ماذا بعد فشل لقاء عباس ـ شارون ؟
بقلم ممدوح نوفل في 01/07/2005
لم يكن الفلسطينيون بحاجة لأجهزة استشعار متطورة أو لزرقاء يمامة تنبئهم بحتمية فشل لقاء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس برئيس الحكومة الاسرائيلية أرييل شارون والذي عقد في القدس يوم 21 حزيران/يونيو الماضي. فموقف شارون السلبي من محمود عباس كما ظهر في تصريحاته وتصريحات أركانه، قبل وبعد زيارة وزيرة الخارجية الامريكية كونداليزا رايس، بينت لمن يريد الحقيقة أن شارون يتصرف وكأنه لم يأخذ علماً بالتغير الذي حصل في الساحة الفلسطينية بعد رحيل ياسر عرفات أواخر العام 2004، بل وأزعجه انتقال السلطة بهدوء وتولي شخصية واقعية دفة القيادة الفلسطينية.
وأكدت اللقاءات التمهيدية التي عقدها صائب عريقات رئيس دائرة المفاوضات مع دوف فايسغلاس مستشار شارون، ولقاءات وزير الداخلية نصر يوسف ووزير الشئون المدنية محمد دحلان مع نظرائهم الإسرائيليين، أن شارون وأركانه يستخفون بنجاح ابو مازن في ارساء الهدنة ووقف العمليات العسكرية ضد إسرائيل، ويتصرفون وكأنهم لم يسمعوا أن عباس وحّد الأجهزة الأمنية وأجرى تغييرات في هيكلها، وبدأ معركة جدية ضد الفساد، ويحرص على نشر الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني وتكريس سيادة القانون. ويرفض شارون التسليم بالموقف الأمريكي الإيجابي من التغير الذي أجراه عباس، ويمتعض من ترجمته أمريكيا بفتح أبواب البيت الأبيض أمامه، ومن تجديد الرئيس بوش الحديث عن “خريطة الطريق” وحل النزاع على أساس دولتين “دولة فلسطينية بجوار دولة إسرائيل”، ومسائل أخرى ظن شارون أنه نجح في شطبها من قاموس عملية السلام ومن الخطاب الأمريكي.
إلى ذلك، لم يراهن ابو مازن يوما، قبل وبعد انتخابه رئيسا للسلطة، على “أخلاق” رئيس الحكومة الاسرائيلية، وهو يعرف جيدا عقليته وتكوين شخصيته وخلفيات مواقفه السياسية وتابع تطورها سنوات طويلة. لقد التقى عباس شارون، بناء على إلحاح أمريكي ومصري. وجاء اللقاء بعد أقل من أسبوع من زيارة مدير المخابرات المصرية عمر سليمان إلى تل أبيب، وبعد يومين من لقاء وزيرة الخارجية الامريكية كونداليزا رايس بشارون. وقبل عباس عقده في القدس على مضض، وكان يفضل عقده في أريحا او عند معبر “ايرتز” على حدود قطاع غزة. وراهن، بناء على ما سمعه في البيت الابيض ورام اللـه، على دور إدارة بوش في انجاح اللقاء، وذلك ليس حبا بالفلسطينيين بل حرصا منها على المصالح الأمريكية وتحسين العلاقة مع العرب وعلى نجاح دورها في توجيه السياسة الدولية في اقليم الشرق الأوسط. وفهم عباس أن الوزيرة رايس والوزير سليمان نجحا مع شارون حيث فشل صائب عريقات وفايسغلاس، وأقنعاه، بصيغة وأخرى، بضرورة التعاون مع السلطة الفلسطينية ورئيسها، وتسهيل جهوده في تعزيز قدرة الأجهزة الأمنية، والعودة الى التنسيق الأمني المشترك، وتنفيذ خطة الانفصال و”الانسحاب” من قطاع غزة واخلاء المستوطنات الاربعة في شمال الضفة، بالتنسيق مع الجهات الأمنية والمدنية الفلسطينية المعنية.
ونزولا عند رغبة أهل البيت الأبيض في واشنطن، ونصائح مصرية وأوروبية، قبل عباس على مضض، مقولة “الأولوية المطلقة لانجاح خطة الفصل والانسحاب من غزة”، وهو أصلا لم يطلب من بوش ورايس ومبارك وعمر سليمان الضغط على الحكومة الإسرائيلية لتحقيق المستحيل، واكتفى بالتمسك بنصوص “خريطة الطريق” كما أقرتها اللجنة الرباعية الدولية وتنفيذ تفاهمات شرم الشيخ التي وافق عليها مطلع شباط/فبراير الماضي بحضور الرئيس حسني مبارك والملك عبد اللـه الثاني. ولم يلح على انتزاع موقف مسبق بالتزام اسرائيل استئناف مفاوضات الحل النهائي حول القدس واللاجئين والاستيطان والحدود والمياه بعد استكمال الانسحاب من قطاع غزة.
وفي اللقاء فوجئ عباس بأن الجهود الامريكية والمصرية لم تكن بالمستوى المطلوب، ولم تؤثر في موقف شارون ولم تنضج أيا من القضايا المطروحة على جدول الاعمال. ولمس عباس ضعف وزن مصر الكبيرة في حسابات إسرائيل. ووجد شارون عنجهيا كما عرفه وكما تركه في آخر لقاء جمعهما عام 2003، حين كان عباس رئيسا للوزراء. وتصرف شارون بوقاحة وتعمد استفزاز الوفد الفلسطيني. ولم يحترم الاعراف الدبلوماسية وقرر التطاول بدل التعاون، ولم يكترث لتشوه الوساطة الامريكية والمصرية وفشلها، بل تعمد تشويهها وتصغير شأنها وتصرف وكأنها غير موجودة اصلا.
ولم يبد شارون أدنى رغبة في نجاح اللقاء، ورفض تحويل خطة “الفصل والانسحاب” من قطاع غزة من خطة أحادية الجانب إلى خطة ثنائية او ثلاثية يجري تنفيذها بصورة مشتركة، ورفض تنسيق تنفيذها وتسليم قوات الامن الفلسطينية المستوطنات الاربعة التي قرر اخلائها في شمال الضفة الغربية، واعتبر مسائل ما بعد الانسحاب شأنا إسرائيليا رفض بحثه مع الفلسطينيين، ورفض وقف تدمير بيوت أهل سلوان، وأصر على المضي في بناء الجدار وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية. واتهم عباس بانه يبالغ في الحديث عن ضعفه حتى لا يحارب الارهاب. واعترض شارون على محاولات السلطة تعزيز قدرات قوات الأمن الفلسطينية ورفض الافراج عن كميات مهمة من السلاح ضمنها ناقلات جنود قدمتها روسيا هدية للشعب الفلسطيني، ورفض إطلاق سراح دفعة جديدة من الأسرى القدامى، الذين يسميهم سجناء “أمنيين”، ورفض طلب عباس عدم التعرض لأحمد سعدات أمين عام الجبهة الشعبية والعميد فؤاد الشوبكي في حال خروجهما من سجن أريحا “الدولي”، ولم يتردد شارون في الحديث عن اعتقال بعض قادة أجهزة الأمن الفلسطيني وارسالهم الى السجن ذاته..الخ من مواقف استفزازية مقصودة.
ورغم هدوء ابو مازن وقدرته العالية على التحمل من اجل القضية، الا انه خرج عن طوره، ورد بانفعال، ودعا شارون بصوت عال الى الاستمرار في القمع والاحتلال، وأكد أن أجهزة الأمن الفلسطينية قادرة على التزود بالسلاح عبر التجار والطرق الاخرى التي تتبعها حماس. وتوترت الاجواء وغادر عباس الاجتماع وهو مقتنع بان شارون ماض في اضعاف السلطة ولا يريد له النجاح. وعاد محبطا من الدور الامريكي والجهود المصرية، وألغى مؤتمرا صحفيا كان قرر عقده..الى آخر القصة المعروفة. ويتساءل أعضاء القيادة الفلسطينية عن أسباب خذلان ادارة بوش لمحمود عباس. واثار بعضهم علامة استفهام حول الدور الذي لعبته الوزيرة رايس مع شارون، وأيهما نجح في اقناع الآخر بوجهة نظره. لقد ظهر وكأنها تبنت وجهة نظر شارون وتأثرت بأطروحته حول الارهاب وتردد عباس في محاربته، وتواطأت معه، وبدلت موقفها بدل التأثير في موقفه، وغيرت قناعتها بدل تغيير قناعته.
باختصار لم يكن لقاء عباس ـ شارون لقاء شريكين في عملية سلام واحدة. فمجريات الاجتماع ونتائجه تشير الى انعدام الثقة بين الطرفين وصعوبة نشوء شراكة في المستقبل المنظور. ومن يعرف ابو مازن يقول يصعب توقع علاقة تفاهم وتعاون بين الرجلين. فقد تصرف شارون بشكل عدواني مع ابو مازن ورفض تسهيل كل ما من شأنه تعزيز مكانته داخل فتح ومنظمة التحرير وفي مواجهة المعارضة. وأصر على مواصلة سياسة إضعاف السلطة ورئيسها. وتعمد تسريب عبر وسائل الاعلام الاسرائيلية كلام يسيء الى ابو مازن وسلطته ويضعفه في مواجهة المعارضة وفي الشارع الفلسطيني، منها قصة توبيخ المعلم للتلميذ الذي لم ينجز وظائفه. ونجح شارون في اقناع الوفد الفلسطيني بأنه لا يكترث لصعود التطرف في الساحة الفلسطينية، على اختلاف انواعه، على حساب قوى الاعتدال، وأنه قد قرر التربص للسلطة واجهزتها الامنية والتطاول على رئيسها وافشاله بدل التعاون معه واسناده.
أما وعد شارون لعباس حول الانسحاب من مدينتي بيت لحم وقلقيلية وتسليمهما للسلطة الفلسطينية في غضون أسبوعين، فلا يقلل من هذه الحقيقة، و”كرمه” بزيادة أذون حركة التجار الى اسرائيل وعدد تصاريح العمل للعمال يزيد في قوة الصفعة التي وجهها شارون للوفد الفلسطيني، ويجسد مدى مسخه لنتائج الوساطة المصرية والجهود الامريكية. وأغلب الظن أن اللقاء بين الرجلين لو لم يعقد لكان أفضل للأطراف الثلاث الفلسطينيين والمصريين والأمريكيين وايضا لأنصار السلام في إسرائيل والمنطقة.
بصرف النظر عن النوايا وعن رأي الوسطاء، خصوصا الوزيرة رايس والوزير عمر سليمان، فان اللقاء الذي تم ترتيبه بين رئيس السلطة الفلسطينية عباس ورئيس الحكومة الاسرائيلية أرييل شارون يوم 21 حزيران/يونيو 2005، كان فاشلا بامتياز. وهذا الفشل قررته الحكومة الاسرائيلية مسبقا. أما استثمار شارون واركانه استئناف بعض اطراف المعارضة الفلسطينية عملياتهم العسكرية في حشر عباس واحباط جهود الوسطاء وافشال اللقاء، فلا يعفي الوزيرة رايس والوزير سليمان من المسئولية عن سلوك شارون العنجهي مع الوفد الفلسطيني. وليس من المبالغة أن يستخلص المراقب أن جولة رايس الاخيرة شجعت شارون على التشدد في مواقفه، وأنها تحدثت بلغتين، وعادت الى مواقفها السابقة إبان عملها مسشارة لشئون الامن القومي، أي أنها عادت الى وجهة النظر الشارونية القائلة أن شيئا لن يتغير في المنطقة “قبل استئصال الارهاب ونشر الديمقراطية”. ومثل هذا التفكير كان سببا رئيسيا في فشل ابو مازن الذي راهنت عليه الادارة الامريكية يوم كان رئيسا للوزراء ثم خذلته.
بالتاكيد كان بامكان شارون ان يكون دبلوماسيا مع عباس لكنه تعمد أن يكون وقحا. ويبدو أن تعمده تسريب موقفه الاستفزازي العدواني ليس سوى بداية فصل جديد من هجومه المتواصل ضد السلطة وضد رئيسها محمود عباس. وفي جميع الحالات اعتقد ان فشل لقاء القدس يمثل محطة فاصلة في مسيرة العلاقات الفلسطينية الاسرائيلية في عهد ابو مازن، وهذا الفشل له مضاعفات سلبية كبيرة ومباشرة على حالة التدهئة ووقف اطلاق النار التي انجزها عباس وعلى تنفيذ خطة الانسحاب من القطاع. فهل ستعمل ادارة بوش على تدارك الموقف والحد من المضاعفات السلبية لفشل الوزيرة رايس وتدهور العلاقة بين الطرفين قبل فوات الاوان. والقادم أعظم وأخطر بعد تنفيذ شارون خطة الفصل والانسحاب من غزة. هذا اذا نفذها كاملة وفي موعدها.