دعم القيادة الجديدة في مواجهة شارون مهمة وطنية وكبيرة
بقلم ممدوح نوفل في 31/01/2005
بعد رحيل عرفات وضع القدر على كاهل محمود عباس “أبومازن” وهيئات فتح القيادية “لجنة مركزية ومجلس ثوري ومجلس عسكري ومرجعية حركية” مسئولية استثنائية، ثقلها لا يقل عن المسئولية التاريخية التي تحملتها فتح عند إطلاق رصاصة الثورة وإعلان الكفاح المسلح عام 1965. وفي مواجهة صدمة الرحيل توحد “الفتحاويون” ورصت القوى الوطنية والإسلامية الصفوف وتماسكت “القيادة الفلسطينية” وتم تجاوز الفترة الأكثر شدة وصعوبة، واجتاز الفلسطينيون امتحان انتخاب رئيس الدولة بنجاح، وتمت المرحلة الأولى من الانتخابات البلدية بانضباط شعبي ذاتي عال ودون حوادث تذكر. وكل ذلك تم بهدوء فاجأ المراقبون وفاق تقديراتهم. طبعا، ما كان لهذا الانضباط أن يتم دون تغليب المصالح الفلسطينية العليا على أي اعتبار آخر. ويسجل لحركة حماس وقوى المعارضة الإسلامية والوطنية وأصحاب وجهات النظر المتباينة والمتناقضة داخل فتح عدم استغلال الحدث لجهة تصفية الحسابات السياسية الفكرية والتنظيمية والشخصية.
إلى ذلك، لا حاجة لأجهزة استشعار متطورة أو “زرقاء يمامة” تنبئ الفلسطينيين بأن الأخطار المحدقة بهم في مرحلة ما بعد عرفات الانتقالية كبيرة. والامتحان الحقيقي لقيادة فتح ومنظمة التحرير ليس النجاح المهم الذي تحقق في الانتقال السريع والسلس للسلطة وسد الفراغ الفتحاوي والوطني الذي تركه رحيل عرفات بل هو في اجتياز المرحلة الجديدة الخطرة بأمان وسلام ودون خسائر إضافية. والإختبار الأصعب الذي يواجه ابو مازن يتعلق بسؤال تمكين الفلسطينيين من الصمود في العاصفة الهوجاء التي تضرب مقومات كيانهم وتهدد أهدافهم وطموحاتهم، وسبل تقليص خسائرهم في مرحلة غياب الحل السياسي المطلوب. وابو مازن يؤمن أن الطريق لتحقيق هذه الأهداف تبدأ بخروج القوى الفلسطينية من الملعب العسكري الذي يتقن فنونه رئيس الوزراء الاسرائيلي شارون، والعودة إلى طاولة المفاوضات واستدراج تدخل دولي يجبر شارون على الالتزام بالشرعية الدولية. ويسعى ابو مازن للتوصل إلى وقف إطلاق نار وهدنة متبادلة مضمونة أمريكيا ودوليا، ويعرض على قوى المعارضة الفلسطينية شراكة سياسية حقيقية في السلطة.
وتشير الاتصالات الأولية التي أجراها أبو مازن في غزة مع القوى الوطنية والإسلامية داخل وخارج منظمة التحرير إلى إمكانية التوصل إلى وقف إطلاق نار وهدنة قصيرة قابلة للتمديد، ظاهرها هدنة من جانب واحد وحقيقتها هدنة متبادلة بضمانات أمريكية. ويتذرع شارون برفض الالتزام علنا بهدنة متبادلة حتى لا يقال عقد اتفاقا مع حركة حماس، وأغلب الظن انه يخفي رغبة بالمحافظة على حرية التصرف وعدم تقييد نفسه.
وعند تأمل طريق أبومازن قبل وبعد الهدنة المؤقتة المتوقعة يتبين أنها شاقة وصعبة ومحفوفة بمخاطر جمة. ويواجه عقبات خارجية وداخلية خطيرة بعضها قد يلحق أضرارا فادحة بالمصالح الفلسطينية إذا لم يتم معالجتها بحكمة ومسئولية وطنية عالية. وأبرز العقبات الخارجية تتجسد في موقف شارون واليمين الإسرائيلي السلبي من السلطة الفلسطينية، والمعادي لحقوق الفلسطينيين ولعملية السلام والاتفاقات التي انبثقت عنها. والقوى الفلسطينية وقوى السلام الإسرائيلية والإقليمية متفقون على أن موقف شارون نابع من قناعة أيدلوجية يمينية وعقدة تاريخية وتوجهات سياسية عدوانية توسعية. ولا أحد يؤمن أن موقفه وممارسات حكومته زمن عرفات كانت تكتيكا في مواجه “زعيم الإرهاب” وأن غياب “الشيطان” عرفات عن المسرح يعيد شارون للصواب ويضع حدا للأعمال الفاشية.
إلى ذلك، يواجه محمود عباس سياسة إسرائيلية مبرمجة لسرقة الأرض وتكريس الاستيطان وتدمير مقومات قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. وشارون مصمم على مواصلة بناء الجدار وتحويله إلى حدود جيوسياسية. ويشترط وقفا تاما شاملا وكاملا للعنف ومنع إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون باتجاه سدريوت والمستوطنات قبل استئناف المفاوضات. ويطالب بتجريد القوى الفلسطينية من الأسلحة والتعهد بفرض رقابة صارمة على “الصناعات الحربية”..في القطاع ومنع المعارضة من إعادة بناء “ترسانتها” العسكرية… ويحث شارون إدارة بوش على الامتناع عن دعوة عباس إلى واشنطن وانتظار نتائج هذا الاختبار. ويتناسى شارون تماما انه أضعف أجهزة الأمن الفلسطينية ماديا ومعنويا.
وبصرف النظر عن رأي أنصار العمل العسكري، وفقد وفرت عملية معبر المنطار لشارون وأركانه فرصة ثمينة وفتحوا النار ضد أبو مازن وتوجهاته وبدأوا بمحاولة ابتزازه. وجميع التهم التي وجهت إلى عرفات ووصفه بأنه ليس شريكا في السلام تكررت مع تغيير اسم عباس مكان عرفات. ولا أدري إذا كان شارون سينجح في إقناع الرئيس الأمريكي بان عباس هو عرفات رقم 2 دون كوفية يموه نفسه ببدلة رسمية وربطة عنق..ولا جدوى من التنسيق معه، مثلما أقنعه في ولايته الأولى بتجميد العمل بخريطة الطريق وبأن تدمير الاتفاقات مع عرفات وتجميد المفاوضات يندرج في خانة الحرب ضد الإرهاب والإرهابيين ؟
ويصر شارون على تنفيذ “خطة الانفصال” وإعادة الانتشار في قطاع غزة من جانب واحد ويرفض تنسيق الخطوة مع السلطة خشية اضطراره إلى إدخال تعديلات جوهرية فيها. ويقفل الحدود ويعرقل الحركة بين الضفة والقطاع ويمنع العمل في إسرائيل ولا يأبه بزيادة الفقر والجوع والأضرار التي تسببها خطته. وأبو مازن الخبير في الشئون الإسرائيلية يعرف أن هذه السياسية مستمرة طالما ظل شارون رئيسا للوزراء وظلت الإدارة الأمريكية “تدلعه” وتساند مواقفه المتطرفة. ويعرف ان شارون ليس حريصا على دمقرطة المجتمع الفلسطيني ولا يهمه تعزيز مكانة رئيس السلطة ولن يسهل عليه توفير الأمن والخبز للناس.
وأظن أن ابو مازن لا يحمل أوهاما حول المدى الذي يمكن أن تصل إليه التحركات السياسية الجديدة، ويسعى إلى تقليص الخسائر الفلسطينية وتوسيع جبهة الأصدقاء وتحسين وضع الفلسطينيين قدر المستطاع. والفلسطينيون في الضفة والقطاع مقتنعون ان شارون لن يقوم بخطوات عملية نتيجتها وصمه في نهاية حياته بخيانة مبادئه ورفاقه، ولن يقدم لهم غير الدولة المؤقتة التي تترجم مشروع ليكود للحل الانتقالي بعيد المدى. الأمر الذي يؤكد أن الهدنة التي يمكن التوصل لها قد لا تعمر طويلا، والمفاوضات في حال استئنافها ستصطدم بجدار أيدلوجية حزب ليكود المسدود. والاصطدام المتوقع قد لا يتأخر كثيرا وقد يكون أقوى من الصدام الذي وقع في مفاوضات كامب ديفيد التي رعاها الرئيس كلينتون. وفي جميع الحالات الارجح ان شارون لن يقوم بخطوات عملية نتيجتها وصمه في نهاية حياته بخيانة مبادئه ورفاقه.
وبديهي القول أن موافقة شارون على وقف استهداف قوات الأمن الفلسطينية في قطاع غزة والسماح لها بالعودة إلى مواقعها السابقة على الحدود لا توفر الأمن والخبز للناس. وهذه الخطوات مرشحة لان ترتد سلبا على أبو مازن وأجهزة السلطة إذا لم يقابلها شارون بخطوات جديدة أكبر وأهم من فتح معبر رفح، خاصة إذا واصل الجيش الإسرائيلي مداهمة المدن والبلدات والمخيمات في الضفة. وليس في الأفق ما ينبئ بان شارون وأركانه الأمنيين مهتمون بكسب ثقة الفلسطينيين ولديهم استعداد لمساعدة ابو مازن وتوفير مستلزمات نجاحه، وتنفيذ خطوات عملية جدية على الأرض يلمسها الناس وتخفف من معاناتهم.
إن أجهزة الأمن الإسرائيلية وشارون يعرفون أن عملياتهم في الضفة واقتحام مدينة رام اللـه ألحق أذى بالغا بموقف أبو مازن وأضعف موقفه في مواجهة المتشددين دعاة مواصلة الكفاح المسلح، وأن مواصلة نهب الأرض والاعتقالات ورفض إطلاق سراح دفعات كبيرة من المعتقلين تفجر اتفاق الهدنة وتلغي وقف إطلاق النار، خاصة وأن المعارضة الفلسطينية تنظر لمسالة الهدنة بمنظار الشك والريبة بعد تجربة الهدنة الفاشلة التي تم التوصل لها في عهد عرفات، وتطالب بأن تتضمن الهدنة إطلاق سراح المعتقلين وضمان أمن المواطنين والمناضلين ووقف عمليات المطاردة والاعتقال ووقف هدم البيوت.
أما العقبة الرئيسية الثانية التي تواجه ابو مازن فتتمثل في موقف الرئيس بوش من الحقوق الفلسطينية ودعمه غير المحدود للقوى الإسرائيلية المتطرفة. ورسالة التطمينات التي قدمها لشارون في أيار/مايو 2004 بشأن القدس واللاجئين والاستيطان حددت الموقف الأمريكي من قضايا الحل النهائي.
فقد تراجع بوش عن تنفيذ رؤيته المتعلقة بقيام دولة فلسطينية بجانب إسرائيل وأجّل تنفيذها حتى نهاية ولايته الثانية عام 2008، مما رسم سلفا دور إدارته في المفاوضات في حال استئنافها. ولم يتردد الرئيس الأمريكي فضم صوته إلى شارون وأيد شرطه النجاح في محاربة الإرهاب قبل استئناف المفاوضات، وطالب بوش أبو مازن فور انتخابه بتحمل مسئولياته الأمنية وإجراء إصلاحات ديمقراطية، ونسي أن الديمقراطية تحت الاحتلال لا رائحة ولا لون ولا طعم لها، ولا توفر الخبز والأمن للناس.
إلى ذلك، أكد بوش من جديد انه يؤيد مواقف إسرائيل في كل الأوقات ويسعى لتلبية رغباتها في كل المجالات، ويساند خطة شارون بشان الانفصال وإعادة الانتشار في قطاع غزة رغم معرفته أنها بديل “خريطة الطريق” التي هلل لها، وتلغي كليا دور اللجنة الرباعية الدولية. والقول ان ليس في الأفق ما ينبئ بتبدل جوهري في الموقف الأمريكي ليس فيه تجن على أحد. وفي شهادتها أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس اوضحت وزيرة الخارجية الجديدة كونداليزا رايس أنها لن تتوانى عن ضرب القوى المسلحة الفلسطينية التي وصفتها بـ”العصابات المتفرقة”. وطبعا هذا الوصف الأمريكي يطرب شارون ويسمح له مواصلة عمليات القتل والتدمير بذريعة ضرب الإرهاب. وطالبت رايس ابو مازن بما ظل يطالب به رئيسها بوش عرفات، وقالت إنها تتوقع من محمود عباس “القيام بخطوة جريئة لمحاربة العنف”.
ويخطئ من يعتقد أن حديث الرئيس بوش في يوم تنصيبه عن نشر الحرية في العالم ينطبق على فلسطين. والفلسطينيون مقتنعون ان تعمق ورطة إدارة بوش في المستنقع العراقي يقربها اكثر من إسرائيل ومن أنصارها في الكونغرس.
فهل ستساعد قوى المعارضة الفلسطينية ابو مازن في التغلب على العقبات وتساند توجهاته وتقوي موقفه في الساحة الدولية أم أنها سوف تضعفه وتزيد في الخسائر الفلسطينية؟