اغتيال الحريري جريمة كبرى والفلسطينيين خارج الصراع
بقلم ممدوح نوفل في 16/02/2005
اواخر الشهر كانون الثاني/يناير 2005 تسنى لي زيارة لبنان بعد غياب دام 16 عام. وصلت مطار بيروت وكلي فرح بزيارة بلد عشت فيه 16 سنة( 1972ـ1988 ) هي زهرة عمري في ربيع الثورة. والتقيت كوادر وقادة فصائل منظمة التحرير في بيروت وصيدا وصور. وغمرني بلطفه وكرمه عدد واسع من الاصدقاء اللبنانيين قادة وكوادر “الحركة الوطنية اللبنانية” الاطار الذي جمع قوى وشخصيات وطنية لبنانية في مرحلة الحرب الاهلية التي دامت اكثر من خمسة عشر سنة. ومددت اقامتي بضع ايام ليتسنى لي زيارة اماكن لي فيها ذكريات نضالية وانسانية عزيزة، والاستمتاع اكثر بجمال جبل لبنان وساحله ومدنه خاصة بيروت التي زادتها مشاريع رئيس الوزراء اللبناني السابق المرحوم رفيق الحريري جمالا واهمية اقتصادية، خاصة الشوارع والجسور والانفاق وترميم ساحة النجمة والبرلمان ومنطقة الفنادق التي كانت يوما ميدان قتال مرير.
ومددت الاقامة ايضا لغرض اهم، هو استكمال اتصالاتي ولقاءاتي بأشخاص وقوى جمعتنا صداقة شخصية ونضالية عميقة. وهم لم يبخلوا يوما في التضحية من اجل بلدهم ومن اجل فلسطين، وكانوا دوما اوفياء لمبادئهم وعروبتهم وقدموا لفلسطين أعز ما يملكون. فتحوا لمنظمة التحرير وقيادتها صدورهم وبيوتهم. ودافعوا عنها في كل الظروف دون تردد. دافعوا عنها وهي مظلومة من الاعداء والاشقاء، ودافعوا عنها وهي ظالمة لنفسها ولشعبها ولواللبنانيين. دافعوا عن الثورة بمختلف فصائلها منذ تواجدت في بلدهم سرا وعلنا منتصف ستينات القرن الماضي. وشاركوا في القتال ضد اسرائيل المحتلة لفلسطينين واجزاء من لبنان. وفي حرب 1982 صمدوا في مواجهة الغزو الاسرائيلي ولم يحقدوا على الثورة الفلسطينية رغم ان وجودها كان سببا رئيسيا في الدمار الهائل الذي لحق بمدنهم وقراهم وممتلكاتهم جراء الحرب.
وعندما تعرضت المخيمات الفلسطينية عام 1984ـ 1988 لحرب ظالمة من الاشقاء انبروا للدفاع عنها، ولم يتردد بعضهم في دخول صراع مع اخوانه من اللبنانيين قادة حركة امل ومع الاشقاء السوريين. واخفوا في بيوتهم ومناطق نفوذهم قادة وكوادر في الثورة صاروا مطاردين بعد رحيل قيادة وكوادر ومقاتلي منظمة التحرير عن بيروت عام 1982.
الى ذلك، اعترف باني غادرت بيروت مطلع شباط /فبراير بشعور مختلط. من جهة، سعدت بزيارة بلد احببت وبلقاء احبة واصدقاء احترمهم واقدرهم من الاعماق بعد غياب تغير خلاله كل شيء فينا الا الصداقة التي جمعتنا. ولم يتوقف التغيير عند حدود قسمات الوجه والشعر والوزن والقدرة على الحركة والصمود ساعات طويل في الاجتماعات دون ملل ودون حاجة للحمامات. وطال التفكير وطريقة التعبير عن الهموم الوطنية. وزادت الخبرة في الحياة وضمنها التخلص عن التسرع في التقييم، وامتلاك القدرة على رؤية ما تحمله السحب السوداء عندما تعبر السماء العربية. ومن جهة اخرى غادرت بيروت قلقا حزينا، في يوم بارد ماطر وعاصف، ولم يغادرني القلق منذ لقاء الصديق وليد جنبلاط الذي ختمت به الزيارة. كان اللقاء قصيرا وجاء متاخرا وتم بعد تأجيل قسري سببه لقاء طارئ جمعه بقطب المعارضة الوطنية الثاني رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري.
كل لقاءات السابقة الكثيرة مع الصديق وليد كانت مريحة وممتعة، لكني في هذا اللقاء شعرت برجفة خوف قوية هزتني من الاعماق وانا استمع لحديثه الواضح والصريح، كابرت على نفسي ونجحت في اخفائها عنه وعن صديق فلسطيني شاركني اللقاء.
اهتزت مشاعري بقوة عندما رد دون نقاش او تردد على استئذاني نشر كتاب “مغدوشة” فيه عرض لمجريات الحرب على المخيمات، ومواقف القوى الوطنية اللبنانية وقال: إنشر لم يعد لدي ما اخاف عليه واخشاه. يبدو اننا في عام 1977ـ1978 حيث كان الانقسام الداخلي عميقا وخطيرا، وكان التوتر مع الشقيقة سوريا على أشده وفي ذلك العام المشئوم اغتيل كمال حنبلاط ووقعت حوادث كبرى في البلد والمنطقة وضمنها اتفاقات كامب ديفيد المصرية الاسرائيلية. قلت: لكن الكتاب يتحدث بالتفصيل عن دور الحزب التقدمي ودور وليد شخصيا في مساندة حركة فتح والجبهة الديمقراطية عسكريا وسياسيا ومعنويا في مواجهة حركة امل ومن ساندها في حربها الظالمة على المخيمات. قال: “انشر دون تأخير من يدري ماذا تخبأ لنا الايام، وهذا تاريخ يجب ان يعرفه الناس.
وعند عودتي الى رام الله تحدثت مع من يعنيهم امر لبنان ومصير الفلسطينيين فيه، ورويت ما وكنت في كل مرة انهي الرواية بمشاعر حزن على لبنان وقلق على المخيمات، وعلى حياة جنبلاط واصدقاء آخرين هناك. وحتى اللحظة لم يغادرني القلق ويتحول احيانا الى كوابيس، وتلاحقني جملة قالها وهو يودعنا امام منزله “يريدون قتل وليد والانسان يموت مرة واحدة”..”لا مجال للتراجع في الدفاع استقلال لبنان”.
وجاء اغتيال رفيق الحريري وأعاد شريط الزيارة كاملا ونبه ذاكرتي لكل كلمة سمعتها من الاصدقاء الفلسطينيين واللبنانيين حول الاتجاهات الخطرة المنحدر نحوها الوضع بتاسرع شديد. سمعت كلاما عن تفجير الوضع الامني والعسكري بين القوى اللبنانية وضرب بعضها ببعض، وانفجار الصراع بين قوى واجهزة امن السلطة وقوى في المعارضة الاسلامية والمسيحية. وسمعت كلاما حول توزيع السلاح بكثافة في بيروت الغربية. وكيف تلقى قادة فصائل العمل الوطني الفلسطيني في لبنان تشجيعا على تنفيذ عمليات عسكرية ضد اسرائيل من جنوب لبنان، واعادة احياء قوة الكفاح المسلح كقوة امن داخلي في كل المخيمات بدءا من الرشيدية جنوبا مرورا بمخيم بعلبك في البقاع وانتهاء بمخيمي البارد والبداوي في الشمال، وعدم الانضباط لمواقف السلطة اللبنانية وطلباتها المتعلقة بالمطلوبين..الخ
لا شك في ان اغتيال رفيق الحريري خسارة كبيرة للبنان ولتيار الواقعية والاعتدال ودعاة نشر الديمقراطية في العالم العربي. وخسارة للقضية الفلسطينية وشعب فلسطين خصوصا ناس المخيمات في لبنان. ورغم ملاحظات خصومه الا ان جميع اللبنانيين في مختلف الطوائف يقدرون دوره ليس فقط في انعاش الاقتصاد واعادة اعمار ما هدمته الحروب، بل وايضا دورة في لملمة جراح الفلسطينيين في المخيمات وجمع اللبنانيين في مؤتمر الطائف، ودوره المتواصل حتى وهو في موقع المعارضة في تثبيت السلم الاهلي وبناء تحالفات داخلية ساهمت في انقاذ لبنان من مطبات كبيرة. ويقدرون دوره في تحسين صورة بلده في الحقلين الدولي والاقليمي واستعادة مكانته العربية والدولية والاقتصادية.
وبصرف النظر عن نوايا واهداف من دبر الجريمة، ويشهد لبراعته الفائقة في التخطيط والتنفيذ، فعملية اغتيال الحريري جاءت بعد تهديدات تلقاها وترافقت مع اتهامه علنا بالخيانة والعمالة للاجنبي. واظن ان ملف الجريمة لن يبقى محصور التداول في حدود قصر العدل اللبناني، وتحرك الاليزيه مقر الرئاسة الفرنسية والبيت الابيض الامريكي والامم المتحدة لمعرفة الفاعل يجب قراءة مدلولاته وابعاده بامعان.
وفي سياق الدفاع عن النفس ورد الفعل، لم تتردد المعارضة في المطالبة بتدويل القضية، ودعت العالم للتدخل وحملت السلطة اللبنانية وسوريا كقوة انتداب المسئولية، ولم تتورع عن المطالبة بفرض انتداب دولي على بلدهم اذا كان في ذلك ما يخلصه من وصاية واحتلال الشقيقة الكبرى الذي دام حسب تعبيرهم اكثر من ثلاثين سنة ونهايته لا تزال غير معروفة بعكس كل الانتدابات الدولية التي لها دائما زمن.
شخصيا، لست من انصار التطير في تقدير الموقف واعتبر بعض ما قيل يندرج في اطار المبالغات السياسية والأمنيات والرغبات الخاصة. صحيح ان الزلزال حرك عاصفة قوية لكني لا اعتقد ان لبنان مقبل على حرب اهلية جديدة على غرار ما حصل في سنوات 1975ـ1990 او سيدخل في حرب عسكرية مع سوريا. واذا كان ما يجري على ارض لبنان في هذه الايام يشبه الى حد كبير مقدمات الحرب الاهلية السابقة، فالوضع الذاتي مختلف والانقسام الداخلي لا يحمل في ثناياه حربا طائفية، والمعارضة تضم في صفوفها الدروز والسنة من انصار الحريري والموارنة، وطيف واسع من بقية الطوائف المسيحية. ولا مصلحة للطائفة الشيعية في التورط في مواجهة المعارضة دفاعا عن النظام اللبناني وعن سوريا. كما وان العامل الدولي وامتداداته الاقليمية الذي لعب دورا حاسما في تفجير تلك الحرب وادامها قد تغير تماما مع انتهاء الحرب الباردة بين قطبييها الاتحاد السوفيتي “سابقا والولايات المتحدة الامريكية. وتبخر كمفجر للحروب بعد انهيار سور برلين وتمزق الاتحاد السوفيتي، وسيادة ارادة قطب واحد “امريكا” في تقرير وتحريك وتوجيه السياسة الدولية وضمنها النزاعات المحلية والاقليمية.
إلى ذلك، يخطئ من يعتقد ان عدم انزلاق البلد في حرب اهلية جديدة يعني تبدد الغيوم السوداء التي تجمعت في سماء لبنان وسوريا. ومن يريد نشر الفوضى والقتل والتخريب لن يعدم وسيلة وبعض الذي يجري في العراق نموذجا قابلا للتعميم. واغتيال الحريري ومرافقيه زلزال هز المنطقة برمتها بقوة يصعب الان تقدير تفاعلاته الامنية والسياسية والاقتصادية التي سوف تتخطى حدود لبنان وتطال دول الجوار. وسيكون له اثرا واضحا على العلاقة السورية اللبنانية، والسورية الامريكية والاوروبية وعلى عملية السلام في مساراتها الثلاث الفلسطيني والسوري واللبناني، وقد تظهر لاحقا في العراق وايران.
في كل الاحوال يجب ان يعرف جميع الفرقاء ان الفلسطينينن في لبنان ليسوا طرفا في هذا النزاع. وعلى قيادة م ت ف والقيادة الفلسطينية في لبنان التنبه الى ابعاد اتهام فلسطيني يدعى “أحمد أبو عدس” يسكن في الطريق الجديدة بالجريمة. فهذه اشاعة ليست بريئة هدفها ابعد من تضليل التحقيق وهي حركة مخابراتية مكشوفة لتسليط الاضواء على الوجود الفلسطيني في لبنان باعتباره منبع ارهاب. واذا كانت القيادة الفلسطينية لم تراجع تجربة الثورة في لبنان، ولم تعترف رسميا بخطأ تورطها في الحرب الاهلية ولم تعتذر عن مقولة تحرير فلسطين يمر عبر عينطورة وجونية، فان مؤازرة اي فصيل فلسطيني لطرف لبناني ضد آخر يلحق اذى بالغا بمصالح الفلسطينيين في لبنان. وما يهم ناس المخيمات هناك في هذه المرحلة هو الامن اولا وتوفير لقمة العيش ثانيا وتوطيد العلاقة الفلسطينية اللبنانية مع الجميع. وهم في نضالهم من اجل حقوقهم الوطنية المغتصبة بحاجة الى دعم السلطة والمعارضة ومن يقف بين بين، ويرفضون التوطين بانتظار العودة التي لا يقبلون عنها بديلا. ويرون في الحديث عن فتح جبهة جنوب لبنان ضد اسرائيل خروجا على التوجه الوطني المركزي الذي رسمته هيئات م ت ف ، ويرفضون ازدواجية الموقف مع السلام ومع المفاوضات والحل السياسي في الضفة والقطاع ومع الحرب في جنوب لبنان.
لا جدال في ان اغتيال الحريري جريمة كبرى لا تغتفر، يدينها الفلسطينيون ويرون في توريط المخيمات الفلسطينية في الموجة الجديدة من الصراع في لبنان جريمة لا تقل عن جريمة الاغتيال بغض النظر عن الساعي للتوريط فلسطينيا كان او لبنانيا او سوريا، ويتضامن الفلسطينيون في كل مكان مع اهل الشهيد ويعزون انفسهم بالفقيد، ويساندون في كل الظروف والاحوال الشعب اللبناني في نضاله ضد الارهاب، ويتمنون ان ينجح في صيانة وحدته وتجنب الفتنة ويصون تراث رفيق الحريري الوطني والانساني