاء والقدر وبمقولة لن يصيبكم الا ما كتبه الله لكم. وظل يتمنى الشهادة من اجل فلسطين، واقتنع بالحديث النبوي القائل اعقل وتوكل وإلتزم به في سلوكه اليومية. وبهذا الايمان وتلك القناعة تصدي ابوعمار للموت بصلابه وتغلب عليه وطرده مرات عندما حام حوله في الضفة والقطاع والجولان وفي تونس وبيروت وجنوب لبنان وجبل الشيخ وطرابلس واغوار نهر الاردن الشرقية والغربية..الخ وبالصبر والايمان قهر ابوعمار الجنرال شارون مرتين الاولى عندما احكم الجيش الاسرائيلي الطوق على مقره في رام الله، ورد على تشديد الحصار وقال لشعبه وللعرب والعالم “يريدونني طريدا واريدها شهيدا شهيدا شهيد” وكان يعني ما يقول. ومرة أخرى عندما حوصر في بيروت عام 1982، واجبر شارون على فك الحصار وفتح الطريق وخرج عرفات سالما حاملا بندقيته. ويومها رد على سؤال الصحفيين قبل ركوب البحر في 30 آب/اغسطس 1982: “انا ذاهب إلى بلدي فلسطين وعاصمتها القدس”.
في حينه سخر أبو جهاد ايو اياد وابو الوليد وعدد من المقربين من عرفات من اعضاء المجلس العسكري الاعلى من هذا الحديث وقالوا ابو عمار يكابر كالعادة، ويواسي النفس ولا يريد ان يعترف بالهزيمة. ولاحقا وبعد العودة الى غزة عام 1994 ظل ابوعمار يشهّر بكل من لم يصدقه ومن سخر من حلمه ورؤيته. وهو الذي صنع أبو عمار رمز النضال الوطني الفلسطيني بجانب ياسر عرفات قائد فتح الانسان الذي يصيب ويخطأ في حياته اليومية.
وبصرف النظر عن رأي أعداء عرفات وخصومه في مواقفه وسلوكه، فان سيرته الشخصية والنضالية لا تخرج عن كونها قصة انسان كافح من اجل سعادة اسرته واهله، ورجل اجتهد في النضال من أجل حرية شعبه وساهم بفعالية في بناء وتأسيس حركة وطنية فلسطينية مستقلة في اطار حركة التحرر العربية. واسس اواخر خمسينات القرن الماضي مع اخوانه ابو جهاد وابو اياد وابو مازن والاديب وابو يوسف النجار وآخرون حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” وصار لاحقا ناطقا باسمها.
في العام 1964، نجح الرئيس جمال عبد الناصر في دفع مؤتمر القمة العربية الى تبني فكرة تعزيز الدور الفلسطيني المباشر في الكفاح من اجل تحرير فلسطين. وتم الاعلان في تلك القمة عن تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وسمى الزعماء العرب بناء على طلب عبد الناصر السيد احمد الشقيري رئيسا لها. في حينه رفض عرفات الاعتراف بالمنظمة وزعيمها الشقيري كقيادة لنضال الشعب الفلسطيني. ووصف المنظمة انها هيئة رسمية صنيعة الزعماء العرب مسلوبة الارادة خاضعة لهم ولا تختلف عن انظمتهم. وضغط عرفات على اخوانه في قيادة فتح باتجاه التعجيل في بدء الكفاح المسلح حتى قبل استكمال التحضيرات المتفق عليها. وتم الاعلان عن ميلاد الحركة الجديدة “فتح” في 1/1/1965. وقاد عرفات تنظيم فتح المدني والعسكري واربعة اجيال متتالية من الشعب الفلسطيني على طريق الحرية والكرامة.
بعد هزيمة الجيوش العربية في حزيران 1967 التقى عرفات في دمشق اخوان له وزعماء فلسطينيين في حركة القوميين العرب. وكانت معنويات من التقاهم في الحضيض خاصة بعد انكسار عبد الناصر، وقال بعضهم لعرفات “كل شيء ضاع وانتهت القضية”. وجاء رده سريعا: انتم على خطأ هذه ليست النهاية هذه فقط البداية، وعلينا اعادة التفكير بالمواقف الشعارات والتخلي عن الصيغ الجامدة في بناء الاحزاب. وراى عرفات ان حرب حزيران/يونيو وهزيمة نظام عبد الناصر اثبتا خطأ شعار “الوحدة العربية طريق تحرير فلسطين” ورفع شعار “الكفاح الفلسطيني المسلح طريق التحرير” و”تحرير فلسطين ممر رئيسي للوحدة العربية”. وقوبلت اقواله بالشكوك واعتبر حديثه عبثيا يستهدف مواساة الذات ومواساة من يستمع له. وكان الجميع متأثرا في اعماقه الفكرية والنفسية بالطريقة المؤلمة التي تحطمت فيها الجيوش العربية وتحطمت معها آمال وتطلعات الرئيس جمال عبد الناصر القومية.
ونجح عرفات، في تلك الفترة، في دفع اللجنة المركزية لحركة فتح لتبني موقفا يقوم على التحضير لانتفاضة شعبية مسلحة في المناطق المحتلة (الضفة الغربية وقطاع غزة). وبادر مع رفاقه وجمعوا الاسلحة والذخائر من الجولان وارسل دفعات منها الى الضفة الغربية. ولم ينتظر عرفات تحرك الاخرين ولم يتأخر وتسلل بعد الحرب مباشرة مع عدد من رفاقه الى الضفة الغربية، وبدأ بتأسيس قاعدة شعبية وخلايا سرية مسلحة لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي والتمرد على حكمه العسكري والمدني، مستلهما تجارب الشيخ عز الدين القسام، وماوتسي تونغ وهوشي منه وجيفارا وفيدل كاسترو وقادة ثورة الجزائر. وظلت ثورة عام 1936 في فلسطين وثورات الصين الشعبية وفيتنام وكوبا والجزائر نماذج ماثلة أمامه فترة طويلة.
في حينه اتخذ عرفات من مدينة نابلس وريفها مقرا لقيادته، وعرفه الفلاحون واهل المدينة باسم الحاج ابو محمد. وبدت له نابلس قاعدة مثالية للعمل الفدائي بفضل ليس فقط أزقة البلدة القديمة (القصبة) الضيقة والمتعرجة والمكتظة بالسكان، بل ولان تاريخها وتاريخ ريفها كان حافلا بالنضال ضد الاحتلال الانجليزي وضد هجرة اليهود خاصة في انتفاضات سنوات 1922،1929 1936،1939.
ومن نابلس راح “أبو محمد” يتنقل بين مناطق الضفة الغربية من جنين في اقصى الشمال مرورا برام الله والقدس في الوسط وحتى الخليل في الجنوب. ومنها مد اتصالاته الى مدن ومخيمات قطاع غزة ومناطق النقب والمثلث والجليل. وعمل على جمع ما امكن من الاسلحة والذخائر، وفتح معسكرات التدريب في الكهوف والاودية وكروم الزيتون. وارتدى لباس الفلاحين. وهناك اعتمد الحطة “الكوفية” غطاء للرأس ومنذ ذلك التاريخ لم تغادر الحطة رأسه الا ما ندر، وفي المرحلة الاولى استحسن اللون الابيض اسوة بالوجهاء وكبار السن من الفلسطينيين. وبعد مغادرة الضفة اعتمر ابو عمار الحطة المرقطة بخطوط سوداء وقلده ربعه من الفدائيين، وصارت لاحقا شعارا ورمزا للمناضلين من اجل الحرية والداعمين لهم. ولم يحاول أحد تقليده في لبسها.
لم يتمكن عرفات بعد عام 1967 من المكوث طويلا في الضفة الغربية وانكشف امره وتعرض للملاحقة وطاردته قوات الاحتلال الاسرائيلي في المدن والريف وكادت تظفر به اكثر من مرة. وغادر الضفة الغربية الى الضفة الشرقية واقام قواعد مقاتلة لحركة فتح على امتداد الحدود الاردنية الاسرائيلية وفي منطقة وادي الرقاد ونهر اليرموك على الحدود السورية الاردنية. وصارت منطقة الاغور الاردنية ومرتفعات مدينة السلطة واحياء مدينة عمان ومخيمات اللاجئين والنازحين الفلسطينيين في بقعة صويلح والزرقاء واربد ميدانا لنشاطه السري الحزبي والعسكري.
صحيح ان عرفات وقادة حركة فتح رفعوا منذ البداية شعار استقلالية الحركة الفلسطينية وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية، لكن الصحيح ايضا انه ورفاقه ابو صبري وابو جهاد وابو يوسف النجار اقاموا علاقات سرية حميمة مع عدد واسع من كبار الضباط في الجيش الاردني منهم العميد سعد صايل ومشهور حديثه وآخرون. واستفادوا منهم ومن مواقعهم في المعارك المؤسفة التي وقعت في ايلول/سبتمبر 1970 بين الجيش الاردني والفدائيين. واستفادوا منهم قبلها في التسلل من الضفة الشرقية لنهر الاردن الى الضفة الغربية وتنفيذ عمليات عسكرية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي. واستفادوا منهم ايضا في معركة الكرامة عام 1968 حيث شاركت وحداتهم في التصدي للهجوم الذي قاده الجدنرال ديان ضد الفدائيين.
في حينه، رفعت معركة الكرامة شأن عرفات وحركة فتح، وتبنى عرفات تكتيك التصدي والمواجهة المباشرة والقتال داخل البلدة ورفض موقف الاخرين الذين قالوا بالتراجع للخلف خطوة وتقليص الخسائر ودعوا الى لانسحاب من البلدة وضرب اجنابه ومؤخرته بعد دخولها. وظل أبو عمار يرى في الشهداء مصدر الهام يقوي الثورة ويعمق جذورها في صفوف الشعب والارض.
وبعد معركة الكرامة رأى عرفات ان الوقت قد حان للسيطرة على منظمة التحرير بعدما كان يرفض الانخراط فيها باعتبارها صنيعة الانظمة العربية واداة طيعية بيد جمال عبد الناصر. ولاحقا نجح عرفات واخوانه في انتزاع زمام المبادرة، وتولت فتح قيادة الشعب الفلسطيني تحت لواء منظمة التحرير، وعملوا على تكريسها ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني.
وفي سياق الحديث عن عرفات القائد لا يستطيع أي باحث موضوعي تجاهل تاريخه وموقعه كرمز للنضال الوطني رفع شعار استقلالية الحركة الفلسطينية واستقلال قرار منظمة التحرير. وقاوم كل أشكال الوصاية والاحتواء. كما لا يمكن تجاهل دوره في قيادة مسيرة أربعين عاما من النضال من اجل الحرية والاستقلال وإقامة الدولة المستقلة. صحيح ان أبوعمار عرف في اوساط النظام الرسمي العربي، منذ بدأ الكفاح المسلح، بأنه مفتعل الازمات ومنبع المشاكل، واتهم مؤخرا في عهد بوش وشارون بانه ارهابي يتزعم حركة ارهابية ويقود شعبه نحو الهلاك..الخ لكن وقائع الحياة تدحض ذلك، وسوف يسجل التاريخ العربي انه ساهم في ايقاظ أمة من سباتها العميق ونبهها إلى اخطار استراتيجية تحيق بها. ومن نال جائزة نوبل للسلام لجهوده في صناعة هذا الهدف السامي لا يمكن ان يكون ارهابيا يعشق القتل والدمار. ويسجل له انه لم يرث الزعامة من احد وبلغ موقع رئاسة دولة فلسطين بجهده الشخصي، وكرس شرعيته القيادية التاريخية عبر نضاله الطويل وانتزع شرعيته القانونية والدستورية عبر الانتخابات.
وعندما اعترض أبوإياد وعدد واسع من اعضاء المجلس المركزي عام 1989 على الطريقة الملتوية التي فرضها ابو عمار على المجلس لمناقشة مسألة انتخاب رئيس الدولة، بكى أبو عمار وصاح في أعضاء المجلس: انا لم أصل الى موقعي بالوراثة او بانقلاب عسكري بل باعمالي التي قمت بها من اجل فلسطين. ويومها قدم استقالته للمجلس ولم يعود عنها الا بعد مناشدة وتعهد بانتخابه رئيسا فلسطين. وانتخب بالاجماع في تلك الدورة باستثناء ابو اياد الذي رفض المشاركة في التصويت احتجاجا على الاسلوب.