تقديم د . فضل النقيب لكتاب ليلة انتخاب السيد الرئيس الذي سيصدر قريبا
بقلم ممدوح نوفل في 12/06/2005
عن
الرواية” غير الخيالية” والسياسة “غير الممكنة”
تقديم
كتاب ممدوح نوفل “ليلة انتخاب السيد الرئيس”
بقلم
فضل مصطفى النقيب
جامعة واترلو – كندا
أيار/ مايو 2005
(1)
في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1959، ورد في جريدة “نيويورك تايمز” خبراً عن جريمة غامضة وقعت في منطقة نائية من ولاية كانساس. أثار ذلك الخبراهتمام الروائي المشهور “ترومان كابوتي” فتعاقد مع الجريدة لإجراء تحقيق صحفي حول الجريمة فى ولايه كانساس. (1)
لم يكتب ترومان التحقيق الصحفي، بل قضى ست سنوا ت متنقلاً بين ولايات كانساس وآلاباما وميسيسبي باحثاً عن خلفية كل من له علاقة بالجريمة، ثم متابعاً جلسات محاكمة المجرمَين اللذين اقترفاها ثم شاهداً على إعدامهما، وبعد ذلك، كتب عن كل ذلك كتابا أسماه ” بدم بارد”.
لقد حاز كتاب” بدم بارد” على نجاح أسطورى غير مسبوق، إذ باع أكثر من أربعه ملايين نسخة وترجم إلى لغات عده، كما انه أخرج فيلما سينمائيا. وأخذ ترومان كابوتي يدعي أنه بذلك الكتاب قد ابتكر جنساً أدبياً جديداً هو الرواية غيرالخيالية. وأوضح أن هذا الجنس الجديد معني بسرد أحداث واقعية لاتغيير أو تحريف أو تدخل فيها من قبل المولف على الإطلاق، ولكنها مصاغه بأسلوب الروائي.
ولقد توالى بعد ذلك صدور كتب عديدة تستعمل أسلوب الرواية غير الخيالية. ومن الكتاب الأميركيين المشهورين الذين استعملوا هذا الأسلوب في الستينيات والسبعينيات كان “نورمان ميلر” و”توم وولف”. ثم أصبح ذلك الأسلوب متبعا على نطاق واسع(2).
(2)
في 31 آذار/ مارس من عام 1989، دعي المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى عقد اجتماع في تونس حيث كان مقر القيادة الفلسطينيه في ذلك الوقت. ولم يدر بخلد أي من أعضاء المجلس أن الاجتماع سيتمخض عن اختيار رئيس لدولة فلسطين. فالموضوع كان قد أثير في مجال ضيق بعد إعلان قيام دولة فلسطين قبل ذلك بأشهر في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، كان ياسر عرفات قد عارضه بشدة، على أساس أن الوقت لم يحن بعد لاتخاذ مثل تلك الخطوة. وكانت التوقعات كلها تنتظر من اجتماع المجلس المركزي الذي دعي إلى الإنعقاد في تونس اتخاذ خطوات هامة تعمل على رأب الصدع الذي حدث في الصف الفلسطيني بعد إطلاق قيادة المنظمة ما دعي يومها بمبادرة السلام الفلسطينية.
ولكن، وبشكل مفاجئ، تم طرح موضوع انتخاب رئيس لدولة فلسطين على المجلس، فأثار ذلك الطرح نقاشاً ساخناً تحول إلى شجار ونزاع وانسحابات أدت إلى التوقف الكامل للإجتماع. إلا أن جهوداً حثيثة نجحت في النهاية في إعادة عقد الإجتماع وبلورة اتفاق على اختيار ياسر عرفات رئيساً لدولة فلسطين.
ومع أن كل هذه الأحداث معروفة، وكل قارئ لكتاب ممدوح نوفل “ليلة انتخاب السيد الرئيس” الذي يروي قصة ما دار في ذ لك الآجتماع للمجلس المركزي يعرف بدايه القصه ونهايتها. وعلى الرغم من كل ذلك ، فأنت لا تستطيع، متى بدأت بقراءه الكتاب، أن تتركه قبل أن تصل الى نهايته. فما أن تبدأ القراءة حتى تنسى أنك تعرف “ماذا حدث ” في ذلك الاجتماع لأن كل إهتمامك اصبح منصبا على معرفه “كيف حدث”. إنك تقرأ قصة شائقه مثيرة تتلهف لمعرفة نهايتها. وفي رأيي أن ذلك يعود إلى أن ممدوح نوفل قد نجح، إلى حد كبير، في سرد أحداث ذلك الإجتماع بشكل صادق وأمين ودقيق في قالب قصصي مثير وشائق. وبكلمة أخرى، لقد نجح في استعمال أسلوب” الرواية غير الخيالية”.
لم يقرأ ممدوح نوفل كتاب “بدم بارد”، ولا هو على اطلاع على موضوع “الرواية غير الخيالية”، فخلفيته ليست أدبية، فقد التحق وهو شاب بحركة القوميين العرب، ثم أصبح من مقاتلي الجبهة الشعبية، وتولى بعد ذلك قيادة قوات الجبهة الديمقراطية سنوات طويلة ، ثم صار مسؤولاً عن القوات الفلسطينية في لبنان بعد انسحاب منظمة التحرير عام 1982. وهكذا، فنحن أمام مؤلف له خلفية عسكرية وسياسية، وهو يستعمل أسلوب “الرواية غير الخيالية” بشكل غريزي وعفوي. وفي رأيي أن لهذا دلالة معينة أحب أن أتحدث عنها.
(3)
أولا وقبل كل شئ ، لا نستطيع أن نتفق مع ما قاله ترومان كابوتي من أن “الرواية غير الخيالية” جنس أدبي جديد. فالكتابة عن أحداث واقعية بأسلوب روائي معروفة عبر العصور. وعلى سبيل المثال، فكثير من كتب السيرة قد صيغت بأسلوب روائي مع أنها تسرد أحداثا واقعية من المفترض أن ينقلها الكاتب من غير تحريف. ومن أشهر من كتب السيرة في الأدب العربي طه حسين الذي ألف كتابه “الأيام” بأسلوب روائي مع أنه لا يتعدى كونه تسجيلا دقيقالأحداث حياته. وهناك كتاب “أحمق العائلة” الذي روى فيه “جان بول سارتر” حياة الكاتب المشهور غوستاف فلوبير. وقد أكد سارتر أنه أستعمل خيال الروائي في سرده لأحداث حياه فلوبير الحقيقيه. ومع ذلك، فإن الإهتمام الذي استقبل به القراء كتاب “بدم بارد” ثم إقدام كتاب كبار على محاكاة أسلوبه لهما دلالة بالنسبة لخصوصية الوقت الذي صدر فيه هذا الكتاب. ففي مطلع الستينيات، كانت الرأسمالية الأميركيه قد وصلت إلى مرحلة تحطيم الكثير من أنماط الحياه التقليدية وتكريس أوضاع وأساليب وطرق جديدة في الحياة. فمع أنتشار وجبات ” الطعام السريع “، أخذت المطابع تقذف بشكل يومي بقصص وروايات مكتوبة بسرعة فائقة، وتختص كل واحده منها بموضوع معين. فهناك روايات عن الحب ، وأخرى عن الجنس، وثالثه عن الجريمه، ورابعه عن الحرب، وغير ذلك من الروايات التي تختص بكرة القاعدة ( البيسبول ) أو غرق العمليات في المستشفيات…الخ وتعلم القارئ قراءة تلك الكتب بنفس السرعه التي تعلّم فيها التهام وجبات الطعام السريع . واقتصر قراء الأدب الجاد على جمهور صغير من المثقفين وتلاميذ كليات الآداب في الجامعات. ولقد وصف ترومان كابوتي الروايات السريعة بأنها” طباعة ” وليست ” كتابة ” . وأكد أنه كتب ” بدم بارد ” احتجاجا من ” الكتابة ” على “الطباعة” وهكذا نرى أن انتشار أسلوب ” الروايه غير الخياليه ” في منتصف الستينيات في الولايات المتحده كان تعبيرا عن الاحتجاج والرفض والمفاومة.
لا يشكل كتاب “ليلة انتخاب السيد الرئيس” عمل احتجاج أو مقاومة على الصعيد السياسي. فمؤلفه لا يأخذ في الوضع الفلسطيني موقف المحتج أو المعارض لتوجهات القيادة السياسية. على العكس من ذلك تماما، فلقد أيد التوجهات السياسيةالمحوريه لتلك القيادة. لقد أيد نهج أوسلو، وانخرط بعد ذلك في نشاط جماعة كوبنهاغن، كما أيد أخيراً مبادرة جينيف
لقد كتب ممدوح نوفل كتابه ًليلة إنتخاب السيد الرئيسً تعبيرا عن احتجاج من نوع آخر. ولتحديد معنى هذا بدقة، لابد من العودة إلى” فيصل حوراني” الذي هو برأيي من أهم من كتب عن المشهد الإنساني الفلسطيني بعد نكبة عام 1948 . فشهاداته الخمس التي تروي قصة حياته وحياة الفلسطينيين منذ النكبة بأسلوب روائي متميز تشكل محطة هامة في الكتابة الفلسطينية
(4)
في إحدى شهادات فيصل حوراني يحدث المشهد التالي:
الزمان: منتصف نهار يوم من أيام منتصف الستينيات
المكان:أحد شوارع دمشق.
والمشهد الخارجي هو لسيارة مسرعة فيها ثلاثة من عناصر الأمن السياسي، قاموا باعتقال شخص من مديرية الإذاعة والتلفزيون، وانطلقوا ومعهم المعتقل في طريقهم إلى زجه في أحد سجون المخابرات.
أما المشهد الداخلي لعناصر الامن هؤلاء ورئيسهم داخل السيارة يوجهون الإهانات إلى الشخص المعتقل، ويضربونه ويستمعون في الوقت نفسه إلى التعليق السياسي الذي تذيعه محطة دمشق بعد نشرة أخبار منتصف النهار.
أما الشهادة فهي أن المعتقل الذي يتلقى الإهانات، والكاتب الذي كتب التعليق السياسي الذي يستمع له موجهو الإهانات، كانا شخصاً واحداً هو فيصل حوراني.
كان فيصل حوراني ذلك الوقت من نشطاء حزب البعث (الحزب الحاكم)، وبعد ساعات قليلة تم الإفراج عنه واستقبله رئيس الوزراء في بيته ليطيب خاطره ويؤكد له انه سيعمل على معاقبة المسؤولين عن اعتقاله وإهانته، وأن الموضوع كان “خطأ” لن يتكرر.
ولكن فيصل تاكد بعد مدة أن الموضوع لم يكن حدثا عرضيا , بل إنه كان سمة من سمات الأوضاع الجديده التي اشترك هو في صنعها. وعند ذلك، ترك العمل السياسي المباشر وتفرغ للكتابة شاهدا على التجرب التي مر بها.
والذي نفهمه من شهادات فيصل هو أن الإنحراف نحو التفرد بالسلط’ والطغيان لم يكن نتيج’ أحداث معينه، ولا كان من صنع فئه محددة. لقد كان النتيجة الطبيعية لمناخ عام تصنعه الممارسات السياسية التي تعمل على تقليص دور “العقل ” و تعظيم دور “الغرائز “. وأن من طبيعة تلك الممارسات أنها تفتح فجوه تتسع باستمرار بين عالم” المنطق” وعالم ” العمل العام “. وكلما أتسعت الفجوة كلما ازدادت سطوة القوة العاريه وتكريسها مرجعية وحيدة. وهكذا، فان شهادات فيصل لاتحتج على أتجاه سياسي معين ، إنها في الواقع إحتجاج على مجمل العمل السياسي كما هو ممارس في بلادنا. ومن هذا المنظور يمكن فهم الصبغه الاحتجاجية لكتاب “ليلة أنتخاب السيد الرئيس “.
إن أول ما يثير دهشتنا في الكتاب هو النزاع الذي أثاره طرح موضوع تعيين رئيس لدولة فلسطين. فأي إنسان له معرفة بسيطه بالوضع الفلسطيني عام 1989 كان يدرك أنه لم يكن هناك أي خلاف حول من هو الرجل الأول في القيادة الفلسطينية.بل لقد كان هناك أجماع شبه كامل حول قيادة ياسر عرفات.
وعندما نحاول أن نقرأ بين السطور، وبمجهود بسيط، يخيل إلينا أننا توصلنا إلى معرفة سر ذلك النزاع، فهو ليس حول الرجل الأول بل حول الرجل الثاني، وليس حول رئيس الدولة لكن حول من يكون نائبا للرئيس. وبعد فترة قصيرة من هذا الاكتشاف تزداد مهاراتنا في القراءة بين السطور، فنتوصل الى أكتشاف أهم وأشمل. فالنزاع لا يدور حول شخصية الرجل الثاني بل حول وجود أو عدم وجود هذا الرجل الثاني أيا كان شخصه. إنه نزاع بين من يريد شراكة في القيادة ومن يريد تكريس وجود القائد والشعب بدون أي وساطة بينهما.
وتحدث المفاجأة الكبرى لنا عندما تسير الأمور باتجاه حل الخلاف دون أن ندري ما الذي حصل؟ و ما هي الصفقة التي عقدت؟.
وهنا، توقفت قدرتنا على القراءة بين السطور، وعندها برزت قدرات ممدوح نوفل الفنية. إذ أنه هيأ لنا إمكانيه قراءة أهم وأعمق.
لم يكن ممدوح طرفا في النقاش، ولذلك لم نسمع صوته عندما كان الإجتماع ملتئما والأصوات مرتفعة .إنما بدأ دوره عندما تعطل الإجتماع وتوزع الأعضاء على أكثر من غرفة وممر، فأخذ عند ذلك ينقل الرسائل الهامسة بين ياسر عرفات والقادة الآخرين. وكان كل واحد يتكلم بأعلى صوته معلنا موقفا يقول إنه لن يتراجع عنه، ثم يهمس في أذن ممدوح تفاصيل موقف آخر مختلف. وكنا نتصور اننا نفهم ذلك الموقف لنفاجأ بصاحبه بعد دقائق يهمس في اذن ممدوح بتفاصيل موقف مختلف اخر، ثم نفاجأ أيضا بأن ممدوح ينقل للآخرين ثبات صاحبنا على موقفه.
كانت الهمسات تتم بلغة غير اللغة التي نعرفها. كانت كلمة “نعم” لا تعني القبول. وكانت كلمة “لا” لا تعني الرفض. لقد أصبح لرجال السياسة لغة يتكلمون بها لايفهمها غيرهم.
وهنا، أخذنا نشعر بأن الفجوة التي انشقت أمامنا في سيارة فيصل حوراني في منتصف الستينيات قد أصبحت هوة عميقة تفصل حياتنا عن عالم العقل و المنطق. إذ تم ” إنتحار المعنى ” في الحياة العربية كما رآى محمود درويش.
لقد أخل ممدوح نوفل بالشرط الأول لكتابة ” روايه غير خيالية ” ناجحة، ألا وهو ضرورة عدم تواجد الكاتب في أحداث الرواية. إن سرد الكاتب لأحداث القصة وكأنه غير موجود يقدم له فرصة النفاذ إلى داخل نفوس أبطالها والدخول إلى قلوبهم وعقولهم. إلا أن ممدوح لم يستعمل هذه الفرصة لأنه كان موجودا في القصة من بدايتها حتى النهاية ، ولكنه تمكن من أن يهيئ للقراء الجو الذي يساعدهم على أن يكونوا في “الداخل ” يتجولون” في قلوب المشاركين في الإجتماع وعقولهم .
رأينا بضعة رووس فارغة، خاليه، غير ماهولة. وعندما يتكلم أصحابها فإنهم يفعلون ذلك وكأن في أفواههم أجهزة تسجيل تكرر كلاما يصلح لكل زمان ومكان ولا يزعج هدوءهم وراحتهم النفسية .
ووجدنا نفوسا أخرى مات فيها الإحساس بالمسؤولية، ولم يعد هناك ما يحرك فيها أي شعور بالاثارة أ و الدهشة، إذ تعودت منذ سنوات طوال على ممارسة “السياسة ” بنفس الطريقه التي تمارس فيها لعبة ” ورق الشدة”.
و تعرفنا على أناس ما زال عندهم ضمير حي وشعور بالمسؤولية إلا أن حضورهم كان موزعا بين نوبات من الجرأة والتهور ونوبات أخرى من الإحباط والقنوط.
وأخيرا، شاهدنا رجالا من الصعب التعرف على مكنون نفوسهم لأن عقولهم وقلوبهم محاطة بسياجات حديدية يصعب اختراقها.
وخرجنا من هذه الرحله “الداخلية ” ونحن حانقون على ” المارسات السياسية ” التي أوصلتنا إلى هذا الوضع من الفراغ والاستهتار والطيش والإحباط والأسرار الصغيرة.
وإذاا كانت شهادات فيصل حوراني احتجاجا على طريقة ممارسة السياسة في الوطن العربي بشكل عام، إفأن كتاب “ليله أنتخاب السيد الرئيس ” يعتبر أحتجاجا على طريقة ممارسة السياسة في الوضع الفلسطيني بشكل خاص.
(5)
ولكن الاحتجاج هو الاحتجاج ، وهوبالتأكيد ليس أدبا.
ولو أقتصر مجهود ترومان كابوتي على غطلاق صرخة إحتجاج على إنتشار روايات ” الأدب التجاري ” وانحسار دور” الأدب الجاد” لما سمع أحد بكتاب “بدم بارد “بعد عدة شهور من صدوره.
لقد أكد ترومان أكثر من مرة أن الحافز الرئيسي الذي دفعه لتأليف الكتاب كان أدبيا ولم يكن أبدا الاهتمام بالجريمه التي روى أحداثها في الكتاب.
كان ترومان يشعر أنه لا يستعمل ألا جزء قليلا جدا من قدراته الفنية في كل ما يكتب. ويرى أن سبب ذلك يعود إلى أنه يعيش تجربة الكتابة بشكل “مجزأ”. فأحيانا يكتب قصه يوظف في كتابتها خياله الروائي وعاطفته الوجدانية، وأحيانا أخرى يكتب تحقيقا صحفيا يستخدم في كتابته قدرته على المراقبة و التامل و التحليل. ولقد وجد في كتابة “بدم بارد” الأسلوب الذي ينهي حالة “الإنفصام”في الكتابة ويمنحه لأول مره القدرة على توظيف كل قدراته الفنيه الممكنة.
من هذه الزاوية نستطيع أن نفهم كيف تحول فعل “الاحتجاج” الى عمل فني مهم. فهو لم يكن إحتجاجا على الأوضاع الجديدة في العالم الخارجي. بل إنه على العكس من ذلك تماما، كان احتجاجا يتم في عالم الكاتب الداخلي لأنه لم يرتفع بعد الى مسؤلية الكتابة بالأسلوب المناسب عن الأوضاع الجديدة في الحياة الاميركية التي فرضتها الظروف الموضوعية. لقد أضاء ذلك الإحتجاج النور في نفس ترومان ومكنه من رؤية دور “الكتابة”الجديد في صراعها مع “الطباعة”, الذي هو دور اقتحام أهم حصن من حصون الطباعة ألا وهو الصحافة. وعندما كتب ترومان بأسلوب أدبي روائي في موضوع تهتم به الصحافة بشكل رئيسي وأثار إهتمام ملايين القراء فإنه في الواقع عمل على تقليص دور الأدب التجاري و استعادة الدور المركزي للأدب الجاد.
وهذا يقودنا تلقائيا لنتساءل عن معنى الإحتجاج الذي تفاعل في نفوسنا بعد قرائتنا كتاب “ليلة أنتخاب السيد الرئيس”
في المقام الأول، كان هذا إحتجاجا على عدم تمكننا من فهم اللغة التي يتكلم بها أعضاء المجلس المركزي وعدم قدرتنا على أستيعاب مفردات السياسة التي تمارسها القيادة الفلسطينية .
لقد أستمعنا إلى كلام في السياسه ليس له مرجعية.
لم نسمع أحداً ينطلق في موقفه من مبدأ معين. .وأقرب ما قيل حول الموضوع هي الشكوى التي تكررت حول طرح موضوع إختيار رئيس الدولة على المجلس المركزي دون أن يسبق ذلك أستشارة القيادة . ولكن استشارة القيادة بحد ذاتها ليست مبدأ. وخصوصا أن الذين كرروا تلك الشكوى لم يقولوا إنهم بحاجه إلى إستشارة قواعدهم في جباليا،أو الامعري، أو جنين، أو اليرموك، أوعين الحلوه، أو الوحدات..الخ.
ولم نسمع أحدا ينطلق في موقفه على أساس تمثيل مصلحة فئة معينة أو تجمع معين للفلسطينين. لم يتحدث أحد عن مصلحة اللاجئين ، أو مصلحة العمال , أومصلحة فلسطيني الداخل أو فلسطينيي الخارج.
لقد استمعنا إلى حديث في السياسه ليس فيه إحتكام الى مبادئ إنسانيه أو مصالح عامة . فماهو الشئ الذي بقي إذن من السياسة بعد أن تم أفراغها من المبادئ والمصالح؟ لم يبق ألا السلطة و المال كما يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل.
وهذا يعني بكل بساطة أن عالم “السياسة” كما تمارس في أروقه القيادات الفلسطينية هو عالم “القوة العارية” و ” المال العاري” . العالم الذي تم فيه انتحار المعنى، لأن المعنى لا يعيش في العراء.
ولكن غالبية الشعب الفلسطيني لا تعيش بلا معنى، إنها تعيش في المخيمات والقرى حياة يسود فيها معنى واحد، يرتكز على مبدأ واحد، يعبر عن مصلحة واحدة. وليس هناك”سياسة ” لها لغة مفهومة أكثر من لغتهم . وهم منذ 1948 قادرون على التضحيه بكل شيء من أجل إنتصار ذلك المعنى وذلك المبدأ وتلك المصلحه وتلك اللغة.
وأخيرا، هل كنا بحاجة إلى قراءة كتاب “ليلة انتخاب السيد الرئيس” حتى نشعر بأننا نعيش بشكل “مجزأ”، وإن في نفس كل واحد منا ذلك الصراع المستعر بين المعنى واللامعنى، بين المبدأ واللا مبدأ، بين اللغة واللا لغة . أليس هذا هو شعور كل فلسطيني أو عربي منذ سنوات؟
من المؤكد، لقد كان ذلك هو شعورنا قبل قراءة الكتاب، ولقد تعودنا على ذلك الشعور وألفناه وأدمناه حتى أصبح جزءا من طبيعتنا. ولكن قراءتنا للكتاب جعلتنا ننتفض كمن لسعه لهيب حارق. فالذي تعودنا عليه وعشنا في ظله سنوات طوال أنتصب فجاة أمامنا بقسوة وفظاعة وشراسة كشئ غريب مخيف لم نره أبدا من قبل.
هل كان ذلك حقيقيا ؟ أهكذا نعيش ؟ هل هذه هي الطريقة التي تحسم بها أمورنا ؟ ثم ما هو دورنا؟ وما هي علاقتنا بتلك القيادة ؟ كيف يمكن لها أن تكون على ما هي عليه ؟ ألم تأت تلك القيادة من بيننا ؟ ألم…. كيف….لماذا…؟
وهكذا فإن الاحتجاج الذي تفاعل في نفوسنا كان أيضا احتجاجا داخليا أضاء في أعماقنا الرغبة الجا محة في رفض الأمر الواقع لأنه غير عقلاني ، رفض الأمر الواقع لأنه غيرإنساني ، رفض الأمر الواقع لأنه غير ممكن ، رفض الاستمرار في الحياة في العراء تحت طغيان السياسة غير الممكنة : سياسة القوة العارية و المال العاري، فالغالبية العظمى من شعبنا تسلك بشكل أفضل.
و لهذا فإن كتاب ممدوح نوفل عمل فني. فلقد نجح في أداء مهمة الفن الأولى وهي أستعادة الاحساس بالحياة وتحويل ألاشياء المالوفة الى أشياء غير مألوفة.
لقد كتب ممدوح نوفل في “ليلة انتخاب السيد الرئيس” مشهدا من مشاهد التراجيديا العربية .