عرفات قاد السلطة بعقلية الثورة ولم يسلم بوقائع لم يرغب بها
بقلم ممدوح نوفل في 06/11/2005
(الحلقة الأول
بعد عام على رحيله، ظلت أسباب وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات مجهولة ومحيرة، تماما كما كانت حياته لغزا محيرا استعصى فهمه على من لم يعرفه عن قرب. ولا يزال هناك من يعتقد انه كان انسانا جامدا معقدا قاسيا على نفسه وعلى الآخرين. لكن من عرفه عن قرب يشهد انه كان انسانا عاطفيا ودودا خجولا ومتواضعا. وكانت له شخصيتان متعارضتان تعايشتا في جسد واحد: شخصية ياسر عرفات، رجل السياسة البراجماتي الذاتي الماكر المناور، وشخصية أبوعمار الرمز المبدئي الفدائي المناضل والاب. وكثيرا ما اصطدمت الشخصيتان في محطات اتخاذ القرارات الصعبة، وظل هو منحازا لشخصية الوالد المناضل يحل التناقض لصالح ابوعمار الرمز. ولم يكن عرفات السياسي أو ابوعمار الرمز يسلم بسهولة بوقائع لم يرغب بها، انحنى امام العواصف والضغوط لكنه لم يستسلم للخصوم والأعداء.
أحب أبو عمار الحياة الدنيا حتى آخر لحظة في حياته. لكنه لم يستمتع بملذاتها التي تمتع بها الناس، وكانت له متع خاصة: عشق السلطة بشغف وكرس لها حياته، وفي مرحلتي الثورة والسلطة أمسك بمقدراتها واستمتع بتوابعها الجوهرية والشكلية، بدءا من المشي فوق البساط الاحمر واستعراض حرس الشرف أينما حل وأداء التحية عندما تعزف فرق الموسيقى النشيد الوطني، مرورا بلقاء زعماء العالم ومخاطبتهم وتمثيل فلسطين في المحافل الدولية، وانتهاء بسهر الليالي وعقد الاجتماعات الماراثونية “للقيادة” وإصدار أوامر خطية وشفوية تتعلق بمساءل إدارية وعسكرية وتنظيمية أساسية وتفصيلية.
الى ذلك، يصعب الحديث في تاريخ فلسطين السياسي ومسيرة الحركة الفلسطينية في النصف الثاني من القرن الماضي بمعزل عن سيرة عرفات الشخصية والنضالية. ويعترف له خصومه وانصاره على حد سواء بانه نجح بجدارة في طبع مرحلة كاملة من تاريخ القضية وحياة الحركة الوطنية بطابع “عرفاتي” مميز يصعب محوه من الذاكرة الفلسطينية. وابو عمار محمد عبد الرؤوف القدوة لم يرث الزعامة عن أب أو جد وهو أصلا ابن اسرة متواضعة الحال. بلغ موقع قائد “فتح” ومنظمة التحرير ورئيس دولة فلسطين بجهده الشخصي، وعرف بصبره وشجاعته وقت الشدائد والمحن.
بعد تشكيل الزعماء العرب عام 1964 منظمة التحرير خشي ابوعمار تجدد الوصاية الرسمية العربية على الفلسطينيين وعجل في اطلاق رصاصة الثورة واعلن الكفاح المسلح وسيلة رئيسية لتحرير فلسطين، ولم ينضبط لقرار اخوانه الذين دعوا للتريث واستكمال عمليات التحضير اللازمة. ورأى في هزيمة الجيوش العربية في حرب حزيران/ يونيو 1967 مدخلا لانبعاث حركة فلسطينية مقاتلة مستقلة. ورفع شعار “ارض فلسطين المقدسة تفلحها عجولها فقط”، وانتقل الى الضفة الغربية واتخذ من مدينة نابلس وريفها مقراً لقيادته. وهناك عرفه الفلاحون باسم “الحاج أبو محمد”. وبدا له ريف الضفة قاعدة مثالية للعمل الفدائي. وارتدى لباس الفلاحين واعتمد مثلهم الحطة “الكوفية” غطاء للرأس. ومنذ ذلك التاريخ وحتى وفاته لم تغادر الحطة رأسه إلا ما ندر، واستحسن في المرحلة الأولى اللون الأبيض اسوة بالوجهاء وكبار السن، ولاحقا، اعتمد حطة مرقطة بخطوط سوداء، وقلده ربعه من الفدائيين، وبعدها صارت شعاراً ورمزاً للمناضلين في العالم من أجل الحرية والداعمين لها.
كان ابو عمار قائدا ميدانيا شارك المقاتلين حياتهم ومعاركهم وظل قريبا منهم يهتم بأوضاعهم ويزورهم في مواقعهم، والموقع الذي لم يزره في النهار زاره في الليل، وحفظ عن ظهر قلب أسماء الكوادر وكانت ابوابه دائما مفتوحة لهم. وبنى لنفسه رصيدا نضاليا كبيرا وراكم خبرة غنية، وبهما عزز مكانته في صفوف شعبه وكرس شرعيته التاريخية. وعندما سمحت الظروف عام 1996 انتزع بجدارة شرعيته الدستورية والقانونية عبر الانتخاب المباشر. وبعد انتخابه اول مرة رئيسا لدولة فلسطين في المجلس المركزي في تونس في ربيع 1989 تغلبت شخصية أبوعمار الفدائي على الرئيس عرفات. وقال في أكثر من مناسبة: “لا تخطئوا، انتخابي رئيس دولة واصطفاف حرس الشرف لأداء التحية واستقبال زعماء العالم لا يغريني ولن أتخلى عن بندقية الثائر، ولا تنسوا أني لم اخلع بدلتي العسكرية بعد”. يومها قال له أحد المقربين مازحا: تعبنا من السير الطويل معك، هل ستخلع البدلة العسكرية بعد دخول القدس؟ رد: ربما ولكن مش أكيد. وبعد عودته الى أرض الوطن عام 1994 وانتخابه رئيسا للسلطة بالتصويت الشعبي الحر المباشر حافظ على شخصية الفدائي ولم يتخلى عنها.
على مدى اربعين عاما لم يشاهد ابوعمار يرتدي ملابس مدنية سوى ملابس النوم “بيجاما”. كان يبدي اعجابه بملابس المحيطين به ويثني على الانواع الفاخرة الجميلة، لكنه ظل يرتدي ملابس عسكرية وبدى لمن لا يعرفه وكأنه لا يملك سوى واحدة واختها فقط، وأشهد ان خزانة ملابسه لم تحتوي بدلة مدنية.
في “زمن الدولة” وقبله زمن الثورة، ظل ابو عمار حريصا على استقلالية الحركة الوطنية واستقلالية القرار الفلسطيني. وامتاز بطاقة عالية على العمل وظل سنوات يعمل أكثر من خمسة عشر ساعة يوميا، ولم يبق مجال عمل لم يتدخل فيه. وكرس عادات ثابتة فرضت نفسها على العمل الفلسطيني. كان منتصف الليل ذروة نشاطه وقمة صفاء ذهنه. شغله الجدي يبدأ بعد الثامنة مساء ويواصل السهر حتى الفجر ونادرا ما نام قبل الرابعة صباحا. عادات تناول الطعام عنده ثابتة؛ يتناول العشاء قبل أو بعد منتصف الليل بقليل ثم يصلي الفجر وينام. كان يكره الجلوس على مائدة الطعام بمفرده ويستدعي المرافقين والمراسلين ومن يتواجد في مكتبه الى مائدته إذا غاب الضيوف. بعض المقربين توقعوا بعد زواجه حدوث تبدل في عاداته لكنه خيب ظنهم. وكثيرا ما سببت عادة العمل طوال الليل ازعاجا للصحفيين والسياسيين. المرحوم كمال جنبلاط كان واحدا منهم، دعي ذات مرة منتصف الليل لحضور اجتماع القيادة المشتركة، وعندما تكررت الدعوة تساءل لماذا تتشابه القيادة الفلسطينية في عملها مع العاملات والعاملين في النوادي الليلية..
ظل ياسر عرفات يتصرف كخبير في جميع ميادين العمل، بدءاً من بناء الجسور وشق الطرق (كونه درس الهندسة في الجامعات المصرية وعمل مهندسا مدنيا في الكويت)، وحتى إدارة المفاوضات مع أعظم الرؤساء وأعرق الخبراء. اشتغل في كل شيء بدءا من صرف ملابس المقاتلين وأحذيتهم واسلحتهم وذخيرتهم وانتهاء بلقاء الزعماء “وعلى رأسهم “بريجنيف” حسب تعبير الشهيد سعد صايل مدير غرفة العمليات في زمن دولة الفاكهاني في بيروت.
كان لابو عمار حياته الخاصة كرجل، لكنه بقي أعزبا ستين عاما وظل يفتخر بزواجه من القضية ومعها بندقية. وكان يستمتع بإزعاج إخوانه ورفاقه المتزوجين باستدعائهم في أوقات متأخرة من الليل. وفي إحدى السهرات، بعد انتخابه رئيسا لدولة فلسطين في تونس مطلع نيسان/ابريل 1989، سأله أحدهم: تخيل أبو عمار أننا نجحنا وطردنا الاحتلال وأقمنا دولة مستقلة فهل ستتزوج وتنهي غيرتك من المتزوجين، وتتركنا ننام دون استدعاءاتك المعهودة بعد منتصف الليل؟ رد بسرعة وقال مازحا: لن أترككم تنعمون بما لا أنعم به. وأضاف بجدية: زواج ما رح أتزوج..أنا راجل كبرت وصرت عجوز ولن أجد من تقبل بي. ثم كيف أتزوج وهناك في العروبة والاسلام من يتآمر على القضية. الزواج يلهيني بعض الوقت عنهم وهذا تقصير خطير لا أتحمل مسؤوليته أمام الله والتاريخ..وعندما تزوج لم يقم الأفراح ولم يحيي ليال ملاح، ولم يمنح نفسه اجازة ولم يغير نمط حياته ولم يول الحياة الزوجية اهمية وظلت القضية زوجته المفضلة.
امتاز عرفات بقدرته على التعامل مع جميع صنوف البشر، وظل يحب التفاصيل ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة. ولم يكن يتحمل وشوشة اثنين في حضرته حتى لو كانا اقرب الناس اليه، وكان يتدخل ويحاول معرفة ما يدور بينهما، وكثيرا نهض وفرقهما وجر أحدهما بيده الى مكان قريب منه.
بقي أبو عمار حتى مماته يعتز بأنه قائد شعب الجبارين، وفي أحد زياراته للهند قيل له هناك شاب فلسطيني نجح في تقلد موقع الأب الروحي لطائفة دينية كبيرة يرغب باللقاء بكم، ويتمنى عليكم إظهار احترامكم له ولتقاليد جماعته. وافق أبو عمار على الطلب واستقبل “الراب” وفقا للتقاليد وفي الخلوة الثنائية شكر الشاب الفلسطيني أبوعمار على حفاوة الاستقبال ووضع نفسه تحت تصرفه. وسأله أبوعمار كيف وصل المرتبة الدينية العالية، وروى الشاب القصة بصدق وصراحة. وتفاخر الشاب بعدد اتباعه البالغ 12 مليون انسان وسأل كم عدد اتباعك يا أبو عمار؟ رد أبو عمار: “أنت لديك 12 مليون انساناً عادياً لكني أقود 6 ملايين فلسطيني كل واحد فيهم يعتبر نفسه ربا زيك..”
كان أبو عمار رجلا مؤمنا يصلي ويصوم ويقرأ القرآن في شهر رمضان، لكنه لم يكن متزمتا في الدين ولم يطلب من أحد الصلاة معه ولم يقاوم عدم التزام المقربين منه بالصيام. ولم يتورع عن استخدام الدين لأغراض سياسية وكثيرا ما تعمد ابقاء دبلوماسيين ينتظون حتى ينتهي من صلاة طويلة أمامهم، وكانت لصلواته رسالة سياسية خلاصتها انه رجل مؤمن صادق فيما يقول. في حصار بيروت عام 1982 اعتمد عرفات على “الاستخارة” من القرآن في رفض عرض المبعوث الامريكي “فيليب حبيب” الخروج بلباس الصليب الاحمر الدولي. يومها خرج من اجتماع القيادة واختلى بنفسه وتوضأ وفتح القران وعاد يقول هبت رياح الجنة، القرآن أمرني مواصلة القتال ورفض عرض “حبيب” الامريكي. وغادر الاجتماع مسرعا الى غرفة العمليات وواصل القتال حتى انتزع خروجا مشرفا.
تعرّض أبوعمار في حياته لعديد محاولات القتل والاغتيال، وبحدسه الأمني نجا مرات كثيرة من موت محقق، وكثيرا ما تم تشييعه الى مثواه الاخير لكنه في كل مرة كان ينهض من نعشه ويشد أزر المشيعيين. صحيح أنه كان رجا قدريا آمن بالقضاء والقدر، لكنه آمن أيضا بقول الرسول “اعقل وتوكل”. وظل يولي أمنه الشخصي أهمية استثنائية ويشرف عليه بنفسه وعندما شعر بانه أصيب بالسم قال “يبدو انهم نجحوا في الوصول الي هذه المرة”.وعندما حام الموت حول ابو عمار سخر منه وتمرد عليه مرات كثيرة، أشهرها عندما سقطت طائرته في الصحراء الليبية. ونجا باعجوبة مرة ثانية عندما طارده شارون بالمدافع والدبابات والطائرات في بيروت عام 1982. وعندما اشتد الحصار ودقت جرافات شارون جدران غرفته في “المقاطعة” قاوم الموت بشراسة ولم يركع، وقال جملته الشهيرة؛ “يريدونني طريدا او أسيرا وأريدها شهيدا شهيدا شهيد”، ولم يشك أحد في صدقه ومات واقفا في الميدان يوم 11 تشرين الاول/ نوفمبر 2004، ودفن في ساحة المقاطعة حيث خاص آخر معاركه القاسية. ونال وسام البسالة والصمود بجدارة.