هل قرر شارون افشال الرئيس ابو مازن واستهلاك رصيده ؟
بقلم ممدوح نوفل في 09/03/2005
في لقاءاته الداخلية والعلنية يكثر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في الحديث حول ضرورة التزام رئيس الحكومة الاسرائيلية اريك شارون بتنفيذ تفاهمات قمة شرم الشيخ، واستئناف الاتصالات الفلسطينية الاسرائيلية لمعالجة القضايا الأمنية والاقتصادية العالقة. وكان ابو مازن إلتقى شارون مطلع شباط “فبراير” الماضي في منتجع شرم الشيخ، بمباركة أمريكية، واتفقا بحضور الرئيس مبارك والملك عبد الله الثاني على استئناف الاتصالات واطلاق سراح 900 اسير فلسطيني، وعودة مبعدي احداث كنيسة المهد في بيت لحم الى بيوتهم وقراهم، وانسحاب القوات الاسرائيلية من خمس مدن فلسطينية (اريحا وطولكرم وقلقيلية ورام الله وبيت لحم) وتسليمها للسلطة الفلسطينية. وتعهد عباس بالمحافظة على وقف اطلاق النار وضبط الأمن في المدن بعد تسلمها ومنع تحولها الى مراكز انطلاق لاعمال تمس أمن اسرائيل والاسرائيليين. وطلب ابو مازن شخصيا، لاعتبار وطنية، من شارون اطلاق سراح عددا من الكوادر بعضهم “ملطخة اياديهم بالدم اليهودي” حسب التعبير العنصري الاسرائيلي، وتلقى وعدا ايجابيا.
وفي سياق تشجيع التوجه وترطيب الاجواء وتحسين العلاقات بادرت مصر والاردن الى اعادة سفيريهما الى تل ابيب، وكانا غادرا قبل اربع سنوات اثر تصاعد أعمال القمع والتنكيل بالفلسطينيين. وبينت مجريات الاحداث منذ القمة أن شارون لم يقدر قيمة مبادرة مصر والاردن ولم يلتزم بما تعهد به لرئيس السلطة، ولم ينفذ اركان المؤسسة الامنية الانسحاب من المدن الخمس ومحيطها وافتعلوا خلاف حول مفهوم الانسحاب وحدود المدن والمناطق، وصمت شارون على اركانه. وتمسك الجانب الاسرائيلي بالبقاء في محيط مدينة اريحا المصنفة( A) وأصر على بقاء حواجزه عند مداخلها تعيق حركة المواطنين وتوجه الاهانات لهم، وتفرض على الجميع وضمنهم مرضى ومسنين واطفال، البقاء ساعات تحت شمس الاغوار الحارقة. وتعثرت عملية الانسحاب من منطقة اريحا، وجرب الطرفان تجاوز الازمة وانتقلوا الى بحث الانسحاب من مدينة أخرى “طولكرم” ظنا ان الاتفاق حولها أسهل. وقبل ان يستكملوا المباحثات نفذت سرايا حركة الجهاد الاسلامي عملية تل ابيب، وبقي الوضع الميداني على ما كان عليه دون تغيير يذكر.
وبدلا من تقدير موقف رئيس السلطة الذي أدان العملية بقوة وأمر باعتقال من يقف خلفها وتقدير جهد اجهزة السلطة، خاصة جهد وزير الداخلية الجديد اللواء نصر يوسف في ملاحقة واعتقال من وقف خلف العملية، قرر شارون من جانب واحد وقف الاتصالات، وأوقف تنفيذ الانسحاب من طولكرم، وكأنه كان ينتظر العملية ليبرر تراجعه عن التوجه ككل. وخاب ظن المتفائلين الذين انتخبوا عباس بأمل تخفيف معاناتهم وتذكروا كيف رفض شارون قبل عامين طلب ابو مازن فك اسر الرئيس عرفات ومنحه حقه في حرية التنقل والحركة.
ويتسائل انصار السلام ومؤيدوا ابو مازن داخل السلطة وخارجها: هل قرر شارون افشال ابو مازن في رئاسة السلطة كما افشله في رئاسة الحكومة في عهد عرفات؟ وهل ظل شارون عند قناعاته المتطرفة قبل وبعد قمة شرم الشيخ وموقف في القمة كان مناورة ناجحة مكنته قطف عودة سفيري مصر والاردن دون مقابل. أم إنه يعيش حالة صراع مع النفس ويواجه صعوبات داخلية في حزبه ومعسكره اليميني وداخل المؤسسة الامنية تعطل قدرته على تنفيذ ما التزم به في “الشرم”؟
شخصيا لست من انصار التطير وتفسير المواقف من منطلق نظرية المؤامرة، وأرجح ان يكون شارون راغبا بتحريك عملية السلام تحت سقف خطة الانفصال واعادة انتشار الجيش وسحب المستوطنين من القطاع كما رسمها لا اكثر ولا أقل. ويسعى لتأمين افضل الظروف الداخلية والخارجية لتنفيذها، ويعتبر الخطوة ضرورة لامن اسرائيل الاستراتيجي وتمتين العلاقة بالحليف الامريكي. ويرى في عملية الاخلاء والانسحاب من القطاع، ذو الموقع الملتبس في اطار “ارض الميعاد”، خطوة تكتيكية ضرورية لتعطيل تنفيذ خريطة الطريق، وتوسيع الاستيطان في الضفة وضم مساحات من ارضها لاسرائيل. وخبرته الطويلة تعلمه ان مساحة قطاع غزة الضيقة 360 كيلومتر مربع فقط والكثافة السكانية فيه مليون وربع مليون انسان وشحة موارده الطبيعية تقلل من القيمة الاقتصادية والامنية والعسكرية للاستمرار في احتلاله وتجعل الاستيطان مشروعا خاسرا وبلا اي أفق استراتيجي.
ويدرك شارون انه لم يعد بامكان اسرائيل في المدى المنظور وحتى البعيد تهجير الغزاويين الى صحراء سيناء وبلاد العرب الواسعة كما كان يفكر ولا يزال يفكر معارضوا خطة الانسحاب من تتلمذوا على يده في حزب ليكود وبقية احزاب اليمين المتطرفة. ويعرف شارون اكثر من سواه ان الاستمرار في احتلال قطاع غزة واستيطانه يعني الاستمرار في تقديم خسائر بشرية ومادية ومعنوية دون فائدة تذكر، وتعكير علاقة اسرائيل مع اكثر من طرف اقليمي ودولي، والانسحاب منه يقلص الخسائر ويريح علاقة اسرائيل مع الاصدقاء والحلفاء وفي اطار الامم المتحدة.
الى ذلك، يواجه شارون، على خلفية الصراع حول خطته، مشكلات حقيقية داخل حزبه ومع حلفائه بلغت حد تهديده بالقتل، علما انه كان بمثابة نبيهم الصادق ويعتبر نفسه المدافع الامين عن مصالحهم في كل زمان. وتلقى في آخر اجتماع لمركز حزب الليكود مساء 3 آذار “مارس” الجاري صفعة قوية جديدة من كوادر رباهم على التطرف بعد صفعة الاستفتاء التي تلقاها من القاعدة. قاطعوه مرات عدة، واتهموه بالارتداد عن مبادئ الليكود وبرنامجه والخضوع للارهاب. وفي نهاية الاجتماع صوتوا لصالح اقتراح يلزمه استفتاء الشعب حول الخطة قبل تنفيذها. ويتابع “المتمردون” اعضاء ليكود في الكنيست نشاطهم لافشال شارون ولا يكترثون اذا سقطت حكومته.
ويحاول شارون جاهدا تجنب الفشل وتنفيذ خطته بأقل الخسائر، وتمرير الموازنة الجديدة وبقاء حكومته. ويتمنى أن ينجح وان لا يضطر الى تجميد او تأجيل تنفيذ الخطة تحت ضغط المستوطنين والمتمردين، او تنفيذها تحت وابل من قذائف المدفعية والصواريخ كما حصل مع رئيس الحكومة السابق باراك عند الانسحاب من جنوب لبنان. ويسعى شارون قدر المستطاع الى التوفيق بين متناقضات يصعب جمعها على سطح واحد: تنفيذ قناعته الايدلوجية وخطته السياسية الامنية. ارضاء المتمردين في حزبه وفي معسكر اليمين. تلبية رغبة حزب العمل شريكه في الحكم في الاخلاء والانسحاب حسب اتفاق الشراكة. وأيضا تلبية رغبة الرئيس بوش واللجنة الدولية الرباعية. وتنسجم مع تطلعات السلطة ورئيسها عباس أن يتم الانسحاب بسرعة وان يكون شاملا وليس اعادة انتشار، وان لا يتم نقل المستوطنين المرحلين من القطاع الى الضفة الغربية على حساب الارض والبشر والمصالح الفلسطينية العليا.
اعتقد ان القراءة المتأنية لأزمة النظام السياسي في اسرائيلي كما اظهرتها خطة الانسحاب تشير الى ان اعلان شارون اليومي عن تمسكه بخطة “الانفصال والانسحاب والاخلاء”، وتصميمه على تنفيذها، يندرج في خانة الامنيات. ولا أحد يستطيع الجزم بأن الخطة سوف تنفذ كاملة من ألفها الى يائها وحسب التوقيتات التي حددها شارون وصادقت عليها الحكومة. وأظن ان آخر ما يفكر به شارون هو صنع السلام مع الفلسطينيين واسترضاء الملوك والرؤساء العرب، وانجاح محمود عباس في قيادة شعبه على طريق السلام، وليس قلقا بشأن اعادة بعض الحقوق لاصحابها الفلسطينيين حتى بحدود تفاهمات قمة شرم الشيخ.
وتصويت الإغلبية الساحقة من اعضاء مركز الليكود مطلع آذار “مارس” الجاري لصالح مشروع قرار يدعو الى استفتاء شعبي قبل الشروع في تنفيذ الخطة، يؤشر لحجم المشاكل التي تقف في طريق شارون. صحيح ان الخطة تحظى بدعم الادارة الامريكية والاتحاد الاوروبي وروسيا والامم المتحدة، لكن الصحيح ايضا ان هذا الدعم الهام لا يكفي لجعل تنفيذ جميع مراحلها قدرا لا راد له. فالمعارضون في الجانبين كثرو وليسوا ضعفاء، ولديهم القوى والوسائط، خاصة الجانب الاسرائيلي، اللازمة للتاثير في التنفيذ. ويبدو انهم ماضون في تحدي شارون وبلغ التحدي درجة اهانته في اجتماع لمركز ليكود ونادوا بطرده من الجلسة.
ويخطئ من يعتقد ان الرئيس بوش سوف يمارس ضغطا جديا على شارون للالتزام بما تعهد به في شرم الشيخ وما تضمنته خارطة الطريق. والارجح ان يمارس بوش ضغطه على ابو مازن ويتمنى عليه ان يصبر على شارون ويراعي ظرفه ويحاول مساعدته في تنفيذ خطته..!!
واذا كان نقاش الانسحاب من مدينة فلسطينية واحدة في الضفة الغربية استغرق اكثر من خمسة اسابيع فالمؤكد ان انتظار الانسحاب من المدن الخمس ومحيطها سوف يطول. اما الانسحاب من مدن نابلس والخليل وجنين فالارجح ان يؤجل الى إشعر آخر ولن يتم قبل استكمال تنفيذ خطة الانفصال “والانسحاب” من قطاع غزة. واظن ان الناس في هذه المدن لن يروا الانسحاب قبل الانتخابات الاسرائيلية القادمة التي يمكن ان تتم في موعد مبكر في عام 2006. وشارون هو الذي قال “هناك أعضاء في كتلة “الليكود” يبدو أنهم نسوا كيف سقطت حكومة شمير ونتنياهو، أريد أن أسأل من الذي تسبب بسقوط حكومات اليمين”. وبديهي القول ان سقوطها يعني تأجيل كل شيء.
واذا كان لقاء ابو مازن مع موفاز في منطقة ايرتز مساء يوم 8 آذار “مارس” الجاري لم يحل المشاكل العالقة واحالها الى اللجان، فالمرجح ان يطول البحث ويتكرر الخلاف وقد يتطلب الامر اجتماع آخر على مستوى القمة. وعدم تلبية شارون واركانه طلب الحكومة الاردنية اطلاق سراح عدد “دزينتين” من المعتقلين الاردنيين، ينبؤ بمماطلة اسرائيلية في اطلاق سراح الدفعة الثانية من المعتقلين الفلسطينيين (400) التي اتفق عليها في شرم الشيخ، وقد تتفجر هذه المشكلة العويصة الثانية في وجه ابو مازن وتدفع فتح ثمنها في الانتخابات البلدية والتشريعية بعد اسابيع.
وفي جميع الحلات لا احد يضمن استمرار وقف اطلاق النار بعد انتخاب المجلس التشريعي الفلسطيني في تموز “يوليو” القادم. ويصعب تقدير نتائج وتفاعلات تنفيذ خطة الانفصال والانسحاب والاخلاء على الوضع في اسرائيل، وأيضا على وضع النظام السياسي الفلسطيني لاسيما العلاقة بين السلطة والمعارضة، خاصة اذا نفذ شارون خطته من جانب واحد وفازت قوى المعارضة الفلسطينية بأغلبية المجالس البلدية او حصلت على حصة كبيرة من مقاعد المجلس التشريعي.