عرفات بالغ في قدرات الانتفاضة وأخطأ في قراءة المتغيرات الدولية
بقلم ممدوح نوفل في 06/11/2005
ذكرى رحيل عرفات مناسبة لمراجعة شاملة
(الحلقة الثانية)
ظلت حياة عرفات االسياسية صاخبة، وكانت دوما حافلة بالأحداث مليئة بالحركة والمفاجآت. وعاش أكثر من نصف قرن في ميدان العمل السياسي والحركي وسط حقول من الألغام والمتفجرات كانت دائما قابلة للاشتعال السريع والانفجار في كل لحظة، لكن مرونته و”ميكيافيليته” وقدرته العالية على قراءة حركة الزوابع السياسية قبل وصولها إليه واتقانه المناورة والتكتيك وبناء التحالفات وفكها بسرعة..الخ مكنته الخروج بسلام من الكمائن السياسية والحزبية التي نصبت في طريقه. كما أولى العلاقات الشخصية مع الناس والكوادر والزعماء أهمية كبيرة وتعامل معها باعتبارها ركنا هاما من أركان العمل من أجل القضية وكسب التضامن ضد الظلم، وأيضا لتعزيز الدور القيادي والمكانة الشخصية. ونجح في مقاومة محاولات تقليص نفوذه وتحويله إلى شخصية رمزية مجردة من الصلاحيات.
آمن ابوعمار بالسلاح وسيلة لتحقيق اهداف شعبه لكنه لم يهمل الحلول السياسية. ورغم تشبث بلباسه العسكري واعتزازه بأنه مقاتل، إلا أنه كان رجل سياسة ناضل بصدق من أجل صنع سلام حقيقي مع الاسرائيليين. رفع غصن الزيتون في غمرة تمجيد الكفاح المسلح وناشد الامم المتحدة “لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي”. وساهم بفعالية في اقناع دول العالم وزعمائها بعدالة قضية شعبه وبحقه في الحرية والاستقلال. ونجح في دفع الحركة الفلسطينية خطوة نوعية باتجاه الواقعية وكان دوره حاسما في بلورة البرنامج المرحلي عام ١٩٧٤ الذي جمد تحرير فلسطين من النهر الى البحر وأقر دولة على جزء من الارض. وفي عهده نبذ الفلسطينيون الارهاب واعترفوا بالقرارين ٢٤٢ و٣٣٨ أساسا لحل النزاع، ووافقوا على دولة حدودها الاراضي الضفة والقطاع التي احتلت عام ١٩٦٧. وبدون جهده لم يكن ممكنا تمرير “مبادرة السلام الفلسطينية” عام ١٩٨٨ التي وافق فيها “البرلمان” على قيام دولتين للشعبين على أرض فلسطين التاريخية، وهو الذي تحمل وزر قبول اتفاق اوسلو الشهير عام ١٩٩٣. ولا أحد سواه كان يمكنه انتزاع قرار المجلس الوطني عام ١٩٩٦ الذي لغى بنود “الميثاق الوطني” شبه المقدس عند الفلسطينيين.
أدرك عرفات مبكرا أن المال والعسكر والإعلام أركان أساسية من أركان الحكم، وأحكم سيطرته عليها في فتح ومنظمة التحرير. ولم يرد في حياته طلب مساعدة وصل يديه، واشتهر بانه صاحب قرار “يصرف له”. وصرف بقلمه مساعدات مالية كبيرة استفاد منها ناس فقراء محتاجون كثيرون في جميع المناطق ومن كل الفئات، واستفاد من سخائه أيضا محتالون ونصابون وبعضهم جمع ثروة، وظلت أوامره اليومية تخرق القوانين والنظم المالية والتنظيمية والإدارية.
كان رجلاً تكتيكياً، وسياسيا مناوراً من طراز رفيع خاصة في إدارة الصراعات الداخلية، ونجح بجدارة في إحكام سيطرته على الوضع “الفتحاوي” الخاص والفلسطيني العام، وتفرد في قيادة السفينة وسط البحور الهائجة التي عبرتها في النصف الثاني من القرن العشرين. وحافظ بثقله المعنوي والسياسي على جملة من التوازنات داخل “فتح” وفي الساحة الفلسطينية. والمحافظة على هذه التوازنات والتحكم بها يفرض على خليفته العمل لسنوات طويلة. فرض عرفات بأساليب مختلفة مواقفه وتوجهاته السياسية والتنظيمية على عموم الحركة الفلسطينية، وكرس نمطا خاصا من العلاقات يمكن وصفها “بديمقراطية التراضي” سمّاها “ديمقراطية غابة البنادق”. كان يسمع آراء الجميع وفي النهاية يتخذ القرار الذي يراه مناسبا. صحيح انه حرص على بناء مؤسسات وهيئات قيادية، لكنه الصحيح ايضا انه ابقاها شكلية ولم يحترم يوما قراراتها.
لم ينسف عرفات جسرا بناه مع عدو أو صديق، وكان يحرص على بقاء شعرة معاوية حتى في علاقته مع الشيطان. ولم يكن يغضب من رواية حكايته مع إبليس التي تقول: ذهب عرفات لأداء مناسك الحج، وفي موقع رمي الجمرات رجم إبليس ٦ جمرات واحتفظ بالحجر السابع، وظن مرافقه أنه أخطأ في العد وقال له سيدي الرئيس، رميت ٦ رجمات، فأجابه بصوت منخفض: إغرش يا بني لا ترفع صوتك حتى لا يسمعنا الله، من يدري قد تتبدل المواقف وتتحسن علاقة إبليس مع الله عندها أذكّره بأني كنت أرحم من الآخرين”.
كان عنيدا في الدفاع عن القضايا الوطنية وظلت مناكفة الملوك والرؤساء العرب وغير العرب حول المسائل الفلسطينية الجوهرية تبعث في نفسه نشوة استثنائية. وبقي حتى آخر يوم في حياته يتباهي بجرأته في التصدي لكل من حاول التطاول على الشعب وحقوقه المشروعة، وآخرها، أنه الوحيد بين الزعماء العرب الذي قال لا كبيرة لرئيس امريكي ” كلينتون” في عقر داره في البيت الابيض عندما طالبه تقديم تنازلات تمس الثوابت الوطنية المتعلقة بالقدس والارض وحقوق اللاجئين. ويومها رفض أبو عمار الخضوع والاستسلام لكلينتون ومساعديه ودعاهم للسير في جنازته.
وإذا كان عرفات معروفاً في أوساط النظام الرسمي العربي بأنه مفتعل الأزمات ومنبع المشاكل، واتهم في عهد بوش وشارون بالارهاب والفساد وتزعم حركة ارهابية وأنه يقود شعبه نحو الهلاك..الخ، فإن وقائع الحياة تؤكد أيضا أنه لم يكن متطرفا ومثّل تيار الاعتدال في الساحة الفلسطينة. وهو نفسه منح بعد اتفاق اوسلو رجل شهادة رجل سلام يؤمن بالتعايش بين الشعبين. إن رجلا حاز على جائزة نوبل للسلام وسجل رقماً قياسياً في زيارة واشنطن ودخول البيت الابيض و(دخله أكثر من ٣٠ مرة) لا يمكن أن يكون ارهابيا يعشق القتل والدمار. وإذا كان أبو مازن وأبو علاء هندسا اتفاق أوسلو فالصحيح أن عرفات كان مرجعيتهم ولعب دور كبير المهندسين وكانا يعودان إليه في كل صغيرة وكبيرة، ويبقى هو المسئول عن سلبيات وإيجابيات هذا الاتفاق وجميع الاتفاقات التي انبثقت عنه.
في عهده فجر الشعب الفلسطيني انتفاضتين ضد الاحتلال؛ الاولى لم يكن للقيادة الفلسطينية دورا في تفجيرها لكن عرفات ببراعته ركب موجتها وقادها من بعيد وصار مرجعيتها والتزمت قيادتها بمواقفه وقراراته. اما الانتفاضة الثانية فيمكن القول بتجرد ان عرفات استغل زيارة شارون للحرم القدسي الشريف وكره الناس للاحتلال في تفجيرها، واستثمر الغضب الشعبي الفلسطيني من التلاعب بعملية السلام في تأجيجها. ولم يحاول أبوعمار التنصل من مسؤوليته عندما اتهم بتفجيرها. ولم يتردد في عسكرتها ورأى في ذلك أداة ضغط. ولم يعترض على بيان “فتح” الذي اعتبر “الانتفاضة خيار استراتيجي للتحرير..ويجب استهداف العدو داخل “ما يسمى بالخط الأخضر”، ولم يأبه للتهديدات الاسرائيلية ردا على البيان.
إلى ذلك أكدت وقائع الحياة ان تشجيع عسكرة الانتفاضة واندفاع البعض في عمليات انتحارية ضد المدنيين الاسرائيليين عزز التطرف في الساحة الفلسطينية والحق أضرارا بالمصالح الفلسطينية العليا وسهل على شارون وصم النضال الفلسطيني بالارهاب. واظن أن مبالغة عرفات في تأثيرات الانتفاضة على الموقفين الاسرائيلي والدولي قاده إلى تبني مواقف متشددة الحقت خسائر بالشعب الفلسطيني. وضيّع عرفات فرصة تحسين الموقف الفلسطيني والتوصل إلى اتفاق “ناقص” يتم بموجبه حل معظم القضايا الرئيسية وتأجيل قضيتي القدس واللاجئين ودون الالتزام بانهاء النزاع. وعندما اشتد الحصار من حوله ولم يتحرك أحد لنجدته، قال: “أعرف أن الحصار سوف يطول وأنا أدفع ثمن موقفي في كامب ديفيد ورفضي الخضوع للإرادة الأمريكية والاستسلام للشروط الإسرائيلية.
تمتع عرفات بقدرة عالية على الحدس وكانت بمثابة حاسة سادسة اعتمد عليها احيان كثيرة في تقدير الموقف ورسم التوجهات. لكن حدسه أخطأ حين استهتر بتولي شارون رئاسة الوزراء وواصل اللعب في الملعب العسكري حيث يتفوق عدوه. وارتبك عرفات في التعامل مع احداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ ومع اعلان الادارة الامريكية الحرب على الارهاب، وتسبب ذلك في خسائر للفلسطينيين. وسهل على شارون الصاق تهمة الارهاب بالنضال الفلسطيني العادل والمشروع. وواستغل شارون ذلك وطور أعمال القتل ووسع عمليات الاعتقال، ودمر أجهزة السلطة وفرض الاقامة الجبرية على عرفات نفسه بضع سنوات دون رادع.
ولكن، بالرغم من الاخطاء والملاحظات الكثيرة التي يمكن ان تسجل على مواقف عرفات وأسلوبه في الحكم، فإنه نجح في إحياء قضية شعبه واعاد اسم فلسطين الى خريطة المنطقة الجيوسياسية وقاد ربعه نحو الاعتزاز بهويتهم. وساهم في ايقاظ أمة من سباتها ونبهها إلى أخطار استراتيجية تحيق بها. وظل يؤمن بأن الثورة ستنتصر وتقوم دولة فلسطين وعاصمتها القدس، وأن طفلا سوف يرفع علم فلسطين فوق مآذن وكنائس القدس “شاء من شاء وأبى من أبى”. وسيؤكد التاريخ أيضا ان رحيله خسارة كبيرة لحقت بصنع السلام في الشرق الاوسط وانه كان صادقا حين قال: “عقدنا اتفاق أوسلو وعدنا للوطن مقتنعين بصنع السلام، لكنا وجدنا مجتمعا اسرائيليا غير ناضج لسلام عادل، وقيادة عنجهية لا ترى أبعد من أنفها، تحاول شطب التاريخ وتحويل السلام الى استسلام”. وأظن أنه الوحيد الذي كان قادرا على خرق المحرمات وتحمل أعباء توقيع اتفاق حول قضايا القدس واللاجئين يتضمن تنازلات تاريخية. إن القيادة الإسرائيلية ارتكبت خطأ استراتيجيا عندما لم تستثمر مرحلة عرفات في الوصول لحل نهائي للنزاع وسوف يدفع الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي وشعوب المنطقة ثمنا باهظا لهذا الخطأ الجسيم.
وأعتقد أن التاريخ سوف يخلد ذكرى أبوعمار الرمز، وأشهد أن سيرة هذا الرجل لا يمكن تغطيتها ببضع مقالات، فهي مجلدات تضم في صفحاتها تاريخ أمة في سيرة رجل.
ممدوح نوفل