أولوية وطنية استثنائية للمسألة الأمنية
بقلم ممدوح نوفل في 15/11/2005
الحلقة الثانية)
بصرف النظر عن رأي المعارضة الفلسطينية، خصوصا أنصار العمل العسكري و”العمليات الانتحارية”، في المسائل الامنية، فإن السلطة لا تستطيع تجاهل التطورات السياسة، الاقليمية والدولية وداخل اسرائيل، وتأثيرها على أمن الشعب الفلسطيني، وتجد نفسها ملزمة بمراعاتها عند رسم السياسة الأمنية الفلسطينية. وترى ان اعتبارات كثيرة زادت في أهمية الموضوع الامني وجعلته استثنائية، وأهمها:
أولا/ تعاظم دور الأمن في تحقيق الاهداف الوطنية.
بينت وقائع الحياة، في العقد الماضي، أن شرعية السلطة الفلسطينية المستمدة من التاريخ ومن الانتخابات الشعبية المباشرة والحرة لا تكفي لحماية وجودها وتثبيت دورها. وأكدت التجربة أنه لا غنى عن دور مباشر لقوات أمن فلسطينية قوية في حماية مراكز ومؤسسات السلطة وفرض احترام قرارات الحكومة واحترام اتفاقاتها مع إسرائيل والأطراف الدولية والاقليمية. وجاءت أحداث غزة الأخيرة وتعدي بعض القوى المسلحة على مراكز الشرطة وأفرادها لتعزز هذا الاستخلاص. وان عدم تردد “قوات” “حماس” في استخدام السلاح في تلك الاحداث ضد أجهزة السلطة ومؤسساتها، يبين ان وضع السلطة معرض لاخطار حقيقية وليس توجهاتها السياسية فقط.
الى ذلك، زاد تعثر عملية السلام وصعود التطرف في الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي، في أهمية المساءل الامنية عند الطرفين وفي العلاقة مع الادارة الامريكية وباقي القوى الدولية المعنية باستقرار اوضاع المنطقة. وبات موضوع الأمن ومحاربة “التطرف” ومنع العمل العسكري ضد اسرائيل وتدمير البنية التحتية “للارهاب” شروطا إسرائيلية لاستئناف عملية السلام. وحظي هذا الشرط بدعم قوي من الولايات المتحدة الامريكية وقوى دولية اخرى كثيرة. وأيا يكن رأي القيادة الفلسطينية في الموقف الاسرائيلي ـ الأمريكي فلا خيار أمامها سوى تشغيل أجهزتها الأمنية في هذه المهمة، وعلى الأجهزة الامنية النجاح فيها والفشل ممنوع. وإذا كانت العمليات “الانتحارية سهلت على القيادة الاسرائيلية اقناع العالم بوجهة نظرها، فإن فطمئنة المواطن الاسرائيلي على أمنه ونجاح قوى الأمن الفلسطينية في تطبيق التزامات السلطة الشرعية المنتخبة، يشجعه على التحرك نحو الاعتدال والابتعاد عن القوى اليمينية المتطرفة ويعطل استغلال أحزاب اليمين عقدة الأمن لاغراض أيدلوجية وحزبية، ويعزز فكر السلام مع العرب والفلسطينيين.
وبصرف النظر عن إدعاءات شارون بشأن دور السلطة في الحقل الامني واتهامها بالتقصير في محاربة الارهاب، فإن تصريحاته وشروطه التعجيزية على اللقاء برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس تدلل على توجه يرمي الى اضعاف السلطة ورئيسها ونشر الفوضى في صفوف الفلسطينيين، ولا تترك مجالا للشك في تصميمه على متابعة سياسة الخطوات أحادية الجانب والتوسع في الاستيطان واستكمال بناء جدار الفصل، وشطب مقومات قيام دولة فلسطينية. وسوف يعمل بكل السبل لجعل “خطة الانفصال” و”الانسحاب” والاخلاء التي نفذها في قطاع غزة نهاية المطاف في السلام مع الفلسطينيين لسنوات طويلة. وبديهي القول ان هذه المواقف والاعمال الاسرائيلية العدوانية تعرض أمن المواطن الفلسطيني لاخطار استراتيجية وتضعف قوى السلام في الشارع الفلسطيني وتعزز قوى المعارضة والاتجاهات المتطرفة. وتبقى العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية على درجة عالية من التوتر. وتفحص مواقف الطرفين ومصالحهما يشير الى ان توتر العلاقة الفلسطينية الاسرائيلية سوف يزداد ويتوسع، وترتفع درجة حرارته أكثر في العام القادم عام الانتخابات الاسرائيلية. واذا كان فوز عمير بيرتس، زعيم الهستدروت النجم الشرقي الصاعد، على شمعون بيرز الاشكنازي المخضرم بزعامة حزب العمل يعجل في فك الائتلاف الحكومي بين حزبي العمل والليكود. ويقرب الانتخابات برلمانية فتجربة العقد الأخير تؤكد أن سنة الانتخابات الاسرائيلية غالبا ما تكون فترة توتر مع الفلسطينيين. وتتوقع السلطة أن يرفع شارون من وتيرة ضغطه عليها وعلى ناسها، بأمل استرضاء قوى اليمين وكسب أصوات المتطرفين العنصريين المعادين للفلسطينيين والعرب. واظن ان التطورات المتوقعة في العام القادم على الجبهة الفلسطينية الداخلية سوف تزيد أيضا في الاعباء الامنية.
وفي كل الأحوال، اذا كانت السلطة غير قادرة في هذه المرحلة على مجابهة الخطر الذي يمثله الاحتلال الاسرائيلي وسياسة اليمين المتطرف بقيادة شارون، فهذا الامر لا يبرر خروج قوى المعارضة الفلسطينية على الأنظمة والقوانين والتطاول على السلطة ورئيسها المنتخب. ولا يعني أن تخضع السلطة ومؤسستها الامنية لابتزاز لقوى الحزبية المتربصة بها، خاصة اذا لم تلتزم بالديمقراطية ولم تحترم نتائج الانتخابات.
ثانيا/ مركزية موقع الأمن في الفكر السياسي الاسرائيلي:
يبين الحوار مع مؤسسات المجتمع المدني الاسرائيلي أن مسألة الأمن الفردي والجماعي عقدة تاريخية عاشها الاسرائيليون، اشكناز وسفارديم، مؤيدون ومعارضون للسلام، نشأت مع المجازر والمحارق التي ارتكبها النازيون في اوروبا في ثلاثينات واربعينات القرن الماضي بحق اليهود.أضيف اليها كوابيس عقود من الخوف من الخطاب العربي حول تدمير دولة اسرائيل وذبح اليهود ورميهم في البحر. الى ذلك، بلورت القيادة الاسرائيلية، منذ قيام الدولة، استرتيجية أمنية متكاملة وحددت قواعدها الأساسية على النحو:
ـ اعتبار الاراضي التي حصلت عليها اسرائيل بالقوة عام 1948ـ 1949، وعبر قرار الأمم المتحدة رقم 181 ، لا توفر الامن الاستراتيجي لدولة اسرائيل، ولا تلبي “الحقوق التاريخية” لليهود. ورفضت اسراتيل ولا تزال تحديد حدودها مع جيرانها الفلسطينيين وتعتبر الامر مس بأمنها وعقيدتها.
ـ رفض الالتزام بتنفيذ كل قرار للامم المتحدة تعتقد انه يمس بأمن دولة اسرائيل، وعدم توقيع اي اتفاقات ومعاهدات دولية او اقليمية يمكن ان تعرضة للخطر.
ـ الاعتماد في صيانة أمن دولة اسرائيل على القوى الذاتية اولا، واعتبار دور القوى الصديقة والعوامل الخارجية الأخرى عوامل فرعية مساعدة. وعملت القيادات الاسرائيلية المتعاقبة على بناء المؤسسات الأمنية والقدرات العسكرية الكفيلة بذلك. وعندما وافقت القيادة في مرحلة ما في المفاوضات على مشاركة الاستخبارات المركزية الامريكية C I A في الاجتماعات الامنية الفلسطينية الاسرائيلية اعتبر منظرو الامن الاسترتيجي الاسرائيلي اعطاء الامريكان دورا مباشرا في المسائل الامنية خطأ لم تتاخر حكومة باراك في التراجع عنه، خاصة وان مواقف C I A لم تأتي في صالح اسرائيل وأحرجتها في بعض الاحيان.
ـ تكريس وجود دولة اسرائيل وتعزيز أمنها بنقل اكبر عدد ممكن من يهود العالم إليها وتهجير معظم الفلسطينيين وتدمير قراهم ومصادرة اراضيهم وممتلكاتهم. وشكلت حكومة اسرائيل من البداية دائرة خاصة باملاك الغائبين استولت على املاك الفلسطينيين الثابتة والمنقولة. وهذه الدائرة من اكثر الاماكن سرية في اسرائيل، حتى الآن، يحظر على اصحاب الحق والباحثين في التاريخ وحقوق الانسان دخولها.
ـ رفض الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني وانكار حقوقه في بلده وارضه. وظلت القيادات الاسرائيلية المتعاقبة، حتى سنة1991، ترفض التفاوض المباشر وغير المباشر مع اي جهة فلسطينية كممثل له. وفقط في اتفاق اوسلو في العام 1993 اعترفت بالشعب الفلسطيني وبممثله منظمة التحرير .
ـ رفض عودة اللاجئين الفلسطينيين الى أرضهم وممكتلكاتهم التي أرغموا قسرا على مغادرتها وتركها، واعتبار عودتهم خطرا استراتيجيا على أمن دولة اسرائيل وهويتها ووجودها. والاصرار على حل مشكلتهم بالتفاوض مع الدولة العربية ومؤسسات الامم المتحدة في اطار توطينهم واستيعابهم في اي مكان في العالم باستثناء اسرائيل. وبعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة في حرب عام 1967 اضافت اسرائيل النازحين الذين اضطروا على مغادرة بيوتهم بسبب تلك الحرب الى قائمة المواطنين الممنوعين من العودة. وبعد اتفاق “اسلو” عام 1993 ماطلت في تنفيذ البند المتعلق بعودتهم.
ـ الاصرار على الدخول في مفاوضات مباشرة مع الدول العربية كل على انفراد لحل الخلافات الثنائية، ورفض التفاوض مع وفد موحد يمثلها او يمثل مجموعة منها، والعمل على التوصل الى اتفاقات ثنائية ومعاهدات صلح مع كل طرف على انفراد وبما يحقق أمن اسرائيل الكامل.
ـ اخضاع علاقات اسرائيل الدولية والاقليمية لصالح تعزيز أمنها وتحقيق اهدافها الاستراتيجية وبناء التحالفات وعقد الاتفاقات على هذا الاساس. واستثمار دور الجاليات اليهودية والمنظمات الصهيونية في العالم في خدمة امن اسرائيل وتطوير اقتصادها.
وبعد قيام دولة اسرائيل عام 1948 واعتراف العالم بها أبقت القيادة الاسرائيلية قضية اضطهاد اليهود في اوروبا حية، وسنت قانون الجنسية وحق العودة لليهود ونجحت بمساعدة خارجية اوروبية وامريكية في تجميع نسبة كبيرة من يهود العالم وضمنهم يهود الدول العربية في فلسطين. ويسجل لها انها أجادت صياغة روايتها التاريخية لجذر النزاع وسبب الصراع، واقنعت جمهورها واقسام واسعة من الراي العام الامريكي والاوروبي بروايتها فترة طويلة. وزرعت الحقد والكراهية في عقول مواطنيها ضد العرب. وظلت تنظر لمن بقى من الفلسطينيين في ارضه في اسرائيل كثعبان يرقد في الفراش الاسرائيلي، وتعاملت معهم فترة طويلة كأعداء، وفرضت عليهم احكام عرفية قاسية.
الى ذلك، وضعت القيادة الاسرائيلية مسألة الامن الجماعي والفردي في قمة أولويات عملها وعلاقاتها. وجعلت من الأمن مسالة مصيرية احاطتها بهالة مقدسة، وحولته الى عقدة حقيقية نفسية جماعية تحكمت ولا تزال في تحديد اتجاهات الراي العام الاسرائيلي. وظلت استراتيجية اسرائيل ومفاهيمها الامنية، منذ قيامها موضع اجماع داخلي بين القوى الحزبية بمختلف تلاوينها السياسية والايدلوجية. وخلال نصف قرن طورت استراتيجيتها باتجاهات هجومية وأخذت أشكال اكثر عدوانية ولم تلغي اي من بنودها الاساسية، باستثناء اقرارها سنة 1991 بوجود شعب فلسطين واعترافها لاحقا بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا له وقبلت التفاوض المباشر معها ووقع الطرفان اتفاق اوسلو اشهير 1993.
وعلى مدى سنوات طويلة وظفت حكومات اسرائيل المتعاقبة امكانات مالية كبيرة في الحقل الامني، وكيفت بناء الاقتصاد والتعليم والثقافة ومؤسسات المجتمع المدني لخدمة استراتيجيتها الامنية. واستخدمت القيادة الاسرائيلية في نصف قرن الأساليب المبدئية وغير المبدئية والوسائل المباحة والمحرمة دوليا واخلاقيا لتحقيق استراتيجيتها الامنية. ويسجل لها انها أجادت ركوب رياح الباردة التي اندلعت مطلع خمسينات القرن الماضي بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي ووظفتها في تحقيق اطماعها التوسعية في الاراضي والمياه الفلسطينية والعربية.
ورغم تخلي الحكومات العربية عن الخيار العسكري لحل النزاع، وتراجعهم عن أفكارهم الداعية الى تدمير دولة اسرائيل، وتخلي الفلسطينيين عن الكفاح المسلح خيارا وحيدا لحل النزاع وانتقالهم من خنادق القتال الى غرف المفاوضات، الا انهم فشلوا في اقناع القيادة الاسرائيلية بالتخلي عن مفاهيمها الامنية القديمة، ولم يستطيعوا نزع ذريعة الامن وتعطيل استخدامها مبررا للهروب من دفع استحقاقات السلام.
صحيح ان اتفاقات السلام المصرية والاردنية والفلسطينية مع اسرائيل احدثت ثغرات في جدار الامن الاسرائيلي وغيرت جزئيا مزاج الشارع الاسرائيلي تجاه الأمن والعلاقة مع العرب والفلسطينيين، لكن هذا التغيير لم يأخذ مداه ولم يرقى لمستوى تحرير مفهوم الامن من تأثيرات الايدلوجيا الغيبية ولم يبلغ مستوى التاثير في القرار السياسي الرسمي. ولم تقتنع القيادة الاسرائيلية حتى الآن ان صنع السلام مع العرب يفرض تجريد الامن من الايدلوجيا ومفاهيم التوسع والهيمنة. والتدقيق في الشق الامني من اتفاق “اوسلو” وما تلاه يؤكد نجاح اسرائيل في ابتزاز الجانب الفلسطيني وفرض شروطا امنية مست سيادته على الارض وحدت صلاحياته في المرحلة الانتقالية.
ورغم انطلاق عملية السلام وتوصل اسرائيل الى اتفاقات مع مصر والاردن وم. ت. ف. ظل أطراف النظام السياسي الإسرائيلي موحدين حول مفهوم الأمن بأبعاده لأساسية. وجميعهم يعبرون سرا وعلنا عن أربع مخاوف أمنية استراتيجية: الأول، خطر وقوع هجوم عسكري مباغت تشنه الجيوش العربية، يوما ما، ضد اسرائيل، تكون أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة وقوات السلطة الفلسطينية رأس حربتة. والثاني تحول الدولة الفلسطينية، يوما ما، إذا قامت الى دولة معادية لاسرائيل تسعى لتحقيق طموحات الفلسطينيين في أرض فلسطين التاريخية وإعادة اللاجئين الى بيوتهم، وتستعين بالفلسطينيين في اسرائيل لتحقيق هذه الاهداف. والثالث، ان تعقد الدولة الفلسطينية تحالفات واتفاقات مع قوى اقليمية ودولية معادية لاسرائيل. والرابع، ان يواصل “المتطرفون” الفلسطينيون انصار العمل العسكري تنفيذ عمليات إرهابية ضد اسرائيل والاسرائيليين عبر أراضي الدولة الفلسطينية.
الى ذلك، ظلت المخاوف الأمنية المبالغ فيها تتحكم بالموقف الإسرائيلي في عهد اليمين واليسار وكلاهما استخدم ذريعة الأمن في الهروب من دفع استحقاقات السلام. وخلقت “انتفاضة الأقصى” “المعسكرة” مناخا خصبا لتعزيز التطرف في الشارع الاسرائيلي. وأحيت العمليات “الانتحارية” التي نفذتها “حماس” والقوى الفلسطينية الاخرى خوف الاسرائيليين من العرب، وسهلت على القيادة الاسرائيلية إحياء مقولة “اسرائيل جزيرة صغيرة تعيش وسط بحر عربي معاد وبحاجة الى مساندة دولية دائمة”.
ثالثا/ انتشار ظاهرة “الارهاب” على المستوى الدولي.
زادت أحداث ١١ سبتمبر في أمريكا، والعمليات الأرهابية التي وقعت في اسبانيا وبريطانيا واندونيسا في اهتمام العالم في محاربة ظاهرة الارهاب. وبات موضوع الأمن الذاتي للدول وضمنها الدول الكبرى، قضية مركزية في سياساتها وعلاقاتها بعضها ببعض. واذا كانت المصالح الفلسطينية العليا تفرض على السلطة التفاعل مع إعلان الامم المتحدة ودول ديمقراطية كثيرة حربا شاملة ضد الارهاب والارهابيين، فهذا الأمر يزيد في أهمية بناء مؤسسة أمنية فلسطينية قوية. وبغض النظر عن الاسباب، فإن نجاح شارون في ادراج أعماله العدوانية ضد الفلسطينيين ضمن الحرب على الارهاب، وتحوّل منطقة الشرق الاوسط خصوصا العراق الى ساحة قتال ضد الارهاب، يزيد في أهمية المسالة الأمنية في السياسة الفلسطينية. ويتمنى الفلسطينيون في الضفة والقطاع ان لا يجدوا انفسهم في العام القادم منشغلين بأمن شعوب عربية أخرى وأمن اخوانهم اللاجئين في سوريا ولبنان.