هل يفجر الانسحاب من غزة الخلافات الفلسطينية وتعم الفوضى
بقلم ممدوح نوفل في 29/07/2005
خلال فترة حصار الرئيس ياسر عرفات المديدة كان الفلسطينيون مقتنعون بان شارون يتهم ابوعمار بالارهاب كي يستخدمه مشجبا يعلق عليه جرائمه التي يرتكبها بحق الناس في الضفة والقطاع، بدءا من سجن الرئيس في مقره، مرورا بالمداهمات والاغتيالات والاعتقالات، وانتهاء بنسف البيوت وقطع الاشجار، وجرف المزروعات والغاء الاتفاقات والتفاهمات التي تمت في عهد من سبقوه. وبعد وفاة عرفات بمرضه “المجهول”، أجمع الفلسطينيون، دون دليل طبي أو أمني ملموس، على ان شارون دس السم لرئيسهم وتخلص منه. ولم يغير التقرير الطبي الغامض الذي تسلمته السلطة من باريس قناعتهم، ولا يزال الامر محيرا لجميع من لا يزال يتذكر..
في حينه، احتار المراقبين في تفسير التناقض بين حاجة شارون الى عرفات كمشجب وبين التخلص منه. وكان جواب الخبراء بعقلية زعيم الليكود وأساليب عمل المؤسسة الأمنية الاسرائيلية مقنعا، خلاصته ان عرفات اغتيل في سياق تنفيذ توجهات شارون استبدا فيها “المشجب” بنشر الفوضى في الضفة والقطاع، خاصة بعدما تأكد ان عرفات ظل من سجنه يسيطر على الموقف وبامكانه الصمود سنوات، وان وجوده يحول دون انفراط عقد الفلسطينين ويبقى الفوضى في ساحتهم “منظمة” بالحدود التي يريدها عرفات.
أعتقد ان استخدام هذا الاستنتاج في قراءة الاحداث وتفسير مواقف شارون واركانه، منذ رحيل عرفات وحتى اليوم، ينهي الحيرة بشأن موقف اسرائيل السلبي من الرئيس الفلسطيني محمود عباس منذ انتخابه مطلع العام الجاري وحتى اليوم. ويبين اسباب رفض تنسيق “خطة الانفصال” مع الجانب الفلسطيني. ويفسر الغموض المتعمد وغير البناء في مواقف شارون والمؤسسة الأمنية الاسرائيلية في “الانسحاب” واجلاء المستوطنين عن قطاع غزة وتفريغ أربع مستوطنات معزولة في شمال الضفة.
وبصرف النظر عن الحديث الاسرائيلي واحيانا الفلسطيني عن تحقيق تقدم في اللقاءات التي عقدها الطرفان بشأن “خطة الانفصال” و”الانسحاب” واخلاء المستوطنين، فمجرى الأحداث على أرض العمليات في قطاع غزة لا يبين شيئا من هذا القبيل. ولم نلحظ تطورات سياسة او أمنية نوعية تدفع القيادة الاسرائيلية الى تغيير موقفها السلبي من السلطة ومن توجهات رئيسها محمود عباس، وتجبرها على التزام تنسيق الخطوة مع أجهزة الأمن الفلسطينية. لقد رفض شارون قبل أقل من شهر في لقاء مع ابو مازن عقد في القدس، التعاون مع اجهزة السلطة بشأن “الانسحاب” و”الاخلاء”. ورفض التجاوب مع طلبات متواضعة قدمها عباس ورئيس حكومته قريع تتعلق بتسهيل تعزيز قدرات الشرطة الفلسطينية وتمكينها من حفظ الأمن في المناطق التي سيتم “الانسحاب” منها. ورفض شارون تعزيز مكانة عباس وسلطته واطلاق سراح دفعة جديدة من المعتقلين، ولم تنسحب قواته حتى الآن من بيت لحم وبيقة المدن الخمسة التي قرر هو تسليمها للسلطة.
وفي اللقاء ذاته، أنب شارون عباس على تقصيره في محاربة الإرهاب وطالبه تجريد حركة حماس وقوى المعارضة من اسلحتها، وتسليح الشرطة الفلسطينية بما يصادره منهم. وتوترت علاقة الرجلين اكثر، ولم تفلح وزيرة الخارجية الامريكية كونداليزا رايس في زيارتها الأخيرة لتل ابيب ورام الله في رأب الصدع. والكل يعرف ان لقاءاتها لم تغير في موقف شارون وأركانه. واكتفت بالاشادة بشجاعة شارون وبخطوته التاريخية المتعلقة باخلاء قطاع غزة من الاستيطان، وتعهدت بتقديم توصية للرئيس بوش الاسراع في تقديم دعم مالي سخي ل”خطة الانفصال”، ولم تحاول الضغط على شارون ودفعه نحو التنسيق مع الامن الفلسطيني والتجاوب مع طلبات رئيس السلطة الفلسطينية المتواضعة.
وفي رام الله انصب اهتمام السيدة الوزيرة على شرح وتوضيح أهمية خطوة شارون، وطالبت عباس وقريع التحلي بالصبر ومساعدة شارون “المسكين” الذي يواجه متاعب كبيرة داخل حزبه ومع المستوطنين.
وبديهي القول ان الشيء الذي لم يعطيه شارون قبل أيام لوزيرة الخارجية الامريكية ولرئيس السلطة الفلسطينية، لن يعطيه لدحلان مسئول ملف “الانسحاب” ولا لوزير الداخلية نصر يوسف. ولا يزال شارون وأركان المؤسسة الأمنية يماطلون في تقديم إجابات واضحة ملزمة على أكثر من عشر ملفات: ادارة معبر رفح، وبناء الميناء، وتشغيل المطار، تواجد الجيش الاسرائيلي في محور فيلادلفي، دور الطرف الثالث، الجدول الزمني “للانسحاب”، ترتيبات تنفيذ الاخلاء وتسلسلها الجغرافي، الممر الآمن بين الضفة والقطاع، مصير المنازل والمنشئات الزراعية والصناعية. قيمة استغلال الارض والمياه مدة 38 سنة..الخ
وأيا كان موقف شارون واهدافه، اعتقد ان المصالح الفلسطينية العليا وضمنها مصالح حماس وقوى المعارضة تقتضي التعامل مع “الانسحاب” باعتباره مكسبا وطنيا يقرب الفلسطينيين من أهدافهم الوطنية. ويحرر جزءا عزيزا من الارض واكثر من مليون 300 الف فلسطيني من نير الاستعمار. وهذا الانجاز لم يحققه طرف بعينه، ولا يحق لحماس او سواها هضم حقوق مناضلين آخرين والادعاء بانه نتاج جهدها وحدها. انه حقا نتاج جهد قوى الشعب سلطة ومعارضة، وصمود الناس في ارضهم ومخيماتهم ومدنهم وقراهم في الضفة والقطاع وفي الشتات. وهو ثمرة تضحيات الشهداء والاسرى والمعتقلين والمرأة والطفل والعامل والموظف والطالب والفلاح.
الى ذلك، يمكن القول ان الاشتباكات المسلحة والمصادمات الدموية التي وقعت، قبل ايام، بين قوات الشرطة الفلسطينية ومسلحي حركة حماس، ومواصلة “قوات” فتح والجهاد الاسلامي والمقاومة الشعبية قصف بلدة سديروت والمستوطنات بالصواريخ والهاونات لا تصب في صالح معالجة الازمة الداخلية وتسمم اجواء العلاقات الوطنية وتزيد في الخسائر الفلسطينية. ولم تخفي القيادة الاسرائيلية انزعاجها من عدم اندفاع عباس ووزير داخليته نصر يوسف في قتال حماس. واعتبرت بعض الجهات الأمنية الاسرائيلية حصيلة الصدام في صالح حماس. حيث احتفظت باسلحتها وظلت المناطق والاحياء “الحمساوية” الحساسة محروسة من مسلحي حماس، وشبه مغلقة في وجه رجال السلطة. وقدّر البعض أن نزول قوات “المرابطون” الحمساويين في شوارع غزة وزواريب المخيمات، استعراض عضلات ينم نوايا مبيتة، ومناورة بالرصاص الحي و”بروفة” أجرتها حماس تمهيدا للسيطرة على القطاع بعد “الانسحاب”.
لاشك في ان محاصرة وتطويق الاشتباكات التي وقعت عمل يستحق الثناء والتقدير، لكن السؤال الوطني المتعلق بالنزاع ومسببات انفجاره بصورة دموية لا يزال قائما. ولم يتلقى الناس جوابا شافيا يعالج جذر الازمة، ولا أحد يضمن عدم تجدد الاشتباكات في كل لحظة، خاصة ان شارون واجهزته جاهزون للنفخ على الجمر الخلاف الكامن تحت الرماد. ولم يلمس الفلسطينيون تعهدا بعدم اللجوء للسلاح والتزام اسس وقواعد الديمقراطية سبيلا لحل الخلافات.
إلى ذلك، وفي سياق تصحيح العلاقات الوطنية قبل فوات الاوان، لا بد من معالجة الأزمة الساخنة المتعلقة بالتعامل الميداني مع عملية “الانسحاب” والاخلاء: هناك من يرى في هذا الحدث الهام فرصة ثمينة للانتقام واذلال جيش الاحتلال والاشتباك معه اثناء انسحابه وايقاع خسائر كبيرة في صفوفه كما حصل في جنوب لبنان في عهد باراك. يقابله رأي آخر يرفض هذا المنطق التبسيطي في التعامل مع هكذا حدث استراتيجي. صحيح ان منظر انسحاب الجيش الاسرائيلي وقوات العميل لحد من جنوب لبنان (الهروب) تحت وابل نيران حزب الله والمقاومة اللبنانية، بعث نشوة في نفوس الشعوب العربية خصوصا اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين والمصريين الذين عانوا الأمرين من الاحتلال الاسرائيلي. ولا جدال أيضا في ان خروج اسرائيل من قطاع غزة يعتبر سابقة هامة في مسيرة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي لها ما بعدها، ورؤية منظر “الخروج” الاسرائيلي يتكرر في غزة يبعث نشوة أكبر في نفوس الفلسطينيين في الداخل والخارج، ويزيد في أمل أهل الضفة والقطاع في التحرر من الاستعمار وسقوط الجدار وزوال الاستيطان وتحقيق الاهداف الاساسية. لكن التدقيق الهادئ في الموقف يبين تباينا جوهريا بين ظروف “الانسحاب” من جنوب لبنان والانسحاب المتوقع من قطاع غزة.
واذا كانت الخطوتان تندرجان تحت بند ترتيبات اسرائيلية أحادية الجانب، فالصحيح ايضا أن هذا التشابه لا يلغي التباين الجوهري بينهما وهو ليس محصورا فقط في مسائل تتعلق بالجغرافيا، ووجود الاستيطان في غزة الذي لم يكن له وجود في الجبهة اللبنانية، او في الاختلاف في سلوك حزب العمل بزعامة باراك عن سلوك حزب ليكود بزعامة شارون..الخ بل ان الأهم من ذلك كله هو ان خروج اسرائيل من جنوب لبنان تم خارج اي حوار وبعيدا عن كل ما له علاقة بعملية السلام، ولم يكن لاي طرف ثالث اي دور مباشر فيه، وكانت الادارة الامريكية خارج الموضوع، ولم يكن اللبنانيون معنيون بتشجيع القوى الدولية الضغط على اسرائيل للقيام بخطوات أخرى أكبر وأهم كما هو الحال مع الفلسطينيين الذين هم بحاجة الى كل ذلك.
وبجانب هذا وذاك، هناك مسائل جوهرية كثيرة تؤكد خصوصيات وضع الجبهة الفلسطينية على أنصار الاشتباك اثناء “الانسحاب” أخذها بعين الاعتبار. منها، ان القيمة المعنوية لصورة انسحاب اسرائيل تحت النار لا تساوي الخسائر البشرية والمادية التي قد تلحق بالناس، والاصرار على الاشتباك قد يتسبب في تأخير “الانسحاب” ويطيل أمده ويزيد عذابهم، ويوفر لشارون ذريعة لخنق القطاع وفصله عن الضفة.
وبصرف النظر عن النوايا فإن الأعمال العسكرية خلال “الانسحاب” يربك السلطة الفلسطينية ويضعف امكانية استثمار الخطوة وتحويلها الى سابقة في مسيرة حل النزاع، ويقلل من امكانية توظيفها في تحشيد القوى الدولية في الضغط على اسرائيل لتنفيذ خطوات مشابهة ثانية وثالثة في القدس والضفة الغربية. الى ذلك، ليس من حق أحد التسبب في تعطيل توجهات السلطة، وحرمان رئيسها المنتخب محمود عباس حقه في استكمال تنفيذ برنامجه الذي حاز على اساسه ثقة الناس. وهو يؤمن ان طريق الحل السياسي هو الاسلم وأقل كلفة وواجبه يفرض عليه بذل كل جهد ممكن لتحويل “خطة الانفصال” الى خطوة على طريق تنفيذ “خريط الطريق” الدولية وتفعيل دور اللحنة الرباعية صاحبة الخريطة.
وفي جميع الحالات على جميع القوى أن لا تنسى ان “الانسحاب” المبهج من قطاع غزة، يحرر جزءا من الشعب من الاستعمار الصهيوني البغيض، لكنه ليس نهاية الصراع ولا ينهي إحتلال الضفة ولم يحرر القدس، ولا يحل قضية اللاجئين.
لا جدال في حق حماس التطلع الى استلام السلطة، لكنها ترتكب خطأ استراتيجيا مدمرا إذا فكرت في تحقيق هذا الهدف بالقوة ومن خارج صناديق الاقتراع، وإذا واصلت استعراض قواها، وكررت الاشتباكات المسلحة التي وقعت مع اجهزة الاسلطة. من حقها ومعها جميع القوى الفلسطينية مطالبة ابو مازن وقيادة فتح والمجلس التشريعي تنفيذ ما تم تم التوافق عليه في القاهرة وسواها بشأن اجراء الانتخابات المحلية والتشريعية. لكن لا يحق لأحد فرض نفسه سلطة بديلة او سلطة موازية والتحرك لملء الفراغ الذي يخلفه “الانسحاب”، أو مزاحمة السلطة في السيطرة على الاراضي والمنشئات التي يخليها الاحتلال، فهذه مهام منوطة بالسلطة وحدها ولا أحد سواها. وأظن ان أي سلوك فصائلي مخالف لهذه البديهة يؤدي الى زج قطاع غزة في فوضى عارمة تمناها شارون قبل وبعد رحيل عرفات.
اعتقد ان افشال مشروع شارون يفرض على جميع القوى الوطنية والاسلامية وضع المصالح الوطنية فوق الاعتبارات الحزبية. وفي هذا السياق آمل ان تتقبل قيادة حماس نصيحة وطنية من شقين، الاول التحرر من الغرور وعدم حرق المراحل، وقراءة حركة الرياح الدولية في هذه المرحلة بدقة، والتحلي بالنفس الطويل في تحقيق الأهداف الوطنية والحزبية، والتريث وعدم التسرع في الحركة نحو “قصر الرئاسة”، واعتماد الانتخابات طريقا وحيدا للوصول الى قمة السلطة ورفض كل طريق آخر. والشق الثاني من النصيحة هو نبذ الافكار “الطالبانية”، نسبة لحركة لطالبان، المسيئة للاسلام والمعادية للحضارة والتقدم والتطور التي ظهرت في السلوك، وتطهير الصفوف من “الطالبانيين” الذين يعتبرون (مثلا) اقامة
مهرجان فني دربا من الانحلال الخلقي.. !