شارون يعرقل عمل «أبو مازن» وبوش يتفرج على تآكل رصيده
بقلم ممدوح نوفل في 29/03/2005
في لقاءاته الداخلية يكثر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الحديث عن ضرورة التزام رئيس الحكومة الاسرائيلي ارييل شارون بتنفيذ تفاهمات قمة شرم الشيخ، واستئناف الاتصالات الفلسطينية ـ الاسرائيلية لمعالجة القضايا الامنية والاقتصادية العالقة. ويتساءل عن عدم تحرك الادارة الاميركية لإلزام الحكومة الاسرائيلية بتنسيق خطة الانفصال مع السلطة الفلسطينية ووقف العمل في الجدار والغاء مخططات الاستيطان التي تقوّض رؤية الرئيس بوش في شأن قيام دولة فلسطينية بجانب دولة اسرائيل.
وكان عباس اتفق مع شارون مطلع شباط (فبراير) الماضي في شرم الشيخ بحضور الرئيس مبارك والملك عبدالله الثاني على استئناف الاتصالات واطلاق سراح 900 اسير فلسطيني، وعودة مبعدي احداث كنيسة المهد في بيت لحم الى بيوتهم وقراهم، وانسحاب القوات الاسرائيلية من خمس مدن (اريحا وطولكرم وقلقيلية ورام الله وبيت لحم وتسيلمها للسلطة). وتعهد عباس المحافظة على وقف اطلاق النار وضبط الامن في المدن بعد تسلمها ومنع تحولها مراكز انطلاق لأعمال تمس امن اسرائيل والاسرائيليين. وطلب ابو مازن شخصياً، لاعتبارات وطنية، من شارون اطلاق سراح عدد من الكوادر بعضهم «ملطخة اياديهم بالدم اليهودي» حسب التعبير العنصري الاسرائيلي، وتلقى وعداً ايجابياً. وفي سياق تشجيع التوجه وترطيب الاجواء وتحسين العلاقات بادرت مصر والاردن في حينه الى اعادة سفيريهما الى تل ابيب، وكانا غادرا قبل اربع سنوات اثر تصاعد اعمال القمع والتنكيل بالفلسطينيين.
وبينت مجريات الاحداث منذ تلك القمة ان ابو مازن أوفى بالتزاماته وساعدته القيادة المصرية في تكريس وقف النار وجعله هدنة مفتوحة وغير مشروطة. اما شارون فالواضح انه لم يقدر قيمة مبادرة مصر والاردن ولم يلتزم ما تعهده لرئيس السلطة، ولم ينفذ اركانه الامنيون الانسحاب من المدن الخمس ومحيطها وافتعلوا خلافاً حول مفهوم الامن والانسحاب وحدود المدن والمناطق. وتمسك الجانب الاسرائيلي بالبقاء في محيط مدينتي اريحا وطولكرم المصنفة (أ) وأصر على بقاء حواجزه عند مداخلهما.
وخيّب شارون ظن الفلسطينيين الذين انتخبوا محمود عباس بأمل تخفيف معاناتهم وتراجعت شعبية عباس في الشارع وداخل «فتح» في اطار العلاقة بين اطراف النظام السياسي الفلسطيني. وتذكروا كيف رفض شارون طلب ابو مازن، حين كان رئيساً للوزراء، فك اسر الرئيس ياسر عرفات ومنحه حقه في حرية التنقل والحركة. وتذكروا ايضاً مساندة اركان الادارة الاميركية سياسة شارون ومواقفه التي افشلت ابو مازن في رئاسة الوزراء. ويتساءل الناس في الضفة والقطاع وانصار عباس داخل السلطة والمنظمة: هل قرر شارون افشال ابو مازن في رئاسة السلطة كما افشله في رئاسة الحكومة؟ وهل ظل شارون عند قناعاته المتطرفة قبل وبعد قمة شرم الشيخ واعلان الفصائل الهدنة في اجتماعهم في القاهرة، وموقفه في تلك القمة كان مناورة ناجحة مكنته من قطف عودة سفيري مصر والاردن من دون مقابل. ام أنه يعيش حالة صراع مع النفس ويواجه صعوبات داخلية في حزبه ومعسكره اليميني وداخل المؤسسة الامنية تعطل قدرته على تنفيذ ما التزم به في «الشرم»؟
لست شخصياً من انصار التطيّر وتفسير المواقف من منطلق نظرية المؤامرة، وارجح ان شارون يريد تحريك عملية السلام لكن على طريقته، أي تحت سقف «خطة الانفصال» واعادة انتشار الجيش وسحب المستوطنين من القطاع كما رسمها لا أكثر ولا أقل، ويسعى الى تأمين افضل الظروف الداخلية والخارجية لتنفيذها كونه يعتبرها ضرورة لأمن اسرائيل الاستراتيجي وتمتين العلاقة بالحليف الاميركي. ويرى في عملية الاخلاء والانسحاب من القطاع، ذي الموقع الملتبس في اطار «ارض الميعاد»، خطوة تكتيكية ضرورية لتعطيل تنفيذ خريطة الطريق، وتوسيع الاستيطان في الضفة وضم مساحات من ارضها لاسرائيل. وخبرته الطويلة تعلمه ان مساحة قطاع غزة الضيقة (360 كيلومتراً مربعاً فقط) والكثافة السكانية فيه (مليون وربع المليون نسمة) وشحة موارده الطبيعية تقلل من القيمة الاقتصادية والامنية والعسكرية للاستمرار في احتلاله وتجعل الاستيطان مشروعاً خاسراً وبلا اي افق استراتيجي.
ويدرك شارون انه لم يعد بامكان اسرائيل في المدى المنظور وحتى البعيد تهجير الغزاويين الى صحراء سيناء وبلاد العرب الواسعة كما كان يفكر ولا يزال يفكر معارضو خطة الانسحاب ممن تتلمذوا على يديه في حزب ليكود وبقية احزاب اليمين المتطرفة. ويعرف شارون اكثر من سواه ان الاستمرار في احتلال قطاع غزة واستيطانه يعني الاستمرار في تقديم خسائر بشرية ومادية ومعنوية من دون فائدة تذكر، وتعكير علاقة اسرائيل مع اكثر من طرف اقليمي ودولي، والانسحاب منه يقلص الخسائر ويريح علاقة اسرائيل مع الاصدقاء والحلفاء وفي اطار الامم المتحدة.
الى ذلك، يواجه شارون، على خلفية الصراع حول خطته مشاكل حقيقية داخل حزبه ومع حلفائه في اليمين وجماعات المستوطنين بلغت حد تهديده بالقتل، علماً انه كان بمثابة نبيهم الصادق ويعتبر نفسه المدافع الامين عن مصالحهم في كل زمان. وتلقى صفعة قوية من قادة وكوادر رباهم على التطرف بعد صفعة الاستفتاء التي تلقاها من القاعدة. يتهمونه بالارتداد عن مبادئ الليكود وبرنامجه والخضوع. ويواصل «المتمردون» اعضاء ليكود في الكنيست نشاطهم لافشال شارون ولا يكترثون اذا سقطت حكومته.
يحاول شارون جاهداً تجنب الفشل وتنفيذ خطته بأقل الخسائر، وتمرير الموازنة الجديدة وبقاء حكومته. ويتمنى ان ينجح وان لا يضطر الى تجميد او تأجيل تنفيذ الخطة تحت ضغط المستوطنين والمتمردين. ويسعى شارون قدر المستطاع الى التوفيق بين متناقضات يصعب جمعها على سطح واحد: ارضاء المتمردين في حزبه وفي معسكر اليمين من جهة، وتنفيذ خطته السياسية الامنية وتلبية رغبة حزب العمل، شريكه في الحكم في الاخلاء والانسحاب حسب اتفاق الشراكة. من جهة اخرى، والاستجابة لرغبة الرئيس بوش واللجنة الدولية الرباعية بتنفيذ الفصل والاخلاء والانسحاب حسب الجدول الزمني الذي اعلنه.
اعتقد ان القراءة المتأنية لأزمة النظام السياسي في اسرائيل كما اظهرتها خطة الفصل والانسحاب تشير الى ان اعلان شارون اليومي عن تمسكه بخطته وتصميمه على تنفيذها، يندرج في خانة الامنيات، ولا احد يستطيع الجزم بأن الخطة ستنفذ كاملة من الفها الى يائها وحسب التوقيتات التي حددها شارون وصادقت عليها الحكومة. واظن ان آخر ما يفكر به شارون هو صنع السلام مع الفلسطينيين وانجاح محمود عباس في قيادة شعبه على طريق السلام واسترضاء الملوك والرؤساء العرب.
صحيح ان خطة الفصل والاخلاء تحظى بدعم الادارة الاميركية والاتحاد الاوروبي وروسيا والامم المتحدة لكن الصحيح ايضاً ان هذا الدعم المهم لا يكفي لجعل تنفيذ جميع مراحلها قدراً لا راد له. فالمعارضون في الجانبين كثر وليسوا ضعفاء، خصوصاً في الجانب الاسرائيلي ولديهم القوى والوسائط اللازمة للتأثير في التنفيذ. ويبدو انهم ماضون في تحدي شارون ولديهم الوقت الكافي لتجميع القوى ومفاجئة الجميع بخطوات تعطيلية. الى ذلك يخطئ من يعتقد ان الرئيس بوش ودول الاتحاد الاوروبي سيمارسون ضغطاً جدياً على شارون للالتزام بما تعهد به وما تضمنته خريطة الطريق وتصريحات كوندوليزا رايس وخافيير سولانا الرافضة توسيع مستوطنة «معاليه ادوميم» لا تحمي الأرض الفلسطينية ولا تنقذ فكرة السلام، خصوصاً أنها لم تترجم بمواقف ملموسة على صعيد العلاقات الثنائية أو في موقف واضح يصدر عن الأمم المتحدة. والأرجح أن يمارس بوش ضغطه على عباس في زيارته المرتقبة لواشنطن ويتمنى عليه أن يصبر على شارون ويراعي ظرفه ويحاول مساعدته في تنفيذ خطته والبقاء في رئاسة الوزراء!
وإذا كان نقاش الانسحاب من طولكرم واريحا في الضفة الغربية استغرق أكثر من خمسة أسابيع، فالمؤكد أن انتظار الانسحاب من بقية المدن الخمس ومحيطها سيطول. أما الانحساب من مدن نابلس والخليل وجنين التي لم يرد ذكرها في شرم الشيخ، فالأرجح أن يؤجل الى اشعار آخر ولن يتم قبل استكمال تنفيذ خطة الانفصال و«الانسحاب» من قطاع غزة. وأظن أن الناس في هذه المدن لن يروا الانسحاب قبل الانتخابات الإسرائيلية المقبلة التي يمكن أن تتم في موعد مبكر في عام 2006. ويبدو أن شارون مصمم على إعادة عملية السلام الى عام 1995 وتكرار سيناريو الانسحاب من المدن، الواحدة بعد الأخرى وربط تتابع التنفيذ باستقرار الأمن في المدن حسب المفهوم الإسرائيلي. وشارون هو الذي تحدث عن احتمال سقوط حكومته، وقال: «هناك أعضاء في كتلة ليكود يبدو أنهم نسوا كيف سقطت حكومة شامير ونتانياهو، أريد أن أسأل من الذي تسبب بسقوط حكومات اليمين؟». وبديهي القول إن سقوط حكومة شارون يعني تأجيل كل شيء بما في ذلك تفاهمات شرم الشيخ وخطة الانفصال.
وإذا كان لقاء أبو مازن مع شارون وبعده موفاز لم يحل المشاكل العالقة، فالمرجح أن يعقد الجانب الإسرائيلي المحادثات حول الانسحاب والاستيطان ويستمر الخلاف حولهما بهدف تقطيع الوقت. ورفض شارون وأركانه تلبية طلب الحكومة الأردنية اطلاق سراح عدد «دزينتين» من المعتقلين الاردنيين، ينبئ بمماطلة إسرائيلية في اطلاق سراح الدفعة الثانية من المعتقلين الفلسطينيين (400) التي اتفق عليها في شرم الشيخ، وقد تتفجر هذه المشاكل العويصة ثانية في وجه أبو مازن وحتماً ستدفع حركة «فتح» ثمنها في الانتخابات البلدية والتشريعية القريبة.
وفي كل الحالات، لا أحد يضمن استمرار وقف اطلاق النار بعد انتخاب المجلس التشريعي الفلسطيني في تموز (يوليو) المقبل، أو في حال انهيار حكومة شارون، ويصعب تقدير نتائج وتفاعلات تنفيذ خطة الانفصال والانسحاب والاخلاء على الوضع في اسرائيل، ووضع النظام السياسي الفلسطيني، خصوصاً إذا نفذ شارون خطته من جانب واحد وفازت قوى المعارضة الفلسطينية بغالبية المجالس البلدية وحصلت على حصة كبيرة من مقاعد المجلس التشريعي.