أخو غبار الحرب زميل مداد القلم
بقلم حسن البطل في 24/07/2006
هل أنعى ممدوح نوفل كآخر “المغبّرين”.. أم أدعو لرفيق حروبه “فرحان” بطول العمر، باعتباره “مغبراً” آخر؟ ماتت أمي وهي تسأل عن “الشباب” واحداً واحداً، لانها غسلت ملابسهم الفدائية المغبرة (والمقملة أيضاً).. وكذا جواربهم وملابسهم الداخلية.
لكم ان تتصوروا رائحة جوارب الفدائيين، بعد ان احتبست أقدامهم اسبوعاً بأيامه ولياليه في احذيتهم الفدائية، أو عدد “القمل” في ثنايا ثيابهم المرقطة، بعد ان حرموا اسابيع من حمام ساخن في قواعدهم “السرية” في الجولان المحتل، او شدة قرصة المعدة، التي تصرخ “طبيخ يمّة.. طبيخ”؟. سئموا معلبات الحرب.
قبل شهور، ربما زهاء العام، سألتني تلك السيدة: ألم تعرفني؟ كلا!.. أنا زوجة “فرحان”. أخشى ان ينقر رجل كهل على كتفي ويسألني: ألم تعرفني؟.. أنا فرحان. سررتُ ان “فرحان” على قيد الحياة. هناك، اذاً، واحد من “المغبرين” لا يزال فوق الارض حياً يرزق، وليس تراباً تحت التراب في مكان ما. كان فرحان أمهر الفدائيين في رماية الهدف.
عشر سنوات وأمي تسألني في قبرص عن “الشباب” واحداً واحداً. كان سرورها طافحاً عندما علمت ان ممدوح يقود قوات “التمدد العرفاتي”، حسب النعت السوري. قالت: “الشباب تعقلوا”. وضحكت، فقد زجرتهم عندما كانوا، اواخر حقبة الستينيات وطيلة حقب السبعينيات يوجهون نقداً حاداً لعرفات. قالت لهم: مش كل زلمة يصير زعيماً؛ مش كل زعيم يصير زعيماً على الفلسطينيين.. وابو عمار زعيمنا!
ماتت أمي، دون ان تدري ان ممدوح نوفل صار واحداً من المستشارين العسكريين لياسر عرفات، لكن ممدوح، الذي التقيته في رام الله بعد انقطاع قبرصي طويل، سُرّ لأنني حملت أمانة أمي له.. وطبعت قبلتين على وجنيته.
سيستعير الشعر من الزهور، وسأقول مع القائلين ان الرعيل الفدائي الاول كان بمثابة “غبار الطلع”. ربما مثل غبار “الخرفيش” الشائك، الرقيق جداً، والذي تحمله أجنة الريح وتبعثره في أركان الجهات كلها (الجبهات كلها) واشكال الميتات كلها، ولقد مات “الاغبر” خالد نزال برصاصات “الموساد” في أثينا، تاركاً زوجته “ريما” تتذكره كل عام على رقعة صغيرة من جريدة “الايام”.
إنما ممدوح، المضمخ بغبار الأغوار، والجولان ولبنان، دخل التاريخ الوطني، العسكري والسياسي والادبي، وحوّل أعمق التجربة الى مشارف بدايات الوعي. شارك في صنع الحدث العسكري والسياسي، وشارك في تدوينه، واضاف لمكتبه التوثيق والذاكرة الفلسطينية زاداً عظيماً للمؤرخين.
بقيت على وجه ممدوح تلك الغلالة الغبراء، ثم تلك السحابة الملونة (ابتسامة جميلة)، ثم هطل السحاب غزيراً في ثلاثة – اربعة كتب عن ملحمة فلسطينية كان واحداً من المشاركين فيها، ثم واحداً من قادتها.. واخيراً واحداً من موثقيها العسكريين والسياسيين.
كان لي أن أكون واحداً من زمرة صحافيين عتاق، وزع عليهم ممدوح “بروفة” كتابه الاول، وفي كتابه الثاني عن معارك “مغدوشة” وشرقي صيدا 58-6891، غرقتُ في تفاصيل حرب جنوب لبنان، التي كنت أقرأها وأحررها في نيقوسيا، ثم اغرقتني في تفاصيل السياسة البرلمانية – الفصائلية في كتابه عن “ليلة انتخاب الرئيس”، او اليوم الطويل الذي سبق وعاصر وتلا “اعلان الاستقلال” دولة فلسطين 8891.. ثم كتب شهادته، ايضاً عن أسباب الطريق الذي قادنا الى أوسلو. قد يصبح الصخر غباراً.. والماء ندى وكلأ.
حياة مدوح ليست كحياتي تماماً، لكن تاريخ حياتي مشتبك تماماً مع تاريخ حياته. هو الى غبار المعارك (أخو الحرب أغبرا) وأنا إلى مداد الحبر.. ثم جعل غبار الحرب مداد حبر حفر في ذاكرتي وذاكرة الأحياء من “جيل غبار الطلع” الدرس الضروري لوعي التجربة.. والأمانة التامة والمسؤولية في نقل التجربة، لانه ذهب للبنان ليستأذن وليد جنبلاط نشر “أمور حساسة”، فقال له: “انشر”.
كيف لي ان استأذن رفيقة حياته “فيرا” نشر امور عن رائحة أقدام الفدائيين، بل عن “القمل” في ثيابهم المرقطة، حيث كانت أمي تأخذ ثيابهم كلها الى الماء في درجة الغليان. كم ابريق شاي كان علي أن اقدمها لأخي ورفاقه “المغبرين”؟
كانوا يقبلون ايديها وينادونها “يمّة” وكانت تُقبل رؤوسهم وتناديهم “يمّة”، وتملأ معداتهم “طبيخاً”.. وعندما سمعت مني في نيقوسيا عن سقوط خالد نزال، قالت: “يا حسرتي”. قلت: هل نتوقف؟ قالت: لا.. هذه طريق مشيناها ولازم نكفّيها!
“أخو الحرب أغبرا” كما قال الشاعر القديم، وكان ممدوح أخا حرب.. وكان حليف احلام سلام.. وكان شاهداً على ما صنع وما نصنع .. حرباً وسلماً وسياسة.
اعتاد ان يقبل يدي أمي بالشام.. واعتدت في رام الله ان اقبل يدي زوجته “فيرا”.. واعتاد جيل “غبار الطلع” ان يلملأ جهات الارض ببذور التجربة والوعي.
سلام لك ممدوح.. وسلام عليك. شدي حيلك “فيرا”!