إعصار “ميليس” تحرك نحو المنطقة وعلى الفلسطينيين الابتعاد عن طريقه
بقلم ممدوح نوفل في 25/10/2005
مطلع تشرين الأول الجاري، وقبل ظهور تقرير المحقق الدولي القاضي الألماني “ديتليف ميليس”، أرسل رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن، عبر أصدقاء مشتركين، رسائل الى عدد من الشخصيات السياسية اللبنانية منهم رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وزعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط والشيخ سعد الحريري، كرر فيها موقفه المعروف من قضية الوجود الفلسطيني في لبنان الذي أبلغه للقوى اللبنانية خلال زيارته بيروت مطلع العام الجاري. واكد ابو مازن أن الفلسطينيين ليسوا طرفا في نزاعات لبنان الداخلية، وضد توريطهم فيها وفي اي صراع عربي عربي، خاصة النزاع السوري اللبناني الذي نشأ على خلفية اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الاسبق رفيق الحريري. وانه ضد استخدام ورقة الوجود الفلسطيني في لبنان في هذا النزاع من اي طرف كان. وكرر مقولته “الفلسطينيون في لبنان ضيوف الشعب اللبناني وحكومته”، و .م .ت .ف. حريصة على توحد اللبنانيون والعرب حول مساندة نضال الشعب الفلسطيني من أجل استرداد حقوقه”. في حينه، استقبلت رسالة الرئيس أبو مازن بارتياح شديد من جميع اللبنانيين وعبروا عن تقديرهم للموقف الفلسطيني الرسمي ولمبادرة الرئيس عباس بالاتصال.
الى ذلك، ظل أبو مازن يعبر عن قلقه مما يجري لبنان وحذر في الاجتماعات الداخلية من دفع الوضع الفلسطيني الى ساحة السجال السياسي الدائر في هذا البلد. ونبه لمحاولات قيادات فلسطينية تقيم في الخارج زج المخيمات في النزاع لحساب قوى اقليمية وحسابات أخرى لا علاقة لها بالقضية. ولم يتأخر الوقت حتى بدأ الحديث في الاعلام عن نقل سلاح وانتقال مسلحين من سوريا الى المخيمات الفلسطينية في لبنان والى قواعد عسكرية خارج المخيمات تابعة لمنظمة “القيادة العامة” بزعامة ” جبريل”. وترافق الحديث مع زيارات قام بها شخصيات فلسطينية الى سوريا ولبنان دون تكليف من القيادة، وعقدت لقاءات وصدرت بيانات وتصريحات فصائلية رفضاوية ضارة، أبرزها بيان “جماعة جبريل”، أحرج قيادة السلطة و م. ت. ف. وكاد يورط الفلسطينيين في نزاع مع الحكومة اللبنانية وأطراف أخرى. عندها لم يتردد الرئيس عباس في الاتصال برئيس الحكومة اللبنانية “السنيوره” وأبلغه موقفا واضحا خلاصته؛ السلطة والمنظمة ضد توريط المخيمات الفلسطينية في الخلافات اللبنانية او النزاعات الدائرة على أرضه وحوله، وهي براء من نقل سلاح وانتقال مسلحين من سوريا او اي بلد عربي الى المخيمات. واعتبر ابو مازن هذه الأعمال، إذا حصلت، اساءة بالغة مقصودة للقضية ومنظمة التحرير وللعلاقات الأخوية الفلسطينية اللبنانية.
وأوضح أبو مازن في رسائله، دون لبس، أنه وقيادة المنظمة ضد أي تواجد عسكري فلسطيني خارج المخيمات، وأن السلاح الفلسطيني في المخيمات تحت تصرف الحكومة اللبنانية، والمهم هو توفير الأمن للمخيمات وتوفير الأمان لسكانها ريثما يتم حل قضيتهم وفق الشرعية الدولية. وابو مازن مقتنع بأن التفكير باستعادة دور ما للسلاح الفلسطيني في لبنان بعد انتقال مركز ثقل الحركة الفلسطينية والقرار الفلسطيني من الحارج الى الداخل لا معنى له، وهو في كل الاحوال خارج الزمن المتعلق بالقضية الفلسطينية وخارج التوقيت للقضايا الوطنية اللبنانية. وأكد أبو مازن ان كل موقف آخر يعبر عن وجهة نظر صاحبه فقط، ايا كان اسمه وموقعه في السلطة او المنظمة.
ولم يتردد ابو مازن في ابلاغ وسائل الاعلام استنكاره لبيان “القيادة العامة” الذي هاجم رئيس الحكومة اللبنانية، ووصف البيان بأنه قليل أدب يضر بالمصالح الفلسطينية. ورفع ابو مازن الغطاء عن كل من يحاول الإساءة للعلاقة الفسطينية اللبنانية واللعب بأوضاع المخيمات، ولقي موقفه تقديرا لبنانيا عاليا. وكرر عباس موقفه علنا في باريس بعد لقاء الشيخ سعد الحريري ورئيس الوزراء السنيورة.
و قبل تسليم تقرير “ميليس” الى أمين عام الامم المتحدة حول جريمة اغتيال الشهيد الحريري منتصف شهر شباط الماضي، حذر عباس من عواقب التقرير وشدد على صيانة الوضع الفلسطيني خصوصا في لبنان من العاصفة التي تتهيأ للتحرك نحو المنطقة. وبينت ردود الفعل المحلية والاقليمية والدولية على التقرير صحة تقديرات عباس ومشروعية قلقه على الفلسطينيين في لبنان وعلى الشعبين اللبناني والسوري. ويخشى تدهور الوضع وانفجار أزمة جديدة، بجانب الأزمة العراقية، تلحق الضرر بالمصالح القومية العليا للشعوب العربية خصوصا نضال شعب فلسطين من اجل انتزاع حقوقه.
حقا ان تقرير “ميليس” مذهل. ولم يخلو من مفاجئات أهمها الوضوح والصراحة وتسمية الأشياء باسمائها: اشار دون لبس الى وجود خيوط وأدلة على تورط “النظام الأمني السوري اللبناني” وبعض حلفاء سوريا وعملائها في الجريمة. وسمى من السوريين واللبنانيين عددا من أركان المؤسستين الأمنيتين في البلدين، وسمى من الفلسطينيين جماعة “جبريل”، ومن القوى اللبنانية كوادر في تنظيم “الأحباش” المتفرع من الجماعات الاسلامية. وأجل “ميليس” ذكر آخرين أطلق عليهم اسم السيد إكس (X ). وقال: “يصعب تخيل تنفيذ سيناريو مؤامرة اغتيال شديدة الحساسية والتعقيد من دون علم الاستخبارات السورية واللبنانية المتغلغة في مؤسسات الدولة والمجتمع”. واتهم أركان رئيس الجمهورية اللبنانية الأمنيين الضلوع في المؤامرة. واتهم صراحة جنرالات لبنانيين بالضلوع في الجريمة وتنسيقها مع قائد الاستخبارات العسكرية السورية في لبنان اللواء رستم غزالة. وأشار الى تورط مسؤولين سوريين آخرين منهم اللواء آصف شوكت مدير الاستخبارات العسكرية السورية وماهر الاسد شقيق الرئيس بشار. وسمى آخرين حاول تضليل التحقيق واحدا منهم فاروق الشرع وزير الخارجية السورية.
لا شك فيه ان بعض معلومات تقرير “ميليس” كان متوقعا من كثير من السياسيين العرب والأجانب. لكني دهشت من كمية ونوعية المعلومات والوقائع والأسماء التي جمعها المحقق “ميليس” خلال فترة قصيرة حول متى وكيف دبرت الجريمة. ولم أكن أتصور أن يصل التدني المهني في مجال الامن لهذا المستوى عند المؤسستين الامنيتين السورية واللبنانية، المتهمتين بالجريمة. وان تصل الحماقة السياسية وتردي الاخلاق وانعدام الاحساس بالمسؤولية الوطنية الى هذا المستوى المنحط عند من وردت اسمائهم كمتورطين في تدبير وتنفيذ الجريمة. وشخصيا لا اجد تفسيرا منطقيا لمواقفهم ولا أدري هل هم جهلة ام خونة.
الى ذلك، اعتقد ان ما قاله المحقق “ميليس” يمثل قمة جبل الجليد وطرف الحبل الطويل الذي سوف يجر عددا من أركان “النظام الأمني السوري اللبناني” الى قاعات المحاكم والسجون الدولية واللبنانية. وأظن ان تفاعلات التقرير لن تتوقف عند هذا الحد وسوف تترك بصماتها على الوضع في سوريا ولبنان وعموم المنطقة، وقد لا تتوقف قبل حدوث تغيير نوعي في بنية النظام السياسي في سورية.
وبصرف النظر عن رأي البعض في الحصيلة الاولية للتقرير فهي برأيي هائلة وتشير الى أحد أمرين: ان يكون المحقق ضلل وأغرق في التفاصيل بأمل إرباكه وتشويش عمله. أو ان يكون من دبر وخطط ونفذ الجريمة مغرورا بذاته وبنفوذه وسطوته، ولم يكترث لانكشاف دوره ودور أعوانه. انه ساذج في حساباته لم يقدر الموقف بعد الاغتيال واستهتر برد الفعل اللبناني والاقليمي والدولي المحتمل. شخصيا أرجح الاحتمال الثاني، وهو صورة واقعية لعنجهية أجهزة الأمن العربية المتخلفة. وإن من بسّط لنفسه ولقيادته أمر اغتيال شخصية وطنية كبيرة، من وزن رفيق الحريري، ولم يحسب بدقة النتائج والمضاعفات عربيا ودوليا، لا يفكر في مخاطر توزيع الدم على القبائل وتوسيع العصابة واشراك عددا كبيرا من الاشخاص والقوى في ورشة التحضير والتخطيط لتنفيذ الجريمة.
وأيا تكن نوايا وأهداف المتورطين في الجريمة والتباين في المواقف من تقرير “ميليس” وما سيقوله في شهادته أمام مجلس الامن الدولي، وما سيرد في تقاريره اللاحقة من حقائق وغرائب وعجائب جديدة، فإن الجزء الأول من المسلسل مثير والتقرير ليس أقل من “إعصار” من عيار ثقيل بدأ يتحرك من نيويورك نحو المنطقة، ونتائجه قد تكون مدمرة في دمشق وبيروت، ودماره لا يقل عن دمار الزلازل التي ضربت المنطقة في حرب الخليج الأولى والثانية واحتلال قوات صدام دولة الكويت، وزلزال “أسلحة الدمار الشامل” الذي ضرب العراق وتداعياته ما زالت تمعن في تدمير العراق وتمزيق وحدته وقتل الالوف من أبنائه.
ويبدو ان في الساحتين السورية واللبنانية من هو مصمم على وضع الفلسطينيين في مواجهة “الاعصار”. وهناك أيضا من الفلسطينيين من يسعى لتوريط م. ت. ف. والشعب الفلسطيني في الأزمة تحت شعار الدفاع عن المخيمات وعن حق الفلسطينيين في اقتناء السلاح لتحرير أرضهم والدفاع عن وجودهم. اعتقد ان موقف عباس وضع النقاط على الحروف وحدد اتجاه الحركة والمطلوب من الوطنيين الفلسطينيين خصوصا قوى م ت ف في لبنان ووجهاء المخيمات قطع الطريق نهائيا على العملاء وعديمي الاحساس بالمسؤولية بغض النظر اسمائهم ومسمياتهم. أما تقليص خسائر العرب وتجنيب سوريا ولبنان كارثة حقيقية، فانه يتطلب الانكفاء بسرعة ودون تردد أمام “اعصار ميليس”. والخطوة الاولى تبدأ بتعاون القيادة السورية مع لجنة التحقيق والاندفاع في محاسبة من تورط في جريمة اغتيال الحريري ايا كان موقعه. وهذا الموقف يتطلب تضحية وشجاعة في تحمل المسؤولية والتعامل مع الحقائق كما هي ووضع العواطف جانبا.
وفي جميع الحالات على الفلسطينيين اينما كانوا الابتعاد عن طريق الاعصار. ولا حاجة “لحكماء العرب” انتظار نتائج اجتماعات مجلس الامن الدولي وقراراته. وأظن أن الاخطار المحدقة بالأمة تستدعي تحرك سريع للحيلولة دون انقسام العرب وسط “الاعصار” وعقد قمة عربية طارئة تضع جميع الزعماء أمام مسؤولياتهم، وتساعد البعض في النزول عن الشجرة..واخيرا يفيد التذكير ان الزمن في حالات الزلازل والاعاصير قيمته غالية ويحسب بالثواني والدقائق وكل تأخر في التعاطي معها له ثمنه. والفلسطينيون في كل مكان يتمنون على الأشقاء العرب ان يتحركوا بسرعة ويجنبوهم نتائج كارثة جديدة، والتجربة علمتهم ان كوارث العمل تعمق جراح نكبتهم.